قراءة في ديوان «رباعيَّة لاجئة في وطن الحداد» لـ«سلمى جبران»

بقلم: صباح بشير


يظن البعض أن الأساس في هذه الحياة هو الفرح والبهجة، وأن الشعور بالألم والبؤس ما هو إلا إحساس متسلل متطفل على الإنسان، يعكر صفو أيامه ثم لا يلبث أن ينقضي ويزول، فكثيراً ما تكون الحياة مزيجاً من الابتسامات، الدموع والحزن، الذي يعتبر ظاهرة واضحة في الأدب العربي، قديمةٌ قدم الإبداع به، مع الفرق بين المعاناة من الحزن وتجسيده كفلسفة في الأدب.
الشاعرة الفلسطينية سلمى جبران، عبّرت في ديوانها الشعري “رباعيَّة لاجئة في وطن الحداد” عن صرختها التي تنبثق من عمق الحب، الألم والحزن، والإحساس باليأس، الفقد والشعور بالوحدة. يتكون هذا الديوان من أربعة أجزاء كل جزء منه في كتاب منفصل يشكل فصلا من سيرة الشّاعرة الذاتية الشّعرية، وعناوين هذه الأجزاء هي: “دائرة الفقدان” “الحلم خارج الدائرة” “متاهة الحبّ” “حوار مع الذّات”، جميعها صدرت عن “دار نينوى للدّراسات والنّشر والتّوزيع” في دمشق.
عن هذه الرباعية تقول الشاعرة جبران: انتَظرَت رباعيّتي في الدرج بين ( 18 إلى 20 عاما ) إلى أن زارتني صديقة بالصدفة، فقامت بإقناعي أنَّ هذا الشعر لا ينبغي أن يظل حبيس الأدراج، وأن علي نشره.
كتبُت جبران عن خلجاتِ قلبها ووصفت نبضات جرحها وما ألمَّ بها من ألم ووجع بعد فقدانها لزوجها، حكت لنا عن معاناتها كامرأة أرملة وأم، وتنوعت مواضيعها فطرحت ما جال في نفسها عن الحبّ، الفقدان والشوق، الظلم الاجتماعي الواقع على المرأة، وكذلك اضطهاد المرأة للمرأة، والحياة في ظل واقع العقليَّة القبليَّة الذكورية.
تميّز شعرُها بعذوبته ورقته، بدفئه وصدقه، هو نابض بمعاني الحريَّة والمفاهيم الإنسانيَّة، مُشبّعٌ بجمال خيالها الخصب وصورها الشعرية المدهشة، وتعابيرها البلاغيَّة المبتكرة، لجماله موسيقى خاصة تطربُ الروح وتنعش القلبَ والوجدان.
حضرت نفَحات الحزن الدافئة بين السطور بكثافة. تقول الشاعرة:
وأنوح أبكي ساعة
وتذيب جسمي لوعة الحسرات
فأعود للنبع المقدس
أنهل الأسفار والآيات
فيضج في صدري نشيدي
يغرق الكلمات في كلماتي
فيعيد في روحي الحياة.
يسكن الإيقاع سلمى جبران، تمزجه بين الفكر والعاطفة، تقول عن أمومتها في قصيدتها “قلبٌ يتيم”:
أحس دمعة
تموت كل يوم
في مآقيَّ وفي حنجرتي
تخنقها محبتي
لطفلي اليتيم
وتمحي آثارها
بلمسة الأنامل الصغيرة
ولم يزل لهيبها
يهب في جوارحي
ويحرق الحياة في
القلب اليتيم
يهجره النور فينطفئ
لكن نور حبي
لا يزول
بل يبعث الحياة
في أمومتي
نستشفُّ من هذا الديوان عمق تجربتها الشعرية الإبداعية، خصوبتها وعمق أبعادها الإنسانيَّة، سلاسة أسلوبها وسحره، فقد عبَّرتُ بقصائدها عن خوالج نفسها لتتمكن من العودة سالمة إلى دائرةِ الحياةِ بعد المرور بتجربة مؤلمة، فحضرت إلينا سطورها كمقطوعات موسيقية بلغة سلسة واضحة بسيطة، لم تختبئ جبران خلف الرموز، وآثَرَت البوح الحزين والوفاء لحبيبٍ ترجل راحلا، تُحدّت واقع المرأة الصعب بمدلولٍ تلوّن وتشكل بألفاظه وصوره، ونمَّقَت شعرها بجودة وزاوجت بين التّميز اللغويّ وواقعيّة المضمون، فما عايشته روحها من تجارب قادها للابتعاد عن الطريقة التقليدية للقصيدة، وبثراء لغويّ وألفاظ بسيطة مستقاة من روحِ البيئة والمحيط، حاورت الإنسان وناجت السّماء. وفي الحب كان لها فلسفة خاصة، فقد كان العنصر الأكثر طغيانا في قصائدها. تقول الشاعرة في قصيدة “الحب نور”:
عشقت في الإنسان
حبا يرتوي
بمتعة العطاء
عشقت فيه حبا
خالصا لا يعرف
الزيف والرياء
تذوب فيه النفس
والأحقاد تنطفئ
وتهدر الأهواء
اعتمدت الشاعرة على بعض الرّموز والإيحاءات في قصائدها، وهذا ما ظهر واضحا جليا، دالاً على ثقافتها الواسعة ورهافة حسّها، فدّواوين أربعة تُنتَجُ على مرِّ السّنين، تبوح لنا من خلالها عن فلسفتها الخاصة في الحياة وأحلامها الإنسانيّة، هذا يعني أنها تتعمّق في قصائدها ومعانيها حدّ التأمل والقداسة، وأنها تُعيد بناء نفسها كل يوم، وتتقدم معتمدة على قوتها الروحية، إيمانها بنفسها شخصيتها، فكرها ثقافتها وقصيدتها.
ويبدو أن شاعرتنا تملكها الإحساس بأنها تمادت في حزنها، فختمت ديوانها بقصيدة “اللاوعي: حيث قالت:
تماديت حزنا
شعرت بأني
أعاقر في مقلتيك
خمورا تخدر روحي
وتسلب من ساعديَّ قواي
فحطمت وعيي لأدخل
في مدى غيبوبتي
وتهيج في صدري مُناي
وتروح تعبثُ مقلتاك
بخافقي فأذوب
لا أدري إذا جنَّ
الهوى في داخلي
أم أن لا- وعيي
في لحظة
مرت عصورٌ
غيبت أمواجها
وهج الدماغ
حسبتُ أن
الكون يرفضُ
أيّ عاشقةٍ سوايَ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى