الضمير

أ.د. عنتر صلحي عبد اللاه 

من الألفاظ ذات الإشكالية الكبرى كلمة الضمير، وما صار يرتبط بها من معاني الأخلاق والوازع الداخلي وتنمية الضمير أو موته أو إيقاظه… وفي اللغة الإنجليزية تستخدم كلمة الضمير Conscience  للإشارة إلى الاعتقاد عموما والمعتقد الديني خصوصا، بدلا من استخدام الكلمات الرسمية المتعقلة بالدين مثل  religion  أو faith، خصوصا في النصوص القانونية.

فما هو الضمير وكيف يمكن تعريفه؟ في مجلة الرسالة العدد 139 الصادر في سنة 1936 كتب الدكتور إبراهيم مدكور مدرس الفلسفة -وقتها- بكلية الآداب يقول: غامض في لفظه غموضه في معناه، ومستتر رغم ما يبرز من أثار، هو أقرب الأشياء منا وألزمها لنا، بل يكاد يكون كل شيء فينا… بيد أنا إن حاولنا توضيحه توارى بالحجاب وأمعن في الاستتار والخفاء. نؤمن بوجوده دون أن نراه أو نفهم في وضوح حقيقته، وكيف ننكره وفي إنكاره إنكار لأنفسنا وهدم للدعامة الأولى من دعائم شخصيتنا؟ يأمر فيطاع، وينهى فيستمع له، ويسر ويحزن ويخالط عواطفنا وأحوالنا النفسية على اختلافها، يعقد محكمته في أسرع من لمح البصر، ويصدر أحكاما غير قابلة للنقض والإبرام”.

ولا أجد وصفا أروع من هذا عن الحيرة التي تنتاب من يفكر بالاقتراب من دراسة الضمير أو تحديده، وكيف لا وهو ضامر، أي مستتر رغم حضوره الدائم، وكم من ليال أرق فيها أهله بتأنيبه إياهم على ما اقترفوا، وكم من أعين أبعد عن مآقيها الكرى، رغم أن هناك من قتله قتلة واحدة وتخلص منه بغير عودة فصار مجسما للشر مجسدا للاستبداد.

ولكن الغريب أننا لا نجد في كلام العرب لفظة “الضمير” كما نألفها اليوم بمعناها الخلقي والنفسي المصطلح عليه، إنما نجدهم استخدموا ألفاظا أخرى مثل: القلب والباطن والسريرة والوازع والزاجر، وفي الأثر: من لم يكن له من نفسه زاجر، لا تنفعه الزواجر”. والظاهر أن لفظة الضمير هي ترجمة حديثة للمفهوم الغربي  conscience  التي تعبر عن الضمير الأخلاقي، كما تعبر عن الوعي النفسي (في الإنجليزية يشتق منها  consciousness)

فإذا رجعنا إلى المعاجم التاريخية، نجد أن لفظة  conscience مشتقة من conscire  اللاتينية التي تعني (المعرفة اليقينية بالتمييز بين الصواب والخطأ) ومنها اشتق لفظ العلم  science و الوعي  consciousness .

 وفي اللغة العربية، الضمير اسم مفعول من الفعل المبنى للمجهول ضُمرَ  يعني ضعف وهزل، وهو اسم مفعول سماعي مما قالته العرب مثل قتيل وأسير وذبيح وجريح (ومثل ذلك يقال في رمضان كريم أي مكرم)، وتوصف الخيل في التراث بالمضمرة، وهي الخيل التي كانت العرب تعدها للسبق وللحرب، وتضميرها من الضمور، وهو أن تعلف مدة طويلة علفاً زائداً عن حاجتها لتسمن سمناً وافياً، ثم تشمس في مكان قليل الهواء، وتجلل، أي: توضع عليها الجلال ومع ضيق المكان، وعدم وجود الهواء، وكثرة الجلال يكثر عرقها، والعرق يخرج بفضلات الجسم، وتبقى عضلاتها، فهم يسمنونها، ثم يخففون سمنها بإخراج العَرَق منها، فتكون قد اجتمعت قواها وتخلصت من ثقلها الذي هو رطوبة الجسم، وغير المضمرة تأكل وتنام كعادتها. فهم يضمرون الخيل ويعدونها للجري؛ لأنها تكون أخف جسماً وأقوى، وتكون أدعى إلى السبق، وفي الحرب تكون أدعى إلى الصبر على الكر والفر، فهي أمسك من غيرها.

ولا نكاد نجد ذكرا لكلمة “الضمير” في التراث العربي بنفس اللفظ، ولكن نجد اشتقاقات أخرى مثل “الخيل المضمرة”، وقبيلة “بني ضمرة” التي يُنْسَبُ إليها الصحابي الجليل عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ. وفي المعاجم العربية “الــضَّمِير َمَا تضمره فِي نَفسك ويصعب الْوُقُوف عَلَيْهِ وهو استعداد نَفسِي لإدراك الْخَبيث وَالطّيب من الْأَعْمَال والأقوال والأفكار والتفرقة بَينهَا واستحسان الْحسن واستقباح الْقَبِيح مِنْهَا و (عِنْد النُّحَاة) مَا دلّ على مُتَكَلم كأنا أَو مُخَاطب كَأَنْت أَو غَائِب كَهُوَ (ج) ضمائر”. ومن الغريب أن الاستخدام النحوي للكلمة أكثر شيوعا في الثقافة العربية (القديمة خصوصا) من الاستخدام الأصلي للكلمة.

ولا أعرف من الشعر العربي القديم ما استخدمت فيه لفظة “الضمير”، وإن كانت معاني الزاجر والوازع الداخلي موجودة بكثرة بغير هذا اللفظ. وأقرب أبيات أتذكرها بها استخدام الضمير بهذا المعنى هي أبيات الشاعر الأندلسي أبي القاسم السهيلي:

يا من يرى ما في الضمير ويسمع

أنـت المـعــد لكـل مـا يـتـوقـع

يا من يرجـى للشدائد كلها

يـا من إليه المشـتـكـى والمفـزع

يا من خزائن رزقه في قول كن

امـنـن فإن الخيـر عنـدك أجمـع

ما لي سوى فقـري إليك وسيلةٌ

فبـالإفـتـقـار إليك فقـري أدفع

ما لي سوى قرعـي لبابـك حيلةٌ

فـــلئن رددت فـــأي بــاب أقــرع

ومن الذي أدعو وأهتـف باسـمه

إن كان فضـلك عن فقـيـرك يمنع

حاشـا لمجـدك أن يقـنط عاصياً

الفـضــل أجـزل والمـواهــب أوسـع

وأما في الشعر الحديث، فالكلمة تتوارد كثيرا بمعنى الزاجر، ففي شعر شاعر المهجر محبوب الخوري الشرتوني في قصيدته الرائعة عن فلسطين:

         

مات الضمـيـر فلا ضمير

ولا عـدالة فـي البـشــر

السـيـف يلعـب بالحـظـوظ

وبـــالورى لعــب الأكــر

ويــوزع الأمــم الضـعــا

ف ولا مـــردّ لمــا أمــر

إيه فلسـطـيـن الكريـمـة

مـن جـفــاكِ فـقــد كـفــر

وفي علم النفس الحديث ظهر الضمير كترجمة لمفاهيم التسامي في أكثر من نظرية؛ فعند فرودي مثلا تتكون النفس البشرية من (الهي  Id) وهو منبع الرغبات والآثام والنزوات والشرور، و (الأنا  ego) وهو يمثل الشخصية الاجتماعية التي تتعامل مع الآخرين في المجتمع، و(الأنا الأعلى  super ego) وهو الضمير الذي يركز على المثل العليا والقيم، ويعتبر المكون الملائكي للإنسان. ويقول إن الصراع بين الهي والانا الأعلى ينتج عنه توازن يظهر في الأنا الاجتماعية،  وهذا التصور بالتالي لا يبتعد عن  التقسيم القرآني للنفس الأمارة بالسوء والنفس اللوامة والنفس المطمئنة.

وفي نظريات السمات الخمس الكبرى للشخصية، نجد أحد هذه السمات ما يطلق عليه يقظة الضمير conscientiousness (ويترجمونه أحيانا بالوعي وهي ترجمة قاصرة)  والسمات الأربعة الباقية هي الانفتاح  openness، والمقبولية  agreeableness، والعصابية Neuroticism – ربما نفرد لها مقالا مستقلا فيما بعد-، والانبساطية Extraversion).

وتمكن إشكالية التعامل مع الضمير ليس فقط في التعريف، وإنما -كذلك- في عمليات القياس النفسي للشخصية، إذ كيف نقيس يقظة الضمير، وهو جانب خفي لا يكاد صاحبه يحدد له موضعا أو سمة. ولأن علم النفس المعاصر علم موضوعي يقوم على تحليل المكونات الأساسية لكل مفهوم نفسي، فالمقاييس الحالية تحاول قياس يقظة الضمير من خلال سمات الأشخاص الذين يتمتعون بها، وفيما يلي عرض لبعض هذه السمات كما يحددها علماء نفس الشخصية Personality psychology (مقتبسة بتصرف من دراسة بعنوان “بناء محددات عالمية للسمات الخمس الكبرى للشخصية Development and Validation of an International English Big-Five Mini-Markers)  ، مع تعليقي عليها بين القوسين:

 “يتميز صاحب الضمير الحي بسمات مثل الحذر أو الاجتهاد”، (وهو أقرب للمفهوم الديني الذي يتوجس فيه المرء قبل الأقدام على فعل خشية أن يصيب به حراما)

“كما ينطوي معنى مصطلح الضمير الحي على الرغبة في إنجاز مهمة ما بإتقان، والوفاء بالالتزامات مع الآخرين (والحقيقة أن الدافع وراء الالتزام هو دافع يحفزه فعل المراقبة الذاتية أو محاسبة النفس كما في التراث الإسلامي).

و”يتسم أصحاب الضمائر الحية بالكفاءة والتنظيم بدلًا من اللامبالاة والفوضوية (وهو مفهوم الإحسان  excellence, quality assurance نتيجة المراقبة الداخلية التي مردها الإيمان بالله).

و”يميل هؤلاء الأشخاص لضبط النفس والتصرف بإخلاص والسعي نحو تحقيق الإنجازات؛ إذ يُخططون لسلوكياتهم بدلًا من التصرف بعفوية، ويُمكن الاعتماد عليهم عامةً في إنجاز المهام (وهو كذلك مفهوم الإحسان ويزيد عليه الأخذ بالأسباب والموثوقية والإخلاص والصدق).

” تتجلى خصالهم من خلال بعض سلوكياتهم المميزة مثل كونهم منظمين ومنهجيين، بالإضافة إلى اتسامهم بالحذر والإتقان والتدبر (بما يعني التروي والفطنة وتلمس الأسباب، وهي سمات المؤمنين الأتقياء).

بقي أن نقول إن هذه السمات تتداخل كذلك مع الذكاء الوجداني  emotional intelligence وربما الذكاء الروحي  spiritual intelligence ويبدو أن الأمر لا يعدو تقسيما نظريات ليناسب دراسة هذا المكون البشري المعقد.

وسواء أتفقنا مع علماء نفس الشخصية في هذه السمات أم اختلفنا معهم، فالأمر يحتاج المزيد من التدبر في معاني الضمير وسر خفاءه في النفس البشرية، حيث إنه أكبر دليل على وجود الخالق عز وجل، بما أودعه من سر المراقبة والتأنيب داخل البشر.

والله أعلم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى