قصة بقلم: طارق حنفي
يسبح فيما يشبه العدم، ثَمَّة عينٌ دائرية تحتل الأفق خلفة، تراقبه وتترصده، بدأت تدنو منه بهدوء وثقة، أدركته، ثم تجمًد في مكانه بغته، تجاوزته واستقرَّت في قبالته..
تُحدِّق فيه بثبات، انقبض قلبه؛ لقد رأى ما يشبه النار المستعرة تضطَّرب بداخلها، شهق بقوة؛ لقد رمته العين بسهم مُشتعل اخترق صدره..
استيقظ من نومه مذعورًا، وثب جالسًا في فراشه، العرق يتصبب على جبينه، يلهث بشدة.
بعد أن تهَيَّأَ، جرَّ قدميه إلى حيث العمل، لكنه لم يستطع تأدية مهامه كما ينبغي؛ ذهنه شارد وعقله مشوش، وغادر مبكرًا على غير العادة..
خمول يجري في جسده مجرى الدم، وتكاسل يغلف جسده وضباب يغلف عقله، ثم صار يستنفر همته لفعل أبسط الأشياء، لاحظ الجميع ما طرأ عليه من تغيير..
سألته أمه عن السبب، لكنَّه لا يعلم له شببًا، هو لا يشعر بالحماسة والشغف وحسب، انقبض قلبها؛ فما يميز ابنها الوحيد هو الإقبال على الحياة، الاجتهاد، السعي الدؤوب إلى النجاح، لقد تخرج بتفوق، ثم تبوأ منصبًا يناسب تفوقه وذكاءه.
يرى نفسه في الفراغ مرة أخرى، لكن العين المستعرة لم تكتف برمي السهم على صدره هذه المرة، بل تبعته، حتى إذا اخترق السهم صدره اخترقته خلفه، واستقرت بداخله..
أخذت تنفث نارًا تخترق كيانه، تشكل بها معراجًا داخل نفسه وصولًا إلى روحه، ثم أخذت السهام المشتعلة تخرج من العين تباعًا، تعرج فيه حتى تصيبها..
وفي كل مرة تلامس فيها نار السهم نور الروح تُخلِّف بقعة مظلمة وراءها، حتى صارت روحه كرقعة بيضاء مرقطة بالسواد كرقعة الشطرنج، يبدو أن العين بداخله تقتات على نور روحه.
أصابه الهم، تملكه العجز، صار يميل إلى الوحدة، لم يعد شغوفًا بالكد والسعي، ولا توَّاقًا إلى النجاح، ثم فقد الرغبة في الذهاب إلى العمل تمامًا، أصاب الوهن نفسه وسكن الحَزَنُ فؤاده، أصبح يلازم الفراش إلى بعد أذان العصر..
دلفت أمه حجرته ذات يوم، النهار يلفظ أنفاسه الأخيرة وهو ما زال يغُطُّ في النوم، هالها ما وصل ابنها إليه، جلست بجواره على الفراش..
تتطلع إليه بعين الرحمة، لاحظت ذبول وجهه وذهاب النور عنه، لقد سكنت مكانه عتمة وقتامة، ماج قلب الأم بالعطف والحزن والقلق والخوف، سال الدمع على خديها..
ثم برقت في عقلها فكرة، ترددت قليلًا، وفي النهاية حسمت الأمر، وضعت يدها على رأسه، تُردِد الرُقية التي تحفظها كل أم عن ظهر قلب.
يرى خمس مرايا يحيطون به، يقتربون من بعضهم البعض، ثم يتلاحمون معًا ليكونوا شكلًا خماسيًّا، العين بداخله تحاول الهروب من رؤية صورها المنعكسة فيهم، والمرايا تجذبها بشدة..
تتطلع إلى صوَرِها الخمس واحدة تلو الأخرى، يداخلها عُجْبٌ وزهو، ثم بدأت تتنقَّل بينهم بسرعة وترتبك، تشعر بالتِّيه وتنسى أمره، تزداد السرعة وتزداد معها شدة الجذب؛ تتمزق إلى خمسة أجزاء، يخترق كل جزء منهم مرآه، يصير صورة بداخلها..
طُويت المرايا فوق بعضها محتجزة الأجزاء بداخلها، ثم انطلقت إلى حيث الثلج يملأ الأفق، ودُفنت بداخله إلى الأبد..
شهق بقوة، واستيقظ، يتطلع إلى وجه أمه وابتسامة نيِّرة تعلو وجهه، رأت بريق عينيه فابتسمت، ودموع الفرحة تنساب من عينيها.