دراسة في تجربة الشاعر العُماني هلال العامري

د. ضياء خضير | أكاديمي وناقد عراقي

هلال العامري من شعراء التفعيلة العمانيين القلائل الذين يمكن أن ينطبق عليهم رأي ( ت. س. إليوت) القائل:
“إن على من يريد أن يبقى شاعرا بعد الخامسة والعشرين من العمر أن يكتب وهو يحس حضور الشعر من هوميروس إلى أفضل شاعر معاصر، في جميع اللغات، حضورا ماثلا في دمه وفي نخاع العظم منه. “
ولكن بشرط أن نجري مناقلة نتخفّف فيها من بعض ما يفرضه السياق الأجنبي لهذا النص، فيكون امرؤ القيس الشاعر العربي الجاهلي مكان هوميروس اليوناني، مثلا ، وتكون اللغة العربية مكان ” جميع اللغات “، والشاعر العراقي بدر شاكر السيّاب مكان ” أفضل شاعر معاصر”، على ما يترتبه النص، وعلى سبيل المثال أيضا.
ونحن نأمل أن يكون هذا التحديد الأخير ذو الصبغة والروح العربية أقرب إلى صورة هذا الشاعر العماني الذي تجاوز الخامسة والعشرين أو سنّ المراهقة الشعرية، وتابع مشروعه الشعري دون توقّف منذ ما يزيد على عقدين من الزمان، وحاول ما وسعه أن يلمّ بتراث القصيدة العربية ماضيا وحاضرا، وأن يجعل إيقاع العمود الشعري القديم وصوره تسري في دمه وكل خلايا جسده، على الرغم من ميله الغالب لكتابة القصيدة (الجديدة) المتمثّلة بقصيدة التفعيلة. إذ أن هذه القصيدة الأخيرة قد بقيت ضاجة عنده بهذا الإيقاع، منطوية على بعده الموضوعي أو الموضوعاتي وقالبه الموسيقي المتصادي مع القصيدة التراثية على صعيد الصورة والوزن والقافية جميعا، بصرف النظر عن شكل الكتابة وطريقة النظم.
وقد يكون من الصعب على من ينظر إلى هلال العامري بعمامته العمانية المميّزة ولحيته الكثّة وسمته الوقور أن يتصور أنه نفس الشاعر الذي ينطوي على هذا القدر من المشاعر والأحاسيس القوية والروح المتمرّدة الضاجّة.
امّا اللغة فهي طبعا العربية التي لا تمثّل بالنسبة لشاعر مثل هلال العامري أداة التواصل والتعبير عن الذات فحسب، وإنما هي أيضا التراث والتاريخ والمشاعر القومية التي ” يقطف ” كلماتها من أعماق قلبه، ويبكي حينما يجري “اغتيال” حرف من حروفها.
وكون السياب الشاعر الذي نعتقد أن من الممكن أن يحل عند العامري محل أفضل شاعر معاصر في مقولة (اليوت) السابقة يتوضح ليس فقط في أن هذا الشاعر العراقي قد قدّم النموذج الشعري المعاصر الذي لم يستطع العامري، أو لم يرد، أن يمدّ ببصره إلى ما وراءه، وإنما أيضا لأنه السياب ) هو الشاعر الذي حوت قصيدته ما يشبه الخلاصة للتأثيرات الايجابية التي مارسها شعر وشعراء من أمم أخرى على الشعر العربي في مرحلته، ونقلها إلى عدد كبير من معاصريه ومن جاءوا بعده.
ولئن كانت تجربة السياب وزملائه من شعراء قصيدة التفعيلة قد بدأت في أواسط الخمسينات من القرن الماضي، فسبقت تجربة العامري بما يقرب من نصف قرن و فاقتها سعة وعمقا وقدرة على الاطلاع على تراث القصيدة العربية والعالمية المعاصرة ، فتلك واحدة من الحقائق التي يجب الاعتراف بها لدى أيّ تقويم نقدي موضوعي لشعر هذا الشاعر العماني، و شعر بعض زملائه من أصحاب قصيدة التفعيلة الذين ما زالوا يكتبون على طريقة السياب وغيره من رواد القصيدة (الحرّة).
ونحن نقول ذلك مع إيماننا بفرادة تجربة العامري على مستوى السلطنة وكونها بعيدة عن أن تكون مجرد نسخ أو ارتداد لفظي لتجربة أو تجارب سابقة الوجود للسياب أو غيره من الشعراء العراقيين والعرب . فنحن نتحدّث هنا عن التأثير والمقابسة بطابعهما العام الشامل الذي لا قبلَ للشاعر بتجنّبه ، ولا يكون عمله سلبيّا بالضرورة إن هو حاز على ما هو ضروري منه.
لقد دأب العامري،على طريقة شعراء التفعيلة، على اختيار البحور الصافية التي تتكرر تفعيلاتها دون تغيير مثل الكامل والمتقارب والمتدارك ( وهو أحيانا يمزج بينها ) دون الالتزام طبعا بعدد محدّد من هذه التفعيلات. فبناء القصيدة لديه يخضع لمقتضيات الفكرة والصورة على نحو لا يخلو من الاقتصاد بل التقشّف في اللغة، والدقّة في التناول رغم كل ما يرافق ذلك من استطرادات وامتدادات غنائية ملازمة. فهو يتأنّى في اختيار موضوعاته وصوره على نحو نحس معه بواقعية مشاعره وخيالاتة وجذرها الأرضي ورائحتها المحليّة. إنه يعنى ،مثلا، بالجفاف، وموت النخيل، وندرة المياه في بلاده، أو في بعض أجزائها، من دون أن تتحول قصيدته إلى موضوع في الزراعة أو الحفاظ على البيئة. فهو يصور كلّ ذلك على أنه عطش الروح وموت الفعاليّة الإنسانية في الوقت نفسه.
أي أنه يبقى في حدود الشعر ومنطقته على الرغم من الخطر الذي يتهدّد القصيدة من طبيعة اختيار الموضوع نفسه. وهو ما يثبت، مرة أخرى، أنه ليس هناك لدى الشاعر المتمكّن موضوع شعري ، وآخر غير شعري في حدّ ذاته ، وإنما هناك سياق وطريقة معينة للتناول. وهو ما يجبرنا الى العودة أحيانا إلى استذكار مقولة جدّنا الجاحظ الخالدة الخاصة بالمعاني المطروحة في الطريق دون الألفاظ وطريقة النظم .
ونحن نقول ذلك مع معرفتنا بمحدودية معجم هلال العامري الشعري من الموضوعات والمفردات. فما يهمّه بالدرجة الأولى هو تلك الموضوعات التي لها صلة حميمة بحياته وذكرياته واهتماماته الفكرية والسياسية. (موت أبيه وجدّه ، الجفاف الذي يهدد حياة النخيل في بلده ، الشعر الذي يعانده ويتأبّى عليه ، المرأة التي يحب ويهوى ولكنها تبقى نائية بعيدة عنه، الواقع السياسي العربي وما يحمله من خيبات وهزائم مؤلمة ). وحينما يخرج الشاعرمن هذه الموضوعات الأساسية التي ينطوي عليها ديوانه الأخير (رياح للمسافر بعد القصيدة) فإنه لا يكاد يرسم غير(صور) هي في الواقع بعض من خطوط وألوان لذكريات عائلية قديمة :
“على الحائط المتهادي
أرى صورا للشهامة
أرى سيّدا من وسامة
أرى وجه جدّي
أراه يسير
يسوق الخراف
يسوق القبائل للعابرين
ويرعى الرياح
وقنديل عائشة المرضعه
ينير له دربه الأوسعا “
فهذا الجدّ لا يكتفي في أن يجسّد في صورته الموضوعة على جدار هذه الذكريات (الشهامة) و(الوسامة) ويسوق الخراف كما يفعل الناس في قريته، وإنما هو (يسوق) أو يرعى (الرياح) معها. وهي رياح محمّلة بهموم تلك (القبائل)التي دأب على أن يسوقها أيضا في ذلك الدرب المضاء بقنديل (عائشة المرضعة) .
وهكذا فهذه اللوحة الشعرية تمزج بين المادي والمجرّد في إطارها الموحّد على نحو يصعب تحقيقه في غير الصورة الشعرية. أي أنها ليست مجموعة من صور فوتوغرافية مأخوذة بعين طائر يحلّق في أجواء زمنية بعيدة ، وإنما هي أيضا صور ذهنية ترينا في اللوحة ما لا يرى على سطحها الظاهر:
“وفي الباب بعض الثقوب
ثقوب على حبرنا
ثقوب على دمنا
ثقوب على دمنا التصاعد للفاجعه ..
ثقوب علاها الغبار
غبار الحضاره
غبار النظام الجديد
غبار القصائد
غبار النفوس التي أصبحت ضائعه ..”
فالثقب والغبار هنا مجازيان ، حتى إذا كان لهما وجود مادي متعيّن ؛ والقصيدة تدخل بذلك في هذا المقطع أو الطيّة الثانية من طيّاتها في أفق فكري وأخلاقي عام لا تحديد أو توقفا فيه عند حالة أو تفصيل معيّن من تفصيلات الصورة دون سواه . فالثقوب التي تطال كل شئ فتعبث به وتخرّبه، والغبار الذي يعلوها ويعلو الحضارة والنظام العالمي الجديد والنفوس التي أصبحت ضائعة ، لا ترتبط بغير النقص الموجود في حياتنا وبالضياع والفجيعة اللذين يختمان قافية المقطع الأول والثاني من مقاطع القصيدة.
أما المقطع الثالث والأخير ففيه عودة إلى استكمال الجانب الآخر من جوانب الصورة المرسومة في المقطع الأول. وفيه نرى صورة تلك السيدة التي (حناها الوقار) في لحظاتها الأخيرة ( تلملم أطراف غربتها ) قبل أن ترحل لتلتحق بالجد الذي رحل قبلها :
” وفي الليل سيدة قد حناها الوقار
تلملم أطراف غربتها
تفرش الليل كوكب
تنام
بقلب معّذّب
تكسّر وقتا عصيبا
وترحل ..
وترحل..
وترحل .. “

لقد رأينا موت الأب حاضرا في القصيدة الأولى من قصائد المجموعة ، وها نحن نلتقي بموت الجد والجدّة في هذه القصيدة التي شقّتها استطرادات الشاعر وتعليقاته إلى نصفين يكملان بعضهما ويتواصلان عبر صورة الموت الذي يمثّل مهيمنة رئيسية من المهيمنات المسيطرة في هذه المجموعة مع اختلاف في الأثر والدرجة بين هذه القصيدة وتلك ، وبين هذا المقطع وذاك داخل المجموعة أو داخل القصيدة نفسها.
فلئن كان موت الأب في القصيدة الأولى قد ترك الوجوه غريبة والأحلام فارغة في دنيا الصغار ، وأن له بعدا آخر يتجاوز الفجيعة العائلية الخاصة إلى (دنيا العروبة) كلّها ، وإلى (هذي القبائل التي يشتتها البعاد) ليكون رمزا من رموز الفحولة والإرادة التي توقفت مع الروح التي غادرت في يوم الشهادة :
“غادرتنا يا سيدى
والقلب تشعله الجراح
كل الوجوه غريبة
إلاّك في هذا الصباح
فتّشت عمن يغرس الأحلام في دنيا الصغار
ويؤلّق الرغبات في صدر النهار
فتّشت عن حب ولكنّ العروبة طاردتني مرتين
وصرت منفيّا إلى دنيا بعيده ”
أقول إذا كان موت الأب في هذه القصيدة يكتسب مثل هذه الصفة ويتخذ مثل هذا الطابع العام في تأثيره، فإن موت الجد والجدة في القصيدة الأخيرة لا يعدو كونه(خلفيّة) وصورة معلّقة في الذاكرة ، حتى إذا اكتسبت صورة الجد بعدا ذكوريا تمثّله الرجولة و(الشهامة) التي نفتقدها في صورة الجدة التي حناها الوقار فراحت تلملم أطراف غربتها بصمت قبل أن ترحل، مثلما هو حال الأنثى في بلادنا . كما أن الجفاف وموت النخيل يكتسب في المجموعة مثل هذه الصفة الرمزية ، بحيث يمكن القول إن ثمّة بنية إخفاق تطوّق المجموعة وتنتظم أكثر نصوصها وتصلها بهاجس موت معلن أو خفي يطال الأحياء والكائنات والنباتات واللغة ، وكل ما يرمز إلى الحياة. وكأن هناك قدرا غالبا تصطدم فيه إرادة الحياة ب(المكتوب) الذي لا يمكن ردّه وإيقاف جريانه :
” لن توقف ما يجري
لن توقف مكتوبا
في صفحات العمر المنسيّه
لن تقرأ أقدارك
في زمن يسحق فيه الإنسان “
ولعلّ صورة المرأة- الحبيبة هي الوحيدة التي لها في المجموعة شيء من القوّة والحياة لا يتوفران في سواها ، بحيث يبدو وجودها كما لو كان مقابلا ومعادلا للموت والجفاف في غيرها:
“يا امرأة في كل الأزمان
هزّي أرداف همومك هزّا
ودعيها تنساب بأرض النسيان “
فلهذه المرأة ، كما نرى ، أرداف خصبة من الهموم تهزّها لتقوم بوظيفتها الجنسيّة الأساسيّة أمام الرجل الفحل الذي لا يستطيع أن يبصر في الأنثى غير أنوثتها ، حتى وهو في مثل هذه الحال من القلق والضياع :
“ما عاد بمقدوري أن أسأل
اختلطت أوراق الكون وغامت
ما عاد بمقدوري
أن أبصر في الأنثى
غير أنوثتها
ما عاد بمقدوري أن أقرأ
حين يكون الليل ستارا للعصيان “
ولعل مما يخفّف من أسر هذه المفارقة بين الحياة كما توجد في هذه المرأة، والموت كما يوجد في سواها، أن الأمر لا يتعدّى في الحالة الأولى فكرة وإحساسا طاغيا بضرورة التعويض الذي لا يمكن أن يتوفر في شيء مثلما يتوفر في المرأة مركز الخصب ومنبع الحياة. أي أنه نداء وطلب وحلم بالتعويض ونوع من الإحساس القديم بالفقد أكثر من كونه تحقّقا وانجازا واقعيّا.
والواقع أن علاقة الشاعر بالمرأة كما تتبدّى في هذه المجموعة علاقة ملتبسة قلقة . وقصيدتاه المميّزتان (سيدة في الدائرة الشرقية) و ( آية للحب .. آية للحياة) دليلان على ذلك . ففي القصيدة الأولى التي تتألف من أربع حركات نواجه هذه المرأة التي لا نكاد نتبيّن حقيقتها بوصفها إنسانا من لحم ودم إلا ّبصعوبة ، مع أن لها حضورا كليّا طاغيا يختلط بالطبيعة بحرا ورياحا وضياء وليلا وفجرا، فلا يملك الشاعر المحب غير أن يتحول إزاءها إلى طفل لا يعرف طريقه ولكنه (يمتشق الرؤيا) بعد أن (أعيا راحلته الترحال) بحثا عن هذه المرأة اللغز:
” كانت تحمل حبّي وهجا في الأوصال
والليل محال أن يغمرنا .. الليل محال
وأنا أمتشق الرؤيا
كالأطفال
وطريقي لا أعرفها
راحلتي أعياها الترحال
لكنّي أسمع صوتا في الريح الرعناء
يكتب في قلبي ألف سؤال
يكتب موّال
من سيّدة في الدائرة الشرقيّه “
أما القصيدة الثانية ذات الحركات الأربع هي الأخرى ، فإن نغمة التحدي والشك تبدو منذ اللحظة الأولى تغلّف هذه العلاقة المتأرجحة بين الوجود والعدم ، الحياة والموت ، وذلك منذ المقطع أو الحركة الأولى من حركات القصيدة :
” تكونين أو لا تكونين .. ضرب من الغيب
سلسلة من غبار
وأحلام قافلة قد أناخت ركاب الكآبة فينا
ليعمرنا الصمت والخوف والانتظار”
في حين يتحول المقطع الأخير إلى نوع من الكلام العادي الذي ينطوي على تحدي وعناد مراهق، أكثر مما يحمله شعر محبّ حقيقي مثقل بتجربة ومعاناة خاصة :
” فلا تجزعي من محال ترامى بعيدا
لأني محب عنيد
تعوّدت منذ الطفولة
كيف أهرّب حبي إليك
وكيف أحاصر هذا الحصار “

هابطا بالنص، هكذا، نحو أفق دلالي بسيط ليس فيه إيحاء الشعر ولا نبضه وتركيبه الذي يصنع القصيدة الجيّدة، سواء أكان الأمر متعلّقا بموضوع العلاقة مع هذه المرأة أم بسواها. وهو ما يحمل على تأكيد الظن بأن جانبا من هذا الحضور المكثّف للمرأة في شعر هلال العامري يكتسب صفة تعويضية ملحقة تمثّل فيها المرأة طوق نجاة حقيقي ووهمي يطلبه الشاعر ويتغنّى بمزاياه ويفتقده ، حتى مع حضوره ووجوده قريبا منه.
وكما هو الشأن في القصيدة العربية القديمة ، تبدو المرأة في قصيدة العامري تعلّة وسببا للوصول إلى حاجة أو غرض، أكثر من كونها حاجة حقيقية أو غرضا، هذا إذا كان ثمة حاجة حقيقيّة أو غرض محدّد أصلا. وكأن فراغا انطولوجيا أوليّا يطوّق قصيدة العامري ويجعل تعبيره عن غرضه فيها محاطا بنوع من النقص الذي يجعل اللغة عاجزة ، على نحو يشعر معه القارئ أحيانا أن الشاعر قد أخطأ الطريق إلى هدفه، ولم يحسن اختيار موضوعه ، بصرف النظر عن طبيعة هذا الموضوع والطريقة المقترحة لمعالجته .
وهكذا نجد أنفسنا إزاء هذه الحال التي لا يعرف معها الشاعر ما يقول، مع أنه قادر على القول ؛ وإزاء ضغط الحاجة إلى القول ، ربما وجد الشاعر نفسه يدقّ على أبواب مفتوحة، أي إعادة قول ما سبق قوله بأشكال وطرق مختلفة. ولعلّ إلحاحه على موضوع علاقته مع (الحرف) و(القصيدة) و(الشعر) أن يعبّر عن هذا الواقع الذي تبدو فيه صعوبة الحياة في الواقع العربي الراهن صعوبة مضاعفة في التعبير بحريّة وكفاءة عن هذا الواقع.
والقصائد الثلاث التي حواها ديوان العامري الأخير (حرفي يغتال علانية .. حرفي يغتال) و (رياح للمسافر بعد القصيدة) و(للشعر أهتف: يا أيها الشعر) تكشف عن هذه الصورة التي تتحوّل فيها الأزمة القائمة في الواقع العربي كما يراها الشاعر ويتصوّرها إلى أزمة شخصية تنعكس في الكتابة الشعرية :
“حرفي يتوجّع .. يتوجّع .. يتوجّع
وسطور الشعر تعيش عذابا دمويّا
وأنا أقطف من قلبي
كلماتي
“حرفي يغتال علانية
حرفي يغتال
وأنا زلزال
أعبر نهر الظلمات
أتفجّر في الأرض الحبلى
وأغنّي للرعد الآتي “
( من قصيدة حرفي يغتال علانية ..)
” وللشعر أهتف: يا أيّها الشعر
يا منتهى نبضات التمرّد
يا قمر العتمة الحالكه…
تمثّل سويّا وأوقف بيض التشابه فينا
عيون القريض التي
جوّفتها السنون
فعادت ترابا
لأمّتنا الهالكه…”
(من قصيدة وللشعر أهتف: يا أيها الشعر)
” إليّ ببعض من الصمت
إن الكلام يثير السؤال وراء السؤال
ويلج قائله في دهاليز قعر الزنازين
يدخله في فيافي العذاب
إلي ببعض من الشعر كي أستفيق
أوزّع خبزا وخمرا
بهذي المدائن
وأرسم فجرا
بأرض المفاتن
وأركب أشرعة الانتشاء
وأرفع كل البيارق
فوق ضفاف اليقين “
(من قصيدة رياح المسافر بعد القصيدة..)

وهذه النماذج الشعرية وغيرها مما ينتشر في الديوان، لا تكشف فقط عن خواء الواقع وعجز اللغة ، وإنما أيضا عن عجز الشاعر في إقامة حوار بينهما من شأنه أن يعمّق الصورة المرآوية القائمة بين الكلمة والشيء، الدال والمدلول، ويعكس ما بينهما من توتر وقلق، على نحو لا تكتفي فيه هذه الكلمة بالوصف أو التفجّع والتوجّع مما آل إليه الحال، بل تعميق المعنى والفهم في مواجهة شتى أسباب الاستلاب والنفي وأنواع الزيف الذي تتعرض له الذات الإنسانيّة.
وثمّة فرق ،كما نعرف، بين اللغة الشعرية كتمثيل وبين اللغة كتعبير أو فعل لذات إنسانيّة مستقلّة وليست محاكية أو تابعة. والشاعر الذي يعبّر في شعره عن الإرهاق والتعب أكثر مما يعبّرعن الإلهام والقدرة على الخلق واستخدام الكلمة بطريقة مخصوصة، لا يستطيع أن يتجاوز الصورة الغنائية والرومانسية الحالمة المعروفة للقصيدة التي درج كثير من الشعراء العرب على كتابتها منذ الخمسينات من القرن الماضي في قالب القصيدة (الحرّة) وفي سواه.
والميل الواضح لدى العامري إلى رفض الواقع والثورة عليه ، لا يمكن أن يتمّ بغير احتواء هذا الواقع ومحاورته بفيض من غنائية القلب والروح التي يستطيع الشاعر وحده أن يهتدي إليها بطريقته الخاصة ، ويشقّ الطريق نحو مغاليقها الشعرية الصعبة ، متجنّبا الحال التي يلجأ إليها كثير من الشعراء قبل سنّ الخامسة والعشرين وبعدها في فبركة التجارب الروحية والفكرية وتزييف الانفعالات و افتعال العواطف وحشد الكلمات التي يمكن أن تثير الالتباسات والأوهام ، أكثر من ملامستها للحقائق الجوهرية حول الذات والتعبير عن الوضع البشري الذي نذر العامري ، بوصفه شاعرا ، نفسه للكتابة عنه.

^^^

اليوم : 06/02/2022 – انتقل إلى رحمة ربه الشاعر العماني الشيخ هلال العامري عن عمر ناهز السبعين 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى