وابلٌ من الخيطان

لبنى ياسين | أديبة وتشكيلية سورية


كيف يمكنُ أن أعيشَ في هذا العالم وحدي؟ هذا السؤالُ باتَ يؤرقني بعد أن اكتشفتُ ما يحدث، وعندما حاولتُ تنبيهَ الناسِ، لم يصدقني أحد، اعتبروني مجنونة، وابتعدوا عني، لم يعد هناك من يرغبُ بالحديث معي، وهكذا صرتُ معزولةً كداءٍ معدٍ .
بدأ الأمر كلٌّه بحكةٍ غريبةٍ تعتورني في رأسي، لم أعد أذكرُ كم من الوقتِ مرّ قبلَ أن يظهرَ مكانها ورمٌ صغير، كما لو كانت كتلةً دهنيةً أستطيعُ تحريكها قليلاً بأصابعي، أصبح الورمُ بعد قليلٍ هاجساً لا أستطيعُ تجاهلَه، بل إن أصابعي تتجه إليه تلقائياً، وتحكُه إلى أن يُخدشَ، وتتبللَ أصابعي بقطراتِ الدمِ الدافئ، عند هذا الحد، لم أعدْ أحتمل، فذهبتُ إلى الطبيب، قد يخطرُ في بالك أن تسأل: لماذا لم أذهب قبل ذلك؟ حسناً ..إنه أمر يتعلقُ بي، لدي رهابُ المعطفِ الأبيض، أشعر أنني إن ذهبتُ إلى الطبيب، فإنني حتماً سأمرض مرضاً شديداً، ولدي قناعةٌ تامةٌ بأن الجسدَ لديه منظومةَ دفاعٍ كافية ٍلدرءِ أي مرض، وذهابُك إلى الطبيب، يعني أن ثمةَ عارضاً ما في جهازك المناعي يمنعُه من آداء عمِله كما يجب، وبالتالي، أنت تمنحُ جسدَك – بذهابك إلى الطبيب- الإذنَ بالانهيار.
وهذا ما حدث فعلاً، إذ لم يرَ الطبيبُ ما يوجبُ الشكوى، بل لم يعثر للكتلةِ اللعينة على أثر، مما أفقدَ جسدي صوابه، وبدأتْ أورامٌ أخرى تظهرُ على أطرافي، وتسببُ لي حكةً لا أستطيعُ إيقافَها قبلَ أن أشعرَ بالسائلِ الأحمرَ اللزج ِعلى أصابعي، تشوه َشكلُ أطرافي بفعلِ الندبات والخدوشِ التي تسببتُ بها لنفسي وأنا أفركُ جلدي بجنون، بات الأمرُ مؤرقاً، خاصةً وأن تلك النوبات أصبحت مزمنةً إلى درجةٍ لا يمكنني التوقفُ مهما حاولت.
حولني الطبيبُ العام إلى طبيبٍ نفسي، وبدأ الآخرُ يقنعني بأنني أعاني من اضطرابٍ سلوكي\عقلي، وأن علي أن أجدَ سلوكاً آخرَ أدربُ عليه أصابعي عند الإحساسِ بتلكَ النوبات، وأعطاني حجراً لكي أحكَه كلما شعرتُ برغبةٍ في ذلك، مفسراً إنه بالإمكان أن نغشَّ عقولنا بتعويدها على إجراءٍ آخرَ بديلٍ كردةِ فعلٍ مخالفٍ لذلك الذي يطلبه منا، وأن الأمر يحتاجُ وقتاً للتدريبِ لن يتجاوزَ شهراً أو شهرين على أبعدِ احتمال ، وعندما لم تفلحْ هذه التقنيةُ في علاجي بعد شهورٍ من المعاناة مع الحجر، الذي أبدَله أولَ الأمر إلى كتلةٍ من المطاط، مفترضاً أن صلابةَ الحجرِ تعيقُ عقلي عن تصديقِ الخدعة، ثم إلى تمثالٍ على شكل جسدِ إنسان، ليحاكي جسدي، بعد أن ظنَ أن شكلَ الكتلةِ هو سببُ رفضِ عقلي لها، ثم وصفَ لي أقراصاً جعلتني أهلوسُ، فتارةً أرى أبي رحمَه الله يحتسي معي كوباً من الشاي، وينبهني إلى تلك الأخطاء المطبعية التي اقترفتها في هذا النصِ، أو ذاك، وتارةً توقظني جدتي من النومِ الذي لم أعدْ أعرفُه لتحكي لي حكاية ًمن حكاياتها الشيقةِ التي تنتهي دائماً بـ: ” مد إيدو بالطاءة طبست إيدو بالـخـــ….، رفع راسو ليدعي ربو بال الديك في عينو…”، وأضحكُ من قلبي على تلك النهايات التي تعيدني طفلةً بجديلتين، وأسئلةً لا تنتهي.
إلا أن تلك العقاقيرَ لم توقفْ النوباتِ الملحةَ التي تعتريني، ولا هي أنهتْ أمرَ التورماتِ الباديةِ على أطرافي، وقمةِ رأسي، ربما ألهتني قليلاً عنها، قليلٌ بما يكفي للعبثِ بنهايات حكاياتِ جدتي، وتصحيحِ الأخطاء المطبعية، أو ارتكابِ أخطاءٍ أكثر فداحة، فقط لأتمردَ على كلِ ما يقالُ إنه صوابٌ..فما الذي سيحدثُ إن سقطتِ الهمزة؟، أو هربت الشدة؟، أو حتى إن ضمتِ التاءُ المفتوحة ذراعيها احتفاءً بالنص؟؟!!
غيرّ الطبيبُ النفسي العقاقير التي كنتُ أتعاطها بوصفته – بعد أن نبشَ ذاكرتي جيداً، وكنسَ طفولتي، ومسحَ عنها غُبارَ النسيان- ووصفَ لي عقاقيرَ أقوى منها، وهو يقولُ إنني أعاني من وسواسٍ قهري، وإن تلك الأدويةَ هي أحدثُ ما توصلت إليه العلوم الطبية لمواجهة الوساوسَ القهريةِ المزمنةِ التي لا تستطيعُ العقاقيرُ الأولى إنهائها، وإنها ستساعدني أيضاً على النوم.
وأخيراً نمت، لكن هذه المرة بدأت الكوابيسُ تهاجمني بشكلٍ لا يطاق، وأصبح بيتي نزلاً لغرباءَ يخرجون، ويدخلون، ويأكلون، ويتحدثون، ويقرؤون، ويعترضون على كميةِ السكر في الشاي، وبرودةِ القهوة، وكمية ِالملح في طعام، وكان أحدهم، وهو الأعرجُ بينهم، يكررُ كلماتهِ بصوتهِ الأجش، وبشكلٍ مستفزٍ، كأن يقولَ مثلاً: الشايُ باردٌ..الشايُ باردٌ..باردٌ الشاي، وهكذا إلى أن يفقدُني صوابي.
عند هذا الحد أخبرتُ الطبيبَ بأنني لن أبتلعَ قرصاً آخر من هذا الدواء اللعين، فنصحني بانقاصِهِ تدريجياً، لأن أعراضَ انسحابه ستكون أكثر إزعاجاً من أعراضِ تناوله.
وهكذا عدتُ إلى نقطةِ البداية، بأورامٍ في أطرافي ورأسي، وحكة ٍلا أستطيع إيقافها حتى أدمي نفسي، وفوقها طنينٌ غريبٌ في أذني لا يتوقف، طنينٌ منخفضٌ، لكنه متواصلٌ، أرجعته إلى تلك الأقراصِ المهلوسةِ التي وصفها الطبيب لي، اعتزلتُ الناس أكثر، أقفلتُ باب بيتي، ولم أعد أخرجُ إلا للضرورة، متحريةً ما أمكنني أن أرتديَ قفازاً سميكاً يمنعُ أصابعي من خدشِ جلدي عندما تعتريني تلك النوبات .
إلا أن الحالةَ تطورت، وصارت النوباتُ أكثر ضراوةً من ذي قبل، وخاصةً في تلك الكتلةِ التي على رأسي، وهكذا استيقظتُ يوماً وقد قررتُ أن أنهيَ الأمر بنفسي مهما كلفني ذلك، أحضرتُ مشرطاً كنتُ قد احتفظتُ به منذ الدراسةِ الجامعية، وبعضَ القطن، واليودَ للتعقيم، وبدأتُ أحاولُ فقأ ذلك الورم في رأسي، ورغم أن ذلك أوجعني كما لم أتوجع من قبل، إلا أن شيئاً في داخلي كان يقولُ لي إن ما أفعله هو الصوابُ بعينه، وأن الخلاصَ يأتي مؤلماً أحياناً ، كاوياً، لكنه أيضاً نهائيٌ، وحاسمٌ، وكما تقولُ جدتي في مثلها الشائع: ” وجع يوم ولا كل يوم”، وهكذا بدأتُ أعصرُه بأصابعي بعد أن فقأتُه، أخرجتُ ما فيه، كاد الوجعُ يفقدني صوابي، إلا أنني صممتُ على تنظيفِ تلك البؤرةِ جيداً بما أنه لا أحدَ سواي يراها، استخدمتُ في آخرِ مرحلةٍ إبرةً – بعد أن عقمتُها بالنار- لأتأكدَ من أنني أفرغتُ كلَ ذلك الصديدِ الذي يملأ الكتلة، فسكنَ رأسي، وأصبحَ خفيفاً، هادئاً، وصمتَ ذلك الطنين، ثم بدأتُ أنبشُ الكتل الأخرى في معصميَّ، وقدميَّ، فتحتُها كلَها، وأخرجتُ محتواها حتى آخرِ ذرةٍ، خرج منها شيٌء كعقدةٍ من خيوطٍ ملتفةٍ على بعضها، سحبتُه إلى الخارج حتى نهايتِه، وبقي أن أنهيَ المرحلةَ الأصعب، الوصولُ إلى بذرة تلك الخيوط ِلاقتلاعِها، إذ يبدو أنها موصولةٌ بطريقةٍ أو بأخرى بالأعصاب، لكنني استطعتُ اجتثاثها كلها، رغم كلِ الألم الذي عانيتُ منه، وأخيراً عندما انتهيت، توقفَ كلُ شيءٍ دفعةً واحدة، وسكن الضجيجُ داخلي، وداخلني هدوءٌ رائعٌ لم أشعر به من قبل، وأصبحت حركتي خفيفةً كما لو أنني أطير، ولم يتبق إلا آلامَ الجروحِ التي تسببت بها لنفسي جراءَ ذلك العمل الجراحي الذي قمتُ به دون تخديرٍ، ولا خبرة.
كان الأمر أشبه بقيادةِ دراجةٍ صدئة، عليك أن تقومَ بمجهودٍ بالغٍ لتحركها، وأنت تستمعُ إلى صريرها المزعجِ يحفرُ رأسك، وهي تتحركُ قسراً، ثم فجأةً تصبحُ دراجتك حديثةً بمحركٍ ما أن تدوسَ بدالاتها حتى تحلقَ بك بدلاً من أن تتحرك.
جففتُ الجروحَ جيداً، ووضعتُ عليها لصاقةً طبيةً معقمة، وغسلتُ وجهي، ويديَّ، واستلقيتُ تاركةً الوقتَ لجسدي، وأعصابي لترتاحَ قليلاً، فسقطتُ في نومٍ عميقٍ لم أستيقظ منه حتى اليومِ التالي، نومٌ هانئٌ هادئ، بلا كوابيسَ، ولا أصوات.. لا شيءَ أبداً، بدا لي عندما استيقظتُ أنني كنت قد متُّ، ثم عدتُ إلى الحياةِ ثانيةً بطريقةٍ أو بأخرى، عدتُ إليها خفيفةً كالريشةِ، فبالرغم من أن تلك الكتلِ التي اجتثثتها لم تكن ذات وزنٍ يذكر، إلا أنها كانت ثقيلةً بشكلٍ مرعبٍ على روحي..ثقلٌ لم يشعرْ به أحدٌ سواي.
صبيحةَ اليوم التالي، وبعد أن غسلتُ وجهي، وجففتُه، وفيما أنا أنظرُ في المرآة، اكتشفتُ أن وجهي أضحى أكثرَ نضارةً من أيِّ يومٍ آخر، وأن عينيَّ تلتمعان ببريقٍ لم يسبق لي أن شاهدتُه في عيونِ أيِّ إنسان.
ارتديتُ ثيابي، في نيةٍ مني للتوجهِ إلى الطبيبِ، لعله يصفُ لي ما يسرّع التئامَ الجروحِ، ويمنعُها من الالتهاب، وما أن فتحتُ البابَ، حتى رأيتُ الشارعَ بشكلٍ لم أعهدْه من قبل، فقد كان البشرُ على مرمى نظري مربوطين بخيوط ٍ معلقة ٍبرؤوسهِم، وأطرافهِم لتحركهم، ولم أستطع- رغم محاولاتي- تمييزَ تلك الأورامِ الصغيرةِ التي تسببها عقدُ الخيوطِ تحتَ الجلدِ، رأيتُ كماً مرعباً منها يتدلى من الأعلى، وعندما رفعتُ رأسي لم أستطع رؤيةَ ذلك الذي يمسكُ بها كلها، لكنني كنتُ أتحركُ بحريةٍ تحتَ وابلٍ من الخيطان يغطي السماءَ تقريباً، ..وحدي كنتُ أتحركُ دون خيوط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى