في البدءِ كنتِ أنتِ

د. عاطف الدرابسة | الأردن
قلتُ لها :
أنا اللُّغةُ الخارجةُ عن الطَّريق
وأنا التَّأويلُ
أنا الصُّورةُ الهاربةُ من اللاوعي إلى المستحيل
وأنتِ الجنينُ الذي يُقيمُ في أحشاءِ لغتي
كحبَّةِ القمحِ
في سنابلِ السِّنينِ العِجاف
أنا الشُّعلةُ التي انطفأت قبلَ أوَّلِ ثورةٍ
حين خرجت من قبرِ الحضارةِ
أوَّلُ طلقة ..
أنا الصَّرخةُ التي أيقظت النَّومَ الآبدَ
في العقولِ
وأنتِ اللَّحظةُ التي أطلقت سراحَ الزَّمن
من جحيمِ القضبان ..
أنا كلُّ المآسي
وأنا كلُّ الأحزانِ
وأنا صدى السُّؤالِ
في جوفِ الذِّكريات ..
أنتِ اللُّغةُ المنثورةُ في المدنِ المكلومةِ
وأنتِ بالنَّثرِ الوجهُ الآخرُ للحضارةِ
وأنتِ بالشِّعرِ قلقُ المُعَاصَرةِ
حين تغفو على سريرِ التَّاريخِ
الأصالة ..
أنا الكتابُ
وأنتِ البدءُ
حين كان البدءُ كلمة
أنتِ تلكَ الكلمةُ التي لا تموتُ
لو أطلقوا عليها ألفَ رصاصة ..
كم قلتُ لكِ يا حبيبةُ :
لا تخافي من الوجهِ القبيحِ للحضارة
قد يهدمونَ المدنَ
ويحرقونَ الأشجارَ
ويقطعونَ الطُّرقَ
ويسمُلونَ عيونَ الأطفالِ
ويغتصبونَ الأصائل
والحرائرَ
والعذارى
ويستبيحونَ كلَّ المُحرَّماتِ
ويجتاحونَ أحياءَ المدينة
غير أنَّهم لا يستطيعون مهما حاولوا
اغتصابَ كلمةٍ هي أنتِ ..
فالكلماتُ كالبصماتِ لا تتشابهُ
كالأنهارِ تُجدِّدُ كلَّ يومٍ ثيابَها
كالنَّارِ تحرِقُ
كالشَّمسِ تلفحُ
كالمطرِ النَّاعمِ تُحيي
كالصَّواعقِ تُميتُ
غير أنَّكِ وحدَكِ سيَّدةُ الكلماتِ
كلَّما حاولوا أن يُطفِئوا نارَها
عادت مثلَ طائرِ الفينيقِ
تُشعِلُ أعظمَ الثَّوراتِ
ببُرعمِ شرارة ..
هامش : 
ألم أقل لكِ لحظةَ همسٍ : محالٌ أن تحِلَّ كلمةُ محلَّ كلمةٍ ، فأنتِ مذ كانَ الكونُ ، كنتِ البدءُ، والبدءُ يا حبيبةُ كلمة .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى