فلسطين وفرص اندلاع الانتفاضة الثالثة
نهاد أبو غوش | فلسطين
لا يخلو يوم واحد من مواجهات بين الشعب الفلسطيني والاحتلال الإسرائيلي، وهذه المواجهات قد تعمّ جميع الأراضي الفلسطيني المحتلة كما حصل في شهري نيسان / إبريل، وأيار /مايو من العام 2020 والتي شهدت أحداث باب العامود في القدس والشيخ جراح والداخل المحتل عام 1948 وخاصة في مدن اللد والرملة وعكا وقبلها في أم الفحم، والحرب الإسرائيلية الرابعة على قطاع غزة، وأحيانا قد تتراجع هذه المواجهات لتقتصر على مواقع وقرى بعينها كما يحصل في قرى بيتا وبرقة وبيت دجن وبزاريا في محافظة نابلس. أحيانا قد تتخذ المواجهات طابعا عنيفا ومسلحا، فرديا أو جماعيا، عفويا أو منظما، وأحيانا تأخذ طابعا سلميا، وتقتصر على المسيرات والاعتصامات وحملات التضامن مع الأسرى، ومن المحطات التاريخية المميزة في نضال الشعب الفلسطيني الانتفاضتان الكبريان حيث اندلعت الانتفاضة الأولى (الكبرى) في أواخر العام 1987 واستمرت عدة سنوات حتى خبا وهجها تدريجيا مع توقيع اتفاق أوسلو في العام 1993/ والانتفاضة الثانية التي اندلعت في أيلول من العام 2000 وكان سببها المباشر زيارة أرييل شارون (زعيم المعارضة اليمينية الإسرائيلية آنذاك ولا حقا رئيس الحكومة) الاستفزازية للمسجد الأقصى، لكن سببها الأهم كان فشل مفاوضات كامب ديفيد بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي برعاية الرئيس الأميركي السبق بيل كلينتون، هذه الانتفاضة ظلت مستعرة ايضا لعدة سنوات حتى العام 2004 وهو العام الذي استشهد فيه الرئيس ياسر عرفات.
لقد جرى توظيف الانتفاضتين السابقتين بشكل استخدامي وانتهازي من قبل قيادات سياسية غلّبت مصالح فئات وشرائح محدودة على حساب مصالح جميع الشعب، فالانتفاضة الأولى انتهت إلى اتفاق أوسلو الذي شكل هبوطا فادحا عن سقف الأهداف الوطنيةن بينما تحولت الانتفاضة الثانية إلى شكل من الفلتان والفوضى والاحتلااب الداخلي الذي قاد إلى الانقسام.
كثير من الصحفيين والإعلاميين والمحللين يطرحون سؤالا دائما عن إمكانية اندلاع انتفاضة ثالثة، بل إن قوى سياسية بعينها تدعو إلى تطوير المواجهات الجماهيرية المتفرقة إلى انتفاضة شاملة، وتعتبر أن هذه هي المهمة المركزية لحركة التحرر الوطني الفلسطيني لتغيير موازين القوى بين الشعب الفلسطيني وقواه المناضلة من جهة وبين الاحتلال وحلفائه وأدواته من جهة أخرى، فهل هذا ممكن وواقعي ومتاح في الأفق القريب والمنظور؟ هل يمكن أن تتطور اشكال المقاومة العفوية المتفرقة إلى هبة أو انتفاضة شاملة، أو كما يسميها البعض عصيانا وطنيا شاملا؟
مبدئيا تمثل الانتفاضة شكلا راقيا وتعبيرا عن احتدام التناقضات بين الشعب والاحتلال ووصولها إلى مرحلة يصعب تسويتها أو تهدئتها أو تسكينها بكل وسائل المسكنات من تسويات مؤقتة أو حلول سياسية عابرة أو تسويات تحاول تزيين وجه الاحتلال أو تحسين شروطه دون الخلاص منه، وما من شك أن العلاقة الطبيعية التي يفترض أن تحكم العلاقة بين شعب خاضع للاحتلال أو الاستعمار وبين القوة الغاشمة التي تقوم بالاحتلال هي علاقة الصراع والمقاومة وليست علاقة التعايش، ولذلك فإن بروز مظاهر المقاومة المسلحة والجماهيرية وكل مظاهر رفض الاحتلال هي تعبيرات متفاوتة في شدتها عن موقف رفض الاحتلال، بينما التسويات المؤقتة بما في ذلك الحلول السياسية المؤقتة، ومظار الانتعاش الاقتصادي والتسهيلات المؤقتة، هي ظواهر عابرة ولا يمكن لها أن تصمد أو تدوم تدوم طويلا ، لأن الاحتلال في جوهره هو عملية عدوانية تقوم على النهب والسطو والاستلاب وهو يمثل تعديا على الحقوق السياسية والمدنية للشعب المستعمر، وانتقاصا من كرامة الشعب الخاضع للاستعمار وحقوقه وسيادته. وهكذا فإن كل مظاهر رفض ومقاومة هذا المستعمر هي تعبير عن التمسك بالحقوق الأصيلة للشعب الخاضع للاستعمار/ الاحتلال وفي مقدمتها حق تقرير المصير والسيادة على التراب الوطني.
لكن أي نجاح في تحويل النَضالات اليومية والعفوية والجزئية إلى انتفاضة شاملة أي إلى نمط حياة مستمر ومستدام ينتهي بالانتصار والاستقلال الوطني، تتطلب مجموعة من الشروط أهمها نضج الظروف الذاتية والموضوعية، وهي تشمل عوامل متداخلة ومتبادلة التأثير من بينها الاستعداد الكفاحي لقطاعات واسعة من الجماهير، ونضج الحركة السياسية وجهوزية أدواتها، وتوفر الحد الأدنى من الوحدة الوطنية والتشكيلات السياسية الموحدة التي تعبر عن هذه الوحدة من خلال امتلاك برنامج عمل موحد يخاطب الحاجات اليومية المباشرة للناس والأهداف البعيدة في نفس الوقت، إلى توفر ظروف موضوعية مواتية من الدعم الدولي.
الظروف الموضوعية الآن تبدو مواتية جدا لانتفاضة ثالثة من زاوية احتدام التناقضات مع الاحتلال في ضوء اتضاح مشروعه لتصفية الحقوق الوطنية، والاستعدادات الكفاحية العالية جدا التي يبديها أبناء وبنات الشعب الفلسطيني، لكن الظروف الذاتية تبدو غائبة تماما في ضوء الانقسام السياسي وغياب أدوات العمل الوطني الموحد واستمرار الرهان على الحلول التفاوضية والتسويات، إلى جانب نشوء مصالح وامتيازات لدى شرائح وفئات طفيلية سوف تستميت في الدفاع عن مصالحها الفئوية حتى لو كانت على حساب المصلحة الوطنية العامة، وبالتالي فإن الشراكة والوحدة الوطنية – شرط الانتصار- تمثل عبئا على هذه الشرائح وتنازلا لا يبدو أنها مستعدة لتقديمه في هذه المرحلة، وهو ما يتطلب نضالا داخليا مستمرا ومثابرا لتغيير موازين القوى الداخلية والضغط المستمر للحد من وزن وتاثير هذه الشرائح الطفيلية في القرار الوطني الفلسطيني