بعض من جماليات سورة الفاتحة.. كل القرآن في أم القرآن

د. خضر محجز | فلسطين

الفاتحة هي مطلع القرآن، وأول سورة في المصحف. فبها يبتدئ القارئ، وعندها يتهيأ لتلقي النبأ العظيم. لذا فقد ناسب أن تجمع بين براعة الاستهلال، وتكثيف المعاني.

فأما براعة الاستهلال فواضحة يستشعرها القارئ بمجرد أن يبدأ بها تلاوته، فينشرح صدره للحمد والتوحيد والعظمة وشمولية الخطاب، ويغدو متهيئاً لمواصلة التلاوة واستقبال الأوامر والنواهي.

وأما تكثيف المعاني فنراه فيما اشتملته من جميع مقاصد الكتاب العزيز(1). فاستحقت أن تسمى بأم الكتاب.

إنه يبتدئ بالجميل المختصر، ليقودك من ثم إلى تدبر التفاصيل، متلهفاً لمعرفة ما سبقت الإشارة إليه. وهكذا شاء الله أن يستهل كتابه المقروء بأعظم سورة في القرآن، وأم الكتاب والسبع المثاني الذي أوتيه رسول الله صلى الله عليه وسلم(2). ولأنها ركن الصلاة الركين، فقد سماها الله ـ سبحانه ـ في الحديث القدسي (الصلاة)، كما سمى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ الحج عرفة، سواء بسواء. قال:

“قسمت الصلاة بين وبين عبدي نصفين. ولعبدي ما سأل. فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين؛ قال الله تعالى: حمدني عبدي. وإذا قال: الرحمن الرحيم؛ قال الله تعالى: أثنى علي عبدي. وإذا قال: مالك يوم الدين؛ قال: مجدني عبدي (وقال مرة: فوض إليَّ عبدي). فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين؛ قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل. فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين؛ قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل”(3).

من هنا فقد علمنا أن أم الكتاب هي دليله، وأنه مدلولها. وشرف الدليل بحسب ما يدل عليه، كما يقول الشيخ الأكبر(4).

وإذا كان القرآن عقيدة وشريعة، وطريقة، وحقيقة؛ فإن كل ذلك دلت عليه الفاتحة: فأما الشريعة والعقيدة فدل عليهما “إياك نعبد” وأما الطريقة فقادت إليها “إياك نستعين” في حين توصل “اهدنا الصراط المستقيم” إلى الحقيقة. فبان بهذا أن الفاتحة اعتقاد وعمل وأسلوب وثمرة. فكلما تأملت في آياتها ازددت رفعة وسناءً، وكأنك تقرأ القرآن كله. فلا جرم أدرك فقهاء الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ فائدتها العلاجية، ورقوا بها من أصابه الضرّ، كما ورد ذلك في حديث أبي سعيد الخدري إذ قال:

“كنا في مسير لنا، فنزلنا منزلاً، فجاءت جارية فقالت: إن سيد الحي سليم، وإن نفَرنا غَيَب، فهل منكم راقٍ؟. فقام معها رجل ما كنا نأبِنُهُ برُقْيَة، فرقاه فبرأ. فأمر له بثلاثين شاة. وسقانا لبنا. فلما رجع، قلنا له: أكنتَ تُحسن رُقْيةً؟ أو: كنتَ ترقي؟. قال: لا، ما رقيتُ إلا بأمِّ الكتاب. قلنا: لا تُحْدِثوا شيئا حتى نأتي ـ أو نسألَ ـ رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما قدمنا المدينة ذكرناه للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: وما كان يُدْريه أنها رقية؟ اقسِمُوا، واضربوا لي بسهم”(5).

وأمّا أنها السبع المثاني، فلأمرين:

الأول: أنها مقسومة بين الله وعبده، كما رأيت: حيث يغيب كل ما يقف حائلاً بين العبد وسيده، ولا يتبقى إلا حضرتان: حضرة الرب وحضرة العبد(6).

والثاني: أنها سبع آيات تتكرر في كل صلاة. ولقد علمتَ أن لا صلاة مكتوبة أقل من ركعتين.

فإذا علمت ذلك، فقد بان لك لماذا لم يستطع أحد من المخلوقين ـ أو جميعهم ـ أن يأتي بمثل هذا الإيجاز الباهر، أو ما يقارب مثله، أو ما يدنو من تخومه، فيبطل رسالة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ التي أزعجت كل الظالمين. وأنْ لو استطاعوا لما عدلوا عن البيان اللساني، إلى القتال المؤدي بهم إلى الأسر أو القتل.

هذا وقد ابتدأت أم القرآن بـ”الحمدُ لله” بصيغة الابتداء المرفوع، لأنه أبلغ من الابتداء بها منصوبة على تقدير فعل محذوف ـ كما قرأ بذلك البعض ـ ففي الابتداء بالمرفوع دلالةً على ثبات المعنى واستقراره. ألم تر أن إبراهيم ـ عليه السلام ـ رد التحية بأفضل منها، حين قالت له الملائكة سلاماً، فقال سلام؟(7).

والحمد في حقيقته عمل القلب. أما ذكره باللسان، فإعلانٌ بالاعتراف بحصول النعمة، وثناءٌ على مانحها، وإشراكٌ للجوارح في عمل القلب. وإذا كانت العادة قد جرت بحدوث المدح قبل الإحسان وبعده(8)، فإن الحمد لا يحدث إلا بعد الإحسان. ألم تشرب ماءً بارداً ذات يوم حارٍ، بعد عطش شديد؟. فماذا استشعرت وأنت تتجرع هذا الماء؟ ألم تر كيف نطق قلبك، من قبل أن تعيد الفكر أو تبدأه: “الحمد لله”! فذلك فضل الحمد على المدح. وذاك ربي وربك المنعم المتفضل، الذي ملأ قلبك بشكره، من قبل أن ينطق لسانك.

وإذا كان الحمد هو تمام الشكر، والثناء بجميل الفعال(9)؛ فقد ناسب أن يحمد الجليلُ نفسه، ثم لا يأذن لغيره أن يفعل(10). إذ لا يستحق تمام الشكر على الحقيقة إلا هو. ومن هنا يتضح أن كلمة الشكر لا تقوم مقام كلمة الحمد أبداً: لأن باستطاعتك أن تقول لمن هو مثلك: الشكر لك. ولكنك لا تستطيع أن تقول له: الحمد لك. وما ذاك إلا لأن أل التعريف هنا تفيد استغراق الجنس، بخلافها هناك(11). فلئن قال قائل: الحمد لله، لقد أثنى علي الله بما هو أهله، وبما هو حقه وملكه، كما توضح ذلك اللام الجارة التي سبقت اسم الجلالة. ومعلوم أن ذلك لا يكون إلا إذا استقر في القلب استحقاقه سبحانه للثناء، إن أعطى وإن منع: إذ كثيراً ما يظن العبد أن الله مانعه ما يهوى، وهو في الحقيقة دافع عنه بلاءً أعظم.

هذا ومن رحمة الله بنا أن علمنا كيف نحمده، ورزقنا الاهتداء لحمده. وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. فله الحمد في الأولى والآخرة. إذ الإنسان عاجز عن حمده حمداً يليق به. ومن هنا لم يكلفه الله الرحمن الرحيم فوق ما يستطيع؛ بل رزقه أن يقول كلمة تعبر عما في قلبه. ولو لم يعلمه إياها لما علمها.

والآن، كم من العقائد وآداب السلوك تراها في هاتين الكلمتين الخفيفتين؟ ولكن إياك أن تغتر أو تنخدع، فإن ما خفي من تأويلهما أكثر مما تقدر على إدراكه العقول. ولكن الله يعطي من علمه من يشاء من عباده على قدر طاعته. “وما يعلم تأويله إلا الله. والراسخون في العلم يقولون: آمنا به كلٌّ من عند ربنا. وما يذّكّرُ إلا أولو الألباب” (آل عمران/7).

أمّا “رب العالمين”: فربُّ كل ما سواه. وكل ما سواه مخلوق له، يربيه ويغذيه ويهديه. فهو: “الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى” (طه/50). لكنّ في إضافة “العالَمين” إلى ذاته سبحانه وتعالى كرماً شديداً. ألا ترى أنه يربيك كأنْ ليس له عبدٌ سواك، ثم أنت تخدمه كأنّ لك أرباباً من دونه! فسبحان من رحم عبيده المقصرين، وغفر لهم، وعلمهم مما يشاء، ثم أدخلهم الجنة برغم كل شيء!

فانظر إلى الإعجاز في آية، تحمل من الأسرار ما هذا قليله! فهل من البلغاء، أو الشعراء أو الشركاء، من يفعل من ذلكم من شيء! سبحانه وتعالى عما يشركون.

أمّا: “الرحمن الرحيم” فرغم أننا نقول في اللغة إنهما “صفتان مشبهتان بُنيتا لإفادة المبالغة”(12)؛ إلا أن ذلك لا ينفي كونهما اسمين من أسماء الله الحسنى ـ كما هو مذهب أهل الحق ـ أحدهما اختص به نفسه، والثاني أمكن عباده من التسمي به، على سبيل المجاز. ولذا فقد كان من أكذب الكذب، وأشنع الكفر، أن يجرؤ مخلوق على ادعاء هذه الصفة لنفسه. ثم علمتْ ذلك العرب بفطرتها، فلم تسمِّ أحداً من أبنائها بالرحمن. ولذا فقد حُق اسم الكذاب على من جرؤ على تسمية نفسه بهذا الاسم. فلما أن جاء مسيلمة وادعاه لنفسه؛ سربله الله باسم الكذاب، سربالاً شنيعاً إلى يوم القيامة، حتى أنه لم يعد يُعرف في الدنيا إلا بهذا الاسم؛ جزاءٍ وفاقا.

ولهذا فقد علمنا أن كان اسم الرحمن يحمل ـ ولا بد ـ من المعاني ما يُعجز الوصف: فمن معانيه الشمول والعموم: فهو سبحانه يخلق ويرزق، وينفع ويرحم، كلاً من البر والفاجر. بل إن الأمر ليتعدى كل وصف، حين ندرك أنه سبحانه وتعالى ربما ترك يوم القيامة عقوبة العصاة، رغم استحقاقهم إياها.

وإني وإنْ أوعدتُه أو وعدتُه     لمُخْلِفُ إيعادي ومُنجزُ موعدي

أمّا “الرحيم” فقد جاء على وزن فعيل، الذي هو أقل شمولاً من “فَعْلان” التي جاء على وزنها “الرحمن”؛ ولذا فقد قيل إن هذا الاسم يحيل إلى لطفه الخاص بعباده المؤمنين، إذ هداهم إلى الإيمان، ووفقهم إلى الطاعة، ثم ختم لهم بالجنة. وربما لهذا السر قُدّم اسم الرحمن على “الرحيم” مع أن العادة قد جرت بالتدرج من الأدنى إلى الأعلى. لكأن اسم الرحيم جاء تتمة لاسم الرحمن، ورديفاً له(13). “كأنه يقول: الرحمة الواحدة لا تكفي لصلاح المخلوقات؛ فذرني وعبيدي، فإني أنا الرحمن الرحيم. رحمتي غير متناهية، ومعصيتهم متناهية. والمتناهي لا يدرك غيرَ المتناهي، فستغرق معصيتهم في بحار رحمتي”(14).

أمّا “مالك يوم الدين”: فتمجيد لله وثناءٌ عليه سبحانه بصفات الجلال(15). وحُقّ لعبد مستغرق في عبوديته أن يملأ قلبَه جلالُ مالكه. فالمالكُ هو ذو المِلك ـ بكسر الميم ـ وهو من مَلَكَكَ، فكنتَ عبدَه، وكان سيدَك. أما الملك فهو ذو المُلك ـ بضم الميم ـ ورغم قول أهل النحو أن الثانية أبلغ من الأولىٰ(16)، إلا أن مجيء القراءتين بهما جميعاً(17) فيه فائدة كبيرة لك، إذ تصبح بين واحدة من حالتين: فإما أن تكون عبداً لمالك يملكك فيرحمك، أو تكون عبداً لملك قوي تستظهر بقوته على الآخرين. لكن حالة ثالثة هي التي يغلب على الظن أنها المرادة، وتلك تقول بأنك عبد لمالك ملك؛ فتجمع بين فائدتين: التمتع برعاية المالك ورحمته، والاعتزاز بركن الملك وقوته.

ولعل من أسرار هذه الآية شمولها للعدل والرحمة معاً، غير أن الرحمة سابقة للعدل كما جاءت بذلك الأخبار(18). فإن جاء يوم الدين ـ هذا الذي يملكه الله سبحانه ـ فقد جاء العدل وحلت الرحمة. أما العدل؛ فإعطاء كل مظلوم حقه من ظالمه. وأما الرحمة؛ فإرضاء المظلوم بالنعيم والجنان، حتى يعفو عن ظالمه.

فاسم المالك هو صفة رحمة، مناسبة لرحمته بالضعفاء والمساكين وعباد الله الفقراء، الذين نسأل الله أن نكون منهم. وأما صفة الملك فهي صفة قوة، مناسبة لرحمته بالأقوياء والعصاة من أمة أحمد. وكلٌّ له في رحمة الرحمن مطمع. ونعوذ بالله من الخذلان.

وقد تقدم “الرحمن الرحيم” على “مالك يوم الدين” إيناساً لأفئدة العباد بالرحمة قبل التكليف. ألم تر أنه يقول يوم القيامة “شفعَتِ الملائكة، وشفعَ النبيون، وشفعَ المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين”(19)، “ولم يقل: وبقي الجبار ولا القهار”(20)!

فإذا جاءت هذه الآية: “مالك يوم الدين” فقد تم القسط المكرس لدعاء العبد سيده، حتى إذا بلغنا قوله تعالى: “إياك نعبد وإياك نستعين”؛ وجدنا أنفسنا بين يديه ـ سبحانه ـ في مشهد خيالي، كأن الصلاة تقف أجسادنا في حضرة الله سبحانه. فلا جرم أن جاءت هذه الآية برزخية ـ كما يقول الشيخ الأكبر ـ وقع فيها الاشتراك بين الحق وبين عبده(21): فأنت تعلم أن ما مضى، من الحمد والثناء والتمجيد والتفويض، خالص لله؛ وأما ما بقي منها فهو دعاء خالص للعبد. وهذه الآية “إياك نعبد وإياك نستعين” جاءت فاصلة ومشتركة: فاصلة بين حمده ودعائك، ومشتركة بينك وبينه: تعبده به، فيعينك ليعطيك. وكل هذا في آية واحدة من أربع كلمات.

عبادة خالصة وتفويض تام!. والعبادة ـ كما تعلم ـ أعلى مراتب الخضوع، وأسمى درجات الانشراح. فإذا أردت أن ينشرح صدرك، فقدم سيدك على نفسك “إياك نعبد”، وقدم المستعان به على المستعين “وإياك نستعين”. فها هنا معرفة وسيلتها العبادة. والكمال لا سبيل إليه إلا بالاستعانة بالمعين.

فإن ظن العبد أنه يستطيع عبادة ربه من نفسه وبنفسه، بقوله: “إياك نعبد”؛ فسيتملكه العجز ويسيطر عليه القصور، إلا أن يتبرأ من حوله وقوته إلى حول الله وقوته، فيقول فوراً: “وإياك نستعين”. وهنا فقط ينبهه سيده إلى قوله: “اهدنا الصراط المستقيم”، فيسلم تسليماً(22)، على غير ما كان عليه المغضوب عليهم، ممن عاندوا الأنبياء وقتلوهم؛ وعلى خلاف ما اتبعهم عليه الضالون، ممن أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً.

والآن دعنا نتأمل ملياً في أسلوب الالتفات هذا: إذ تتحول صيغة الخطاب من الثناء بضمير الغائب إلى الدعاء بضمير المخاطب. أرأيتك العبد حين يدخل في الصلاة كيف يكون؟ إنه يبدأ بالدعاء استعداداً للمثول بين يدي مولاه. فإذا قُبل دعاؤه، فقد دخل في الحضرة العليّة، وصار متوجهاً بخطابه إلى الله دون واسطة. وكأن الله يقول له عندئذ: فأما إذْ أثنيت عليّ بما تستطيع؛ فسأبدلك ببعدك قرباً؛ فتقول لنا مباشرة: إياك نعبد، وإياك نستعين.

دلالة أخرى من دلائل الإعجاز، يشير إليها هذا التحول الآخر من صيغة المفرد إلى صيغة الجمع، في قوله: “إياك نعبد وإياك نستعين”؛ إذ لم يقل إياك أعبد. فخوف العابد من تقديم عبادته مفردة، يدفعه إلى خلطها بعبادة كبار العباد، كالأنبياء والشهداء والصالحين، لعلها تُقبل. فإنهم القوم لا يشقى بهم جليسهم. ألم تر كيف استعان نبي الله إسماعيل ـ عليه السلام ـ على الذبح، بأن زج نفسه في زمرة الصابرين، فجازاه الله ضعف ما أمل وزيادة: رزقه الصبر الذي طلبه، ثم افتداه؟(23).

“اهدنا الصراط المستقيم؛ صراط الذين أنعمت عليهم”: أنت تعلم أن الصراط هو الطريق، لكن في عدول التنزيل العزيز عن كلمة الطريق إلى الصراط، إشارة إلى الصراط الممدود جسراً فوق جهنم. فكأن الهداية هنا تقود إلى الثبات هناك.

والصراط المستقيم هو أقصر طريق ينتهي بصاحبه إلى المقصود. ولذا نرى استرحام العبد المتضرع بادياً في هذا الدعاء. فكما أن العبد عاجز عن الاهتداء إليه دون عون منه سبحانه، فهو كذلك عاجز عن سلوك طوال الطرق. فكأنه يقول: يا رب، كما هديتني إلى سبيل الوصول إليك، فاجعل طريقي أقصر ما يمكن، كي أبلغ بأسرع ما أستطيع.

فانظر كيف هدى الله العبد للإيمان ابتداء؛ ثم علمه كيف يستهديه أقصر الطرق للوصول إليه، ثم لم يدعه حتى رزقه الرفقة الحسنة: “ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين وحَسُنَ أولئك رفيقاً” (النساء/69).

والرفقة الحسنة ـ بحد ذاتها ـ دعاء لله بألسنة لم تعصه من قبل.

“غير المغضوب عليهم ولا الضالين”: المغضوب عليهم هم كل من عرف الحق فأنكره. ولئن جاءت نصوص السنة المطهرة تشير إلى اليهود في هذا الغضب، فإنما حدث ذلك جزاء ما غيروا في التوراة، ثم جزاء ما أضلوا النصارى، الذين اتبعوهم على هذا التغيير، وقبلوه، واعتبروه جزءاً أساسياً من كتابهم المقدس(24).

لكن طريق المغضوب عليهم ـ الذين ندعو الله أن يهدينا عكسها ـ ليست مقتصرة على اليهود ومن كان مثلهم ممن عرف الحق وأنكره فحسب، بل إن عموم اللفظ يتجاوز خصوصية السبب، إلى كل المغضوب عليهم في القرآن، ولو كانوا من غير اليهود.

فلعمري إن من المغضوب عليهم المنفيين عن صراط الذين أنعم الله عليهم ـ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ـ الآتيةُ أوصافهم:

1ـ قاتل المسلم عمداً دون سبب شرعي، لقوله تعالى: “وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً” (النساء/93).

2ـ المتخلي عن واجبه في مواجهة الكفر، لقوله تعالى: “وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ” (الأنفال/16). لأن في فراره من جهاد الكافرين والطغاة نصراً للظلم وفساداً في الأرض.

3ـ شهادة المرأة على نفسها كذباً في الملاعنة، لقوله تعالى: “ويَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِين* وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عليها إِن كَانَ من الصَّادِقِين” (النور/8 ــ 9).

أمّا الضالون فهم ليسوا الذين أضلهم اليهود عن الكتاب فحسب، بل كذلك هم كل من أضله غيره عن الحق فاتبعه، دون أن يُعمل عقله في البحث عن الحقيقة.

وإنه لمن الضالين المنفيين عن صراط الذين أنعم الله عليهم ـ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ـ الآتيةُ أوصافهم:

1ـ القانط من رحمة الله، لقوله تعالى: “ومَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ” (الحجر/56).

2ـ المعارض لحكم الله ـ الثابت المعلوم ـ برأيه الشخصي، وذلك لقوله تعالى: “وما كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينا” (الأحزاب/36).

3ـ قاسي القلب الذي لا يرحم عباد الله ولا يتعظ بكتابه، لقوله تعالى: “فوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِين” (الزمر/22).

4ـ الذي يُدعى إلى الله ـ بطريق صحيحة ـ ثم يستكبر ويتولى عن الهداية بعد أن تبينت له، لقوله تعالى: ” وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِي اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِين” (الأحقاف/32).

فالحمد لله الذي جعل رحمته هي الموجود الأول، الذي تدلل عليه هذه السورة أيما تدليل: إذ ابتدأت بالحمد والرحمة، ثم ثنت بصفات القوة والقهر، قبل أن تلوح بالغضب والإضلال. وفي هذا الترتيب إشارة إلى ما علمناه جميعاً؛ من أن رحمته سبقت غضبه: في أم الكتاب أولاً، وقبل خلقه المخلوقات ثانياً(25)، ثم في أول افتتاح الوجود ثالثاً(26).

أرأيت كيف تجمع أم القرآن القرآن كله!.

ــــــــــــــــ

الإحالات:

1ـ انظر: جلال الدين السيوطي. معترك الأقران. ج1. ص58

2ـ إشارة إلى حديث أبي سعيد بن المعلى، قال: قال رسول الله عليه وسلم: “أَلا أُعلِمك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد؟ ثم أخذ بيدي. فلما أراد أن يخرج قلت: ألم تقل: لأُعلِّمنَّك سورة هي أعظم سورة في القرآن؟. قال: الحمدُ للَّهِ رب العالمين قال: هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتِيتُه”. متفق عليه.

3ـ صحيح مسلم.

4ـ انظر: محيي الدين ابن عربي. الفتوحات المكية. السفر الثاني. ص185

5ـ متفق عليه.

6ـ انظر: محيي الدين ابن عربي. الفتوحات المكية. السفر الثاني. ص187

7ـ انظر: تفسير الكشاف. وتفسير النيسابوري. في تفسير الآية 69 من سورة هود.

8ـ ولهذا كثيراً ما يكون المدح كذباً. ألم تر أن الشعراء يثنون على الممدوح بما ليس فيه، رغبة ورهبة، فيفشو النفاق في المجتمع؟ ولهذا “أمَرَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن نحثو في وُجوهِ المدَّاحين التراب”. صحيح مسلم.

9ـ انظر: شرح النووي على صحيح مسلم. ج4. ص104

10ـ الإشارة إلى قوله تعالى: “فلا تزكوا أنفسكم، هو أعلم بمن اتقى” النجم/23

11ـ انظر: تفسير القرطبي. ج1. ص133

12ـ تفسير الألوسي. ج1. ص58

13ـ انظر: تفسير الطبري. ج1. ص45 وتفسير النيسابوري. ج1. ص78

14ـ تفسير النيسابوري. ج1. ص99

15ـ انظر شرح النووي على صحيح مسلم. ج4. ص104

16ـ انظر: محيي الدين الدرويش. إعراب القرآن الكريم وبيانه. ج1. ص30

17ـ انظر: تفسير الطبري. ج1. ص50

18ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ الله قد كتب كتاباً قبل أن يخلق الخلق: إن رحمتي سبقت غضبي. فهو مكتوب عنده فوق العرش”. متفق عليه.

19ـ متفق عليه.

20ـ محيي الدين بن عربي. الفتوحات المكية. السفر الثاني. ص204

21ـ انظر: محيي الدين بن عربي. الفتوحات المكية. السفر السادس. ص291

22ـ انظر: محيي الدين بن عربي. الفتوحات المكية. السفر الثاني. ص204

23ـ الإشارة إلى قوله تعالى: “قال: يا أَبتِ افعلْ ما تُؤمَرُ. ستجدني إن شاء الله من الصابرين” الصافات/102

24ـ يتكون الكتاب المقدس عند النصارى من جزأين: العهد القديم: وهو التوراة كما أوصلها إليهم اليهود؛ والعهد الجديد: وهو روايات الأناجيل المختلفة عن عيسى عليه السلام.

25ـ الإشارة إلى قوله صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ الله قد كتب كتاباً قبل أن يخلق الخلق: إن رحمتي سبقت غضبي”. متفق عليه.

26ـ الإشارة إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “لما نُفخ في آدم، فبلغ الروحُ رأسَه، عطس، فقال: الحمد لله رب العالمين. فقال له تبارك وتعالى: يرحمك الله”. أخرجه ابن حبان في صحيحه عن أنس بن مالك، وقال: إسناده صحيح على شرط مسلم. 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى