أدب

مريم هرموش حولت العمل الرّوائيّ الى فلسفة تُعاش

زينب عبد الباقي | بيروت

حين  بدأت قراءة ” ذلك الغريب”، كنت أظنّ أنّني أمام عمل روائيّ يتتبّع خيوط أحداث جرت مع شخصيّة رئيسة بتشعبّاتها وما يتفرّع عنها.

دخلت الصّفحات قفزًا فأنا على عجل، أرغب باستجلاء ما بين يديّ والتعرّف إليه بأسرع ما يكون؛ ولكنّي سرعان ما وجدتُ بين السّطور ما استوقفني: تأمّلات بثّتها الكاتبة ببراعة، تمرّ كومضة برق خاطفة لكنّها لا تبارح الخيال، فيها ما يشبهني. وهذا ما كنت أخشاه. لقد وقعت في الفخّ! استمالتني هذه الشّذرات وحوّلتني من قارئة تعبّ الكلمات عبًّا إلى متذوّقة ترتشف الحروف ارتشافًا وكأنّ العمل الذي بين يديّ هو قصيدة لشاعر وليس رواية لأديب. وهكذا استطاعت مريم هرموش بإبداعها أن تفرض عليّ إيقاع القراءة فبقيت روايتها بين يديّ أسبوعين وأنا المعتادة على إنّهاء قراءة الروايات في جلستين.
دخلت صفحاتها على مهل وأنا أبحث عن توصيف لما أقرأ فوجدتني أمام باقة من ” السّير الذّاتيّة” لأشخاص جمع بينهم القدر فمدّ روابط “قسريّة” بين عوالمهم، نجحت حينًا وأخفقت أحيانًا.


بطلة الرّواية أريج رسّامة تسبح في بحر التفاصيل، تمزج الألوان كما تمتزج روحها مع الأثير، تجعل من اللوحة رسول بوح تحمّله أحلامها وأمانيها. هذه الفتاة الشّفافة قالت “نعم” لرجل عرض عليها الزّواج فاغترت بمظهره الخارجيّ لقلّة تجربتها. ودفعت حياتها على أقساط مستمرّة ثمنًا لتلك الكلمة، حتى سقطت صريعة أمام المهدّئات.
وفي خضم صراعها النّفسيّ بزغ في سماء حياتها نجم اهتدت بموقعه الى أسرار نفسها فلجأت روحها إليه واستقت من مشاعره ما أيقظ في داخلها الأنثى التي تستحقّ أن تعيش بعدما عاشت روحها الشّفافة سجينة لوحش أنانيّ قاسٍ مستغلّ لا يعرف رأفة ولا رحمة، وحش يكرهه الجميع .. حتى الكلب دولتشي .


جمعت الحياة الزوجّية بين أريج ومدحت فكانت مشتركة ظاهريًا، متنافرة كل التّنافر داخليًّا، تحمل في أحشائها عالمين متناقضين كليًّا فباتا تجسيدًا حيًّا لما أورده المتنبّي حين قال:
ومن نكد الدّنيا على الحر أن يرى / عدوًّا له ما من صداقته بدّ .
شيئًا فشيئًا تطلّ علينا الشّخصيّات لتروي الأحداث على لسانها بما لا يترك في القلوب شكًّا لقارئ وكأنّ مريم أرادت أن تتخلّص من فكرة الحكم عليها فارتكنت إلى مبدأ:” من فمك أدينك” .. ولتنطق الشّخصيّات بما لديها كما ترغب أو أرادت أن تترك الأدلّة والحيثيّات أمام أعين الجميع ليلعب من يشاء دور القاضي. وربّما أرادت من هذا كلّه أن تجعل مما كتبته جسرًا يصل بين شبيهات أريج وأشباه مدحت لتتّضح صور الكثير من القصص التي ماتت أسرارها بموت أصحابها .
ولعلّ أكثر ما لفتني في “ذلك الغريب” هو الفصل الذي عثر فيه مدحت على مذكرات أريج حيث رأيت المشاعر تتضافر بين نقمة أريج وغضبها المكبوت وجرأتها في العرض وبين مدحت الذي شعرت للمرّة الأولى أنّه رجل من لحم ودم يحسّ ويتفاعل ويشعر بالغيرة ويضيع أمام طيف امرأة كان يعتبرها “تحصيلًا حاصلًا” وإذ به يرى لها وجهًا آخر هزّ العرش الذي بناه لنفسه واكتشف انّ في داخله القليل من ملامح البشر إلى درجة أوصلته إلى “التقرّب” من كلب في الشّارع ونسف قوانينه كلّها من أجل أن يحظى برفقته .
وفي الوقت نفسه كانت أريج قد ثقبت الشّرنقة وحضّرت جناحيها للانطلاق فتلوّنت الفراشة وطارت لتحطّ في العالم الورديّ الذي يستحقّها .
وعند هذا الحدث أرى مريم في أبهى تجلياتها، تتناول جدليّة الموت والحياة فترينا أريج: التي اختارت الموت لسنوات إلى أن قررت الانبعاث من جديد ونجحت ، و مدحت الذي عاش ميتًا ولن يحيا إلا في عالم الوحشة والكآبة وستظلّ أفعاله هي الأشباح التي تسيطر على كل ما حوله حتى يندفع شريدًا على دروب الحياة لا رفيق له الا الكلب الذي لم يجد من يأويه .. و.. ” الغريب” رمز الخلود الذي ظل حيّاً يمنح الحياة .. ولو بعد حين.
وبهذه الجدلية تكون مريم قد وصلت في روايتها الى الهدف المنشود وتربّعت على عرش روايتها سيدة حوّلت العمل الرّوائيّ الى فلسفة تُعاش فغدت روائيّة يُشار لها بالبنان وتستحقّ كل ما قيل ويُقال عن روايتها الممزوجة بالفكر والروح وبراعة الحبكةوالخيال.
وفي الختام، أقرّ أنّي أمام روائيّة يشهد لها الحرف بأنّها تحوّل النّصّ إلى لوحة مرسومة بدقّة وحبّ واحترام للقارئ المتابع الذي يبحث عمّا يرضي القلب والعقل والرّوح.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى