تفكيك

ياسمين كنعان | فلسطين

تؤرقني جملة قلتها ومضيت..قلت وأنت تزيح ستار الغياب للمرة الأولى لتشكف عن حضورك ” أنا هنا أقرأ كل ما تكتبين..”

جملة أدخلتني في دوار اللغة والحضور المباغت، ودار بي الكون كله، وتهت في تحليل المعنى وتفكيك الكلمات كلمة كلمة..”أنا”…تقول “أنا”؛ ومن أنت؟!

أنت الغائب الذي يتقمص دور الحاضر، أم أنت الحاضر الذي يتقمص دور الغائب ؟!

أنت المرئي أو المتواري؟!

وهل أنت أنت..هل أنت ما كنته، وهل أنا من كنتها في زمان مضى ؟!

هل أنت من كنت بين يدي يوما، أم أنت من صار الوصول إليك محال..!

وأعدت القراءة مرة أخرى، وأعدت تفكيك الجملة مرات ومرات …وقفت طويلا على الكلمة الثانية..تقول “هنا”، فأين هنا، وما مكانها وما زمانها، وأي سو يسورها، وما شكل الجدران التي تحوطها ؟!

هنا في فضاء أزرق، لا هو سماء ولا هو ماء، آلهته أصنام وأصنامه آلهة يعبدون الكلمة ويلعنون الفكرة!

أنت هنا حقا..أين، في مشاع الأزرق، لكنني لا أراك؟!

كيف ألمسك وأنت مجرد اسم يضيء في هذه السماء الزرقاء حينا، وينطفىء أحيانا كثيرة.

أنت هنا وأنا هنا، فلماذا لا نلتقي، لماذا لا أستطيع ضمك أو العزف على أصابعك حين تمتد إلي، لماذا لا أستطيع أن أحضن وجهك بين كفي..ولماذا لا أستطيع أن …؟!

ما أوسع هذه ال “هنا” وما أضيقها، وكم هي مزدحمة وخاوية في ذات الوقت!

أنت هنا في قلبي ولا هنا غيرها على أي حال!

ولم تنته الجملة؛ أنت هنا وتقرأ… لماذا يرتعش القلم الآن ولماذا انتفضت روحي حين وصلت إلى هذه الكلمة تحديدا..قلت ” أقرأ”…تخيل كم أنا عارية أمام صمتك، وكم مرة كشفت لك لك عن هشاشة روحي وضعفي، وكم مرة بكيت، وكم مرة سهرت وأنا أستحضرك وأناجي طيفك..وكم مرة تعريت من خجلي وأعلنتها على الملأ ..إني أتوق للحظة أقتل فيها كل سنوات غيابك بالعناق..؟!

لو وقفت في مواجهة الآن مع نفسي أمام المرآة؛ لذبت خجلا في نفسي؛  كيف ارتكبت حماقة التعري أمامك، وكيف منحتك متعة الفرجة على حزني وشوقي، كيف أدخلتك في كل تفاصيل يومي…؟!

كم مرة هربت في حروفي وكلماتي ما لم أكن قادرة على البوح به، أو إعلانه صراحة؟!

كيف جعلت من نفسي معزوفة من كلمات ونوتة لا يجيد عزفها سواك؟!

يا لي من حمقاء، ويا لك من أحمق..! أنت لا تقرأ فقط؛ بل تقرأ كل ما أكتب…!

هل تظن حقا أني أكتب ؟! لا أنا لا أكتب؛ أنا أعيد تشكيل ملامحي بالحروف، و أشكل من الكلمات لوحة فسيفساء لتكون أنا..وأرسم جدارية بالحرف؛ لتعرف فقط أن حبك الذي لامس القلب يوما ما زال فيه.

ولأجلك سأكون في يوم ما ذاك النص الذي أردت دوما أن أكونه؛ لا لشيء؛ ولكن ليجسدني ويصيرني، وليكون أنا حين تضمه بلهفة أصابعك …

فاقرأ كل ما كتبته؛ وكن هنا، فكل ما كتبته لك..وكل ما لم أكتبه لك..وكل ما سأكتبه لك أيضا…!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى