بالحبر الأبيض.. سيرة صحفية (9)

  علي جبار عطية | رئيس تحرير جريدة أوروك العراقية

                    

               البناية حين تتكلم !!  

 في مساء  الإثنين الموافق ٢٠١٤/٧/١٤م ،كان شارع (٥٢) في حي الكرادة ببغداد هادئاً، فاليوم عطلةٌ رسميةٌ  لذكّرى ظلت معترفاً بها، برغم تبدّل رؤساء الجمهوريات، وموقفهم من قائد الثورة، أوالإنقلاب لأنّها ارتبطت برجلٍ أحبته القلوب بصدقٍ هو زعيم الفقراء، عبد الكريم قاسم، وهذا يكفي . 

لكنَّه الهدوء الذي يصحّ أن يُطلق عليه أنّه يسبق العاصفة.. فقبل أيامٍ ، هدّدت قوىً مسلحةٌ فضائية كردستان المجاورة للجريدة بعدم البثّ، فاضطّرَ العاملون إلى الدوام  في مقرّ الفرع الخامس للحزب الديمقراطي الكردستانيّ، في الشارع الموازي لشارع الجريدة، وصار من البديهيّ أن تكون جريدة (التآخي) هي المستهدفة التالية خاصةً بعد تصعيد خطابها ضدّ الحكومة الإتحادية بسبب عدم صرف رواتب العاملين في الإقليم، فضلاً عن وصفها رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي بــ(الدكتاتور) ! لذا اتّخذت إدارة الجريدة بعض الإجراءات الوقائية من بينها:  توخّي الحذر الشخصي ، والحرص على إكمال الجريدة قبل غروب الشمس، خوفاً من حصول أيّ مكروهٍ، واستباقا لأيّ حدث. 

لكنَّ  المحذور وقع ! فقد أقدمت  مجموعةٌ مسلّحةٌ تدَّعي إنتماءها إلى (جهةٍ أمنيةٍ) على إقتحام مبنى جريدة (التآخي) في الساعة السابعة من مساء يوم الإثنين، بُعيد خروج العاملين بخمس دقائق ـ لحسن الحظ ـ فلم يجدوا غير بعض الحرس، وعامل المطعم، ومشغّل المولّدة ، فقاموا بأخذ أسلحة الحرس، وهي بنادق نوع كلاشنكوف، وعجلتين مدنيّتين، وعددٍ من أجهزة اللابتوب. وحسب تصريح مصدرٍ في وزارة الداخلية، بعد الحادث، فإنَّ قوةً أمنيةً فرضت طوقاً أمنيّاً حول المبنى، ونفذّت عمليات دهمٍ ، وتفتيشٍ بحثاً عن المسلّحين، وفتحت تحقيقاً موسّعاً، لمعرفة الجهة التي تقف وراء عملية الاقتحام، والسرقة. 

لم تحصل خسائرٌ بالأرواح ، ولا بالممتلكات الشخصيّة، وكان الطلب الوحيد هو عدم إصدار الجريدة. وقد ظلّت الجريدة مغلقةً عشرة أشهرٍ حفاظاً على سلامة العاملين، ولم تعاود الصدور إلّا في شهر آيار سنة ٢٠١٥ م على يد (الأستاذ) !! 

هذا الاقتحام، أعاد إلى ذهني تاريخ هذا المكان، وبعض الحوادث التي جرت على مسرحه. 

 لقد أسّست جريدة ( التآخي) سنة ١٩٦٧م، وأُوقفت سنة ١٩٧٤م، وجرى الاستيلاء على ممتلكاتها، ثم تأسيس جريدةٍ أخرى، اسمها (العراق)، ويقال: أنَّ (صدام حسين) ـ الذي كان  وقتها سنة ١٩٧٦ م ، نائباً لرئيس الجمهورية ( أحمد حسن للبكر) ـ هو الذي أطلق عليها هذا الإسم.

بعد سقوط النظام، أقام رئيس تحرير جريدة ( العراق) : (نصر الله الداودي)  (أُغتيل في بغداد على يد مجموعةٍ مسلحةٍ مساء الأربعاء الموافق ٢٠٠٤/١٠/٢٧ م) دعوةً قضائيةً لاسترجاع الجريدة من الإدارة الجديدة لـ(التآخي)، لكنه خسرها وأفتى القضاء بأحقية عودة ملكية جريدة(التآخي)  إلى الجهة التي أسّستها، وهي الحزب الديمقراطي الكردستاني، وأنّ الحقّ لا يسقط بالتقادم، ولم تكن هناك حاجةٌ لوضع لافتةٍ أشتهرت بعد سقوط النظام تقول: ( عاد المُلك إلى أصحابه الشرعيين) !! 

وقد كشف رئيس تحرير جريدة (التآخي) (فلك الدين كاكه ئي) عن سرٍّ  بمناسبة وفاة مدير المطبعة أحمد شبيب (أبي صارم) الذي كان يشغل منصب نائب رئيس التحرير في جريدة (العراق) حتى توقّفها يوم ٢٠٠٣/٤/٩م، أنّ الوثائق التي كان محتفظاً بها (أحمد شبيب) منذ سنة ١٩٧٣م كانت سبباً في حسم عائدية الجريدة.. قال في مقالٍ نشر في العدد ٤٤١٣ من جريدة (التآخي) الصادر  يوم الأحد الموافق  ٢٠٠٥/٢/٢٧م  بمناسبة رحيل أكثر الرجال الذين عرفتُهم مهنيةً  ، والتزاماً ما نصه: ((… منذ أن تقلَّد أبو صارم مسؤولية إدارة مطبعة(التآخي) عام ١٩٧٣م ، وهو يعمل بأمانةٍ، وجدٍّ . عرفته منذ (٣٢) عاماً حين قدّمه لنا الفقيد (دارا توفيق )رئيس التحرير السابق للتآخي ؛ كمسؤول عن إدارة المطبعة، التي كانت آنذاك (١٩٧٣) في السنك بشارع الرشيد. عرفناه أكثر ، بعد حجز المطبعة، وإدارة الجريدة من قبل النظام السابق في آذار ١٩٧٤ م، فقد ظلّ الفقيد (أحمد شبيب) وفيّاً للتآخي كجريدة للحزب الديمقراطي الكردستاني برئاسة البارزاني. واحتفظ طوال هذه الفترة بوثائق المطبعة حتّى سلّمها لنا بعد نيسان ٢٠٠٣ م بعد أن سقط النظام السابق. وكانت هذه الوثائق التاريخية مهمةً جداً لإثبات حقنا، واستعادة ملكية دار التآخي، حسب الأصول القانونية )) . 

حين عملتُ في جريدة (العراق) منذ  شباط من سنة ١٩٩٢، كانت إدارة التحرير، والحسابات، والقسم الفنّي والمونتاج تشغل مبنى عمارةٍ زرقاء اللون أنيقةٍ تقع في شارع ٥٢ على مقربةٍ منها محلّ مثلجات شهير يدعى( السائحة) ، وكان إيجارها السنوي كبيراً قياساً إلى الإيجارات الأخرى ( ستة ملايين دينار سنوياً) ، وقبيل سقوط النظام بأشهرٍ كان يزورنا بعض (الرفاق) طالبين منّا التطوّع في ما يسمى بـ (جيش القدس) فنسألهم : أين نجدكم؟ فيجيبون : نحن موجودون في فرقة الرشيد للحزب قريباً منكم ! 

سقط النظام في نيسان ٢٠٠٣م، فدعاني الناقد (حسب الله يحيى) إلى العمل في جريدة ( التآخي) وقال : إنَّ له تعاملاً قديماً معهم منذ الستينيات، إذ كان مراسلاً لهم في الموصل، وأنه يرتاح في العمل معهم، وهم أوفياءٌ . 

شجّعني كلامه على قبول هذا العرض برغم  ارتباطي المؤقت بمسؤولية الصفحة الأخيرة لجريدة (الإتحاد) التابعة لحزب الإتحاد الوطني الكردستاني بتكليفٍ من الكاتب والصحفي (جهاد زاير) الذي كان يشغل منصب مدير التحرير فيها، وقد قدمتُ اعتذاراً لـ(زاير) بعد اسبوعين لصعوبة الجمع بين العمل في جريدتين متنافستين !! 

 

كنتُ أظنّ أن مقرّ (التآخي) سيكون نفس مكان جريدة (العراق) لكنّي علمت أنّ صاحب العمارة رفض تأجيرها لـ(التآخي)، ويريد استخدامها كمحالٍّ للأجهزة  التقنية الحديثة ، ووقع الإختيار  على  مبنى فرقة الرشيد لحزب البعث المنحلّ ليكون مقراً لـ(التآخي)  للتحرير، والإدارة على أن تكون مطبعة جريدة ( العراق) في كراج الباب المعظم هي مطبعة الجريدة ! 

بدأنا العمل كخليّة نحلٍ، كنّا بمعيّة الناقد حسب الله يحيى الذي عيّن مديراً للتحرير، ثم صار مستشاراً ثقافياً لرئيس التحرير، ومسؤولأ عن الملحق الثقافي الأسبوعي، والشاعر صادق الجلاد (صادق حمزة الجواري)، ثمَّ التحق بنا  بعد أشهر الصحفيّ المتدرب أزل الجبوري ( أزل حسب الله) ، بعد تسليب سيارته الشخصية نهاراً عند إيقافها مؤقتاً  قرب أحد الأسواق بوصفه رئيساً للجنة مشتريات الجريدة، وبالبرغم من أنّ خروجه كان لشؤون الجريدة ، إلا أنه لم يعوض قيمة ما فقد، إنَّما اكتفى رئيس التحرير بزيادة راتبه نحو خمسةٍ وعشرين دولاراً ، وأعفاه من عناء لجنة المشتريات، وألحقه بالتحرير على أن يكون تحت التدريب، فكان يقوم بالوظائف التي يُكلّف بها حتى خطفه، واغتياله المفجع في شارع حيفا صباح يوم ٢٠٠٦/١٢/١٠ م. 

 كنّا حين نعمل، تمرّ علينا الساعات كدقائقٍ . 

نبدأ صباحاً، فلا نشعر إلّا، والمساء يزحف نحونا بقوّةٍ . 

أتحمّل جوع المعدة، أو أدفع غائلته بشيءٍ من البسكويت، لكن كيف أدفع جوع الروح ؟ أين أصلي؟ 

لم أجد في شارع (٥٢) مسجداً، ولا حسينيةً، ولا مصلىً ، بل أنّ الأذان لا يسمع، وكأنَّنا في بلد أوربي ! 

جلبتُ سجّادة الصلاة، وشرعتُ أصلّي في غرفة التحرير بعد خروج الوجبة الأولى من العاملين بعد الظهيرة . 

بعد مدّةٍ قصيرةٍ أقام شيخٌ قال أنَّه مهجَّر منذ عام ١٩٧٩م دعوى لاسترداد بيته الذي ادّعى أنّ الأمن صادروه منه لكونه فيلياً من التبعية الإيرانية، وصار بيته مقر فرقة الرشيد للحزب ! لكنَّ القضاء رد الدعوى لعدم كفاية الأدلة ! وحُرمتُ من الصلاة في المبنى ؛ لأنَّ الصلاة لا تصحّ في الأرض المغصوبة، وبعد أشهرٍ من هذه المشقّة النفسيّة، وأداء صلاتي الظهرين قضاءً في البيت، عدتُ إلى أداء الصلاة في الجريدة لأن أحد وكلاء المراجع طمأنني على صحّة الصلاة، فالقضاء العراقي قال كلمته بشأن عائدية المبنى للدولة، وقد ردّ الدعوى، وليس كلّ من يدّعي شيئاً  يؤخذ بادعائه ! 

حين عمل الفنان خالد جبر معنا منذ  سنة ٢٠٠٥ م  أبدى لي مخاوفه  منذ أول يوم ٍ لدوامه، فقال: إنني كلما أدخل كراج جريدة (التآخي) ، أشعر بانقباض الصدر لأنَّه تمر بذاكرتي حادثةٌ كدتُ أفقد فيها حياتي ! 

سألته : ما الحادثة ؟ 

قال: إن البناية الحالية كما تعلم كانت مقراً لفرقة الرشيد لحزب البعث المنحلّ، وجاءني أحد (الرفاق) عند بدء الحرب في ٢٠٠٣/٣/١٩ م ، يبلغني بحتمية الحضور إلى مقر فرقة الرشيد، فلما حضرت أمرني أحد المسؤولين بالذهاب إلى مشجب الأسلحة، وتسلّم بندقيةٍ لحراسة الفرقة، فاعتذرتُ عن هذه المهمة التي لا أجيدها، فلم يتكلّم المسؤول بشيءٍ، فخرجتُ وقد ظننتُ أنَّ المسألة قد انتهت عند هذا الحدّ . 

يضيف جبر : عدتُ إلى بيتي في منطقة (الألف دار) ببغداد  الجديدة التي أسكنها منذ سنة ١٩٧٠ م، وكانت الحرب مستمرةً حتى وصلنا إلى اليوم العاشر ، وإذا بطارقٍ يطرق باب الدار بعد الساعة الحادية عشرة، والنصف ، وقد انتصف الليل. 

فتحتُ الباب، فوجدت صبيّاً لم يتجاوز الحادية عشرة من العمر.، سألته: ما الأمر؟ 

أجاب الصبي : لقد كنتُ قرب والدي وأصدقائه، وسمعته يقول : لقد جاءنا أمر من الحزب بإلقاء القبض على خالد جبر، وشخصين لم يلتحقا بالواجب، وإعدامهم في ساحة مقرّ فرقة الرشيد للحزب ! 

أضاف الصبيّ: لولا محبتي لك أستاذ ماجئت إليك ! 

يكمل جبر القصة المثيرة بالقول : هرعتُ على الفور إلى لملمة أغراضي، ووضعتها في السيارة مع عائلتي وأسرعتُ بالذهاب إلى قريةٍ نائيةٍ تبعد عن مركز محافظة ميسان نحو خمسين كيلومترا، ولم أعد حتّى سقوط النظام ! 

سألته: وهل عرفت ماذا حصل بعدك؟ 

قال : نعم، فقد أخبرني الجيران أن الرفاق جاءوا إلى بيتك في اليوم التالي لسفرك خارج بغداد، وفتّشوا عنك كثيراً إلى درجةٍ ( گلبوا الدنيا عليك) !! 

أخذتني الشفقة أكثر، فسألته : وهل عرفت مصير الشخصين الآخرين؟ 

قال  : أظنُ أنَّهما فرّا مثلي ! 

استمعتُ إلى كلام الفنان خالد جبر يوم الإثنين الموافق ٢٠٠٧/٤/١٦ م ، ولم أفهم سرّ العقوبة القاسية التي تصل إلى الموت رمياً بالرصاص  ـ وفي ساحة ستكون مستقبلا كراجا لجريدة ـ لمن يتخلّف عن حراسة فرقةٍ حزبيةٍ، وكل شيءٍ متوقّع من نظامٍ يعدم شخصاً على نكتةٍ، لكنَّ  الأمور اتّضحت لي بعد يومين فقط ؛ حينما كنتُ أتابع برنامج (بالعربي) للإعلامية اللبنانية (جيزيل خوري) على قناة العربية مساء الخميس الموافق ٢٠٠٧/٤/١٩ م، وكان ضيف الحلقة ( زياد طارق عزيز) نجل المسؤول البارز في حكومة البعث المنحلّ طارق عزيز . في البدء شكا زياد من أن والده سجينٌ بلا تهمةٍ منذ (٤٨) شهراً، وأنه سلَّم نفسه إلى القوات الأمريكية يوم ٢٠٠٣/٤/٢٤ م وأن الأمريكان تنكروا لعلاقتهم بوالده وتعمّدوا تجريده من ملابسه؛ ليظهر في المحكمة بالبيجاما لمعاقبته نفسياً ! 

وأضاف : أنهم  انتقلوا منذ يوم سقوط بغداد إلى الفلّوجة، وظلوا فيها عدة أيام حتى نقلوا بطائرةٍ أمريكيةٍ يوم ٢٠٠٣/٤/٢٦ م إلى عمان لتكون العائلة في ضيافة ملك الأردن. 

سألته المذيعة : أين كنتم قبل التاسع من نيسان ٢٠٠٣م، فأجاب : لقد كنَّا نقيم، حتى يوم ٢٠٠٣/٤/٩ م في بناية فرقة الرشيد للحزب في شارع (٥٢) في الكرادة ! 

( السيرةُ مستمرةٌ ، شكراً لمن صبر معي.. يتبع). 

شروح صور

١. كاتب السيرة مع الفنان خالد جبر في الساحة الرهيبة نهاية سنة ٢٠٠٩ م !! 

٢. الزعيم عبد الكريم قاسم 

٣. جهاد زاير

٤. خالد جبر

٥. بعض الزملاء في ساحة الجريدة سنة ٢٠٠٣ م

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى