أبجديتي

عبدالله علي أبو طالب عليوة| مصر
أبجديتي: رحلة من الألف إلى الياء
أ
أرعبني العمر وهو يتسرب من بين أصابعي، لكني أقنعت نفسي أن الأرقام لا تعني شيئًا… فالخسارات وحدها هي التي تحصي الأيام. أرى وجوهًا عشت معها تختفي، وذكريات تذبل كأوراق الخريف، ومع ذلك أمضي وكأن شيئًا لم يكن. أتعجب: هل نحن حقًا من نصنع العمر، أم أن العمر هو الذي يصنعنا ويتركنا في نهايته كأطلال؟
ب
بكيتُ طويلًا في ليالٍ لم يرني فيها أحد، وتعلمت أن الدموع لا تغيّر شيئًا سوى أنها تخفف حملًا ثقيلًا في القلب. بقيت أضحك أمام الناس كي أُقنعهم أنني بخير، بينما في داخلي جرح يزداد عمقًا كلما تجاهلته. بيني وبين نفسي أعلم أن الإنسان يذوب من الداخل قبل أن ينهار ظاهره.
ت
تعبت من الطريق المكرر، من الأيام التي لا تحمل جديدًا، من الشروق الذي يأتي وكأنه نسخة بالية من شروق الأمس. تساءلت كثيرًا: أهذا هو معنى الحياة؟ أن ندور في دوائر مفرغة حتى نُستهلك؟ تركض أقدامنا بينما قلوبنا واقفة في مكانها، كأن الزمن يسخر منا ويعيدنا دائمًا إلى البداية.
ث
ثبتُّ في وجه العواصف، لا لأنني بطل، بل لأنني لم أملك خيارًا آخر. ثقلت أكتافي بأحمال لا تُحتمل، ومع ذلك مشيت، حتى صارت الخطوات نفسها فعل مقاومة. ثمن الصمود كان أن أفقد بعضًا من نفسي في كل معركة، ومع ذلك بقيت أتمسك بما تبقى، كمن يتمسك بخشبة نجاة وسط بحر لا يهدأ.
ج
جلستُ يومًا أراجع حياتي، أحصي ما فقدته وما تبقى لي. جدّدت يقيني أن الخسارات أكثر من المكاسب، لكن الغريب أنني ما زلت قائمًا رغم ذلك. جلّ ما فهمته أن الإنسان ليس بما يملك، بل بقدرته على أن ينهض بعد كل سقوط، حتى لو كان النهوض هشًّا ومتعبًا.
ح
حاولتُ أن أجد معنى لما أمرُّ به، لكنني وجدت أن المعاني تختبئ أحيانًا خلف الألم. حملت همومي كأنها قدري الذي لا فكاك منه، ومع ذلك كنت أبحث بين طياتها عن بارقة نور صغيرة. حياتي لم تكن سهلة، لكنها علّمتني أن الجراح ليست نهايات، بل بدايات أخرى بألوان مختلفة، حتى وإن كانت قاتمة.
خ
خرجتُ من ماضيّ مثقلاً، كأنني أحمل مدينة كاملة على ظهري. خُيِّل إليّ أن الناس لا يرون هذا الحمل، وأن ابتسامتي كافية لتخفيه. خير ما فعلته أني لم أتوقف، لأن التوقف كان يعني أن أثقلني الظلام تمامًا. خلُصتُ إلى أن النجاة ليست في التخلص من العبء، بل في التعايش معه حتى يتقبلك كما تتقبّله.
د
دفنتُ أسراري في أعماقي حتى صارت جزءًا مني، كأنها عظامٌ مدفونة لا يراها أحد، لكنها تحمل جسدي كله. دعوتُ الله كثيرًا أن يخفف عنّي، أن يمنحني قوةً لا أملكها، فصار الدعاء عزاءً حين لا يتحقق ما أرجوه؛ دلّني قلبي أن الصبر ليس أن تنتظر الفرج فحسب، بل أن تحيا وأنت مكسورٌ من دون أن تنكسر كليًا.ومع مرور الأيام طفت على السطح فكرةٌ واحدةٍ قاطعة: دنوُّ الأجل… هل أنا مستعد له؟ هل أعددتُ زادي أم أظل تائهاً في هذا الزحام من الندم والآمال المعلّقة؟
ذ
ذكرتُ وجوهًا أحببتها، لم يبقَ منها سوى صور بالية وذكريات تتناثر كالغبار. ذُهلتُ كيف يمكن للقلب أن يحتفظ بملامحهم رغم مرور السنين، وكأن الفقد لا يَعرِف النسيان. ذقت مرارة الغياب في كل يوم، ومع ذلك كنتُ أبتسم حين أتخيل أنهم في مكانٍ أفضل، حيث لا ألم ولا فراق.
ر
رأيتُ الطريق ممتدًا بلا نهاية، كأنني أركض في سباق لا فوز فيه. راودني اليأس مراتٍ كثيرة، لكن داخلي كان يهمس أنني لا زلت حيًا، وهذا وحده سبب كافٍ للاستمرار. ربّما لم أنل ما حلمت به، لكنني تعلمت أن العيش نفسه مقاومة، وأن كل نفسٍ يخرج هو إعلان هزيمة مؤقتة للحزن.
ز
زوجةٌ ظننتُها يومًا ملاذًا عابرًا، سكنٌ أرتاح إليه بين سفرٍ ومأوى، ومع مرور الأيام اكتشفت أنها كانت موطني وركن بيتٍ لا يقوم بدونه. زال حديثي عن الرحيل حينما غدت حضورها دفتري الذي أكتب فيه أيامي؛ فإذا غابت، تاهت سفينتي بين برٍّ لا أعرف له اسمًا وشاطئٍ لا أرسو إليه. زيّنها الله في قلبي نعمة لا تُعوّض، وعلّمتني أن البيت ليس جدرانًا بل هي.
س
سرتُ في دروبٍ طويلة، لا أعرف إن كنت أسعى نحو شيء أم أهرب من شيء. سرقت الحياة مني لحظاتٍ أحببتها، وتركت لي فراغًا يتسع مع كل عام. سعيتُ أن أملأه بالكلمات والوجوه والذكريات، لكنني أدركت في النهاية أن الفراغ هو ظلّنا الذي لا يغادرنا.
ش
شاهدتُ أعوامي وهي تتساقط مثل أوراق الخريف، لا أحد يلتقطها، ولا أحد يشعر بخسارتها سواي. شربتُ من كأس الخيبة مراتٍ كثيرة حتى صرت أُميّز طعمها عن غيرها من المرارات. شردتُ طويلًا في فكرة أن الإنسان لا يُقاس بما كسبه، بل بما خسره وبقي قادرًا على أن يبتسم رغم ذلك.
ص
صحراء… امتداد البصر حتى حدود السماء، منذ أن انتقل عملي إليها وأنا أجد في سكونها ما يدفعني إلى الكتابة، ولا أعلم لماذا. أهي قسوتها التي تُذكّرني بقسوة الأيام؟ أم فراغها الذي يعكس فراغ القلب حين يرهقه التعب؟ لعلها تذكّرني بالنهايات، ففي رمالها سندفن يومًا، وتغطي أجسادنا كما تغطي الرياح أثر المارة. كأنها تقول لي في صمتها: كل الطرق تنتهي هنا… في صحراء النسيان.
ض
ضحكتُ أحيانًا كي أخفي حقيقة أنني على وشك الانكسار. ضيّعتُ فرصًا كثيرة لأنني كنت أخشى أن أُجرّب فأخسر، فآثرت الصمت والانتظار. ضاعت سنين وأنا أحسب أن الغد سيأتي محمّلًا بالخير، ثم فهمت أن الغد نسخة أخرى من اليوم، ما لم أواجهه بقلبي لا بانتظاري.
ط
طاردتُ سراب الراحة كأنني أركض خلف ظلّي، كلما اقتربتُ منه ابتعد أكثر. طُعنتُ بخيباتٍ كثيرة، لكنها لم تقتلني، بل جعلتني أعرف أن القلب أقوى مما نتصور. طويتُ صفحاتٍ مؤلمة من حياتي، لكن أثرها ظل محفورًا في داخلي، يذكّرني أن الضعف هو أول الطريق نحو القوة.
ظ
ظننتُ أنني سأجد السعادة في عيون الآخرين، فإذا بي أُخذل مرة بعد مرة. ظللت أفتش عن المعنى خارج نفسي، في وجوهٍ ووعودٍ وأيامٍ عابرة، حتى أدركت أن الطريق كله كان يقودني إلى الداخل. ظلام القلب حين يُهمل نفسه أشد من ظلام الليل، لكن لحظة الإنصات لنفسي كشفت لي أن المعنى الحقيقي ليس في أن أملك كل شيء، بل في أن أكون راضيًا بما أنا عليه وأمضي.
ع
عبدالله… هو الاسم الذي حملته منذ ولادتي، وهو ما يناديني به الناس كل يوم. كثيرًا ما سألت نفسي: هل سيبقى اسمي مجرد حروف تتردد، أم سيكون له معنى حين أقف بين يدي الله؟ حلمت أن أكون عبدًا لله حقًا، لا بالاسم وحده، بل بالفعل والقلب والعمل. تمنيت أن يكون في نصيبي من اسمي ما يشفع لي، فإذا ناداني ربي يوم اللقاء العظيم، وجدت أنني حملت من الاسم صدقه، ومن المعنى جوهره.
غ
غفرتُ لكثيرين أخطأوا بحقي، لا لأنهم يستحقون الغفران، بل لأن قلبي لم يحتمل ثِقل الكراهية. غابت عني أحلامٌ كثيرة كنت أظنها قدري، ثم اكتشفت أنني ما زلت قادرًا على أن أخلق لنفسي طريقًا آخر. غمرتني العزلة في أوقات كثيرة، لكنها علّمتني أن الصمت وطن لا يخون.
ف
فقدتُ أشياء ثمينة لم تعد أبدًا، لكنني اكتشفت أن الإنسان يستطيع أن يعيش ناقصًا أكثر مما يظن. فاضت جراحي حتى حسبت أنها ستغمرني، لكنها تحوّلت مع الزمن إلى ندوبٍ تروي قصتي. فهمتُ أخيرًا أن ما يكسِرنا قد يكون هو ذاته ما يمنحنا شكلنا الحقيقي.
ق
قاسيتُ ليالي طويلة شعرت فيها أنني وحدي في هذا الكون، لا يسمع أنيني أحد. قنعتُ أحيانًا بالقليل، لا لأنه يكفيني، بل لأنني تعبت من المطالبة بما لا يُمنح. قلتُ لنفسي: لعلّ الله يخبئ في الصبر ما لا يراه بصري الآن.
ك
كتبتُ على جدران قلبي أسماء من أحببت، فإذا بالزمن يمرّ كريحٍ عاتية تمحو الحروف وتترك الشقوق. كلما حاولت أن أنسى، عاد الاسم كالنقش على الصخر يزداد وضوحًا بدل أن يبهت. كم من مرةٍ قلت إنني تجاوزت، فإذا بي أكتشف أن الحب لا يغادرنا، بل يتحوّل إلى ظلٍّ طويلٍ يرافقنا حتى آخر العمر، لا يرحل إلا برحيلنا.
ل
لازمتني الخسارات كما يلازم الظل صاحبه، تُسقطني أحيانًا وتنهض معي أحيانًا أخرى. لشدّ ما أدهشني أنني بعد كل سقوط كنت أكتشف بقايا قوةٍ لم أعرفها من قبل، كأن الهزيمة تتركني أكثر صلابة لا أكثر ضعفًا. لقد تعلّمت أن ما نظنه نهايةً ليس سوى بابٍ آخر للحياة، وأن النهوض بعد الانكسار أعظم من النصر نفسه.
م
مرّت الأعوام سريعة، كأنها لحظة لم تكتمل. مررتُ فيها بأفراحٍ قليلة وأحزانٍ كثيرة، لكنني أدركت أن الحزن أعمق معلم للإنسان. مع كل خسارة كنت أكتشف جزءًا جديدًا من نفسي، حتى صرت أعرف أنني لستُ ما أملكه، بل ما صبرتُ عليه.
ن
نهر النيل… لون مائه، صوته، جريانه، الزروع الخضراء على ضفتيه، والسماء الصافية التي تعكس صفاءه، وقارب صغير يمشي في تلك اللوحة كأنما وُجد ليُكملها. كان النيل يومًا مصدر إلهامي، كلما جلست على ضفافه شعرت أنني أكتب من روحه، أنني أنهل من مداده الذي لا ينفد. لا أدري ماذا حدث لي الآن… أهي تغيرات العمر أم تقلّبات الزمن؟ صرتُ أمرّ بجانبه فلا أسمع موسيقاه كما كنت، كأن شيئًا انطفأ في داخلي قبل أن ينطفئ في النهر.
هـ
هربتُ كثيرًا من مواجهة نفسي، حتى أدركت أني أحملها أينما ذهبت. همستُ لها في آخر المطاف: لا جدوى من الركض، فلن ننجو إلا إذا تصالحنا. هنالك فقط، بدأ قلبي يعرف طمأنينة لم يعرفها من قبل.
و
وقفتُ أمام المرآة ولم أعرف الرجل الذي يحدّق بي؛ ملامحه متعبة، عينيه مثقلتان بالخذلان، لكن في أعماقه جمرٌ لم ينطفئ. وجدت فيه غريبًا يشبهني ولا يشبهني، نصفه عاش كما أراد الناس، ونصفه ما زال يبحث عن ذاته. وفي تلك اللحظة أدركت: لستُ كما حلمت، ولستُ كما خفت، لكنني ما زلت واقفًا… وهذا وحده انتصار.
ي
يمضي الإنسان في رحلة قصيرة، قد يترك خلفه ذكرى تُضيء أو يمضي فيُنسى كأنه لم يكن. يبقى الأثر وحده، كلمة طيبة أو يد امتدت بالخير، هي ما يجعل اسمه حيًا بعد أن يرحل. يا ليتنا نفهم باكرًا أن حياتنا لا تُقاس بمدتها، بل بما نتركه من أثرٍ في قلوب الآخرين.




