غزة و عبد الرحمن.. معجزة البقاء والإبداع
زياد خداش | فلسطين
مثلما نهض وجه عبد الرحمن من حريق المكان في ٢٠٠٨ وصار الآن طالب فيزياء في سنته الرابعة بجامعات غزة ستنهض غزة من حريقها لتلهم العالم معجزة البقاء والإبداع.
حبيبي عبد الرحمن
منذ بداية العام الدراسي وأنا مضرب عن الضحك، أشعر بوجع في وجهي حين أضحك!!.
ذهبت إلى طبيب الأعصاب، فلم يجد سبباً جسدياً لحالتي، لكنه حين عرف قصة عبد الرحمن هزّ رأسه، وقال: الآن فهمت، أنت تعاني من مرض اسمه مرض (التماهي العضوي مع أوجاع الآخرين).
جاء التلميذ عبد الرحمن من غزة إلى مدرستي، قال لي جملةً واحدةً بعدها صرت شخصاً غير قادر على الضحك: “أستاز، أنا لما بضحك بوجعني وجهي”.
هو طفل في الصف الرابع، لمحته بالصدفة أثناء تجوالي الضجر في الساحة، كان يجلس وحيداً في الزاوية، بوجهه نصف المحترق وعينيه غير المصدقتين أي شيء يحدث حوله: “أستاز، لما قصفت الطيارات حارتنا كنت وقتها بلعب مع محمد صاحبي، محمد مات وأنا انحرق وجهي”. شرح لي عبد الرحمن قصة الحرب أكثر من مئة مرة، بعشوائية طفولية منهكة، خرجت من قصته بثلاث حقائق مكررة بإلحاح، هي: الحريق الذي أكل نصف وجهه، وصديقه محمد الذي قضى تحت القصف، ثم لطف الممرضات اليهوديات في مستشفى (هداسا). “أستاز، ساعدني أكتب قصة الحرب، بقولوا عنك بتكتب قصص، أنا شاطر في الكتابة، جربني بس، شو رأيك أستاز انسمي الكتاب أنا ومحمد والحرب؟”.
عبد الرحمن رسام أيضاً، رسم كثيراً من اللوحات في غزة وألصقها على حيطان الحارة، طلبت منه أن يرسم، فتدفق هدير الدبابات وصياح الأطفال المتألم من لوحاته، جاء المدير وبعض المعلمين متلهفين، دهشوا من الموهبة، عانقوه.
“كل شهر بدقوني في هداسا إبرة طولها شبر يا أستاز، عشان الحرق يخف، وبعد شهرين راح أعمل عملية تجميل، راح يرجع وجهي زي قبل يا أستاز، راح أرجع أضحك وأسمعك ضحكتي، غزة والضفة راح يسمعوا ضحكتي. أستاز في على راس منخارك إشي أحمر، شو هادا، حرق؟”.
في المكتبة كان عبد الرحمن يرقص على إيقاع موسيقى، يد تعزف على غيتار غير مرئي، ويد أخرى تتحسس وجهه بفزع، عيناه ما زالتا غير مصدقتين أي شيء يحصل في العالم، يقول للطلاب فجأة سارقاً مني صلاحية سؤالي وإدارتي للحصة: “احزروا شو قصة رقصتي؟”. يقول الطلاب قصصاً كثيرة، وأقول أنا، أيضاً، قصة ما، لكن عبد الرحمن يخيّب ظننا بغضب ويصيح: “ولكم هاي قصة الغيتار اللي كنا نعزف عليه أنا ومحمد، ما حدا فيكم بعرف قصتي وقصة محمد، كنا نعزف على الغيتار إللي أهدانا إياه راجل أجنبي أشقر كثير، كمان هاي قصة وجهي إللي انحرق بنار الطيارة. إنتوا شو بعرفكم ؟”.
لم يعد طلابي يضحكون في الصف، قلت لهم: “الضحك يؤلم وجه عبد الرحمن، تضامناً مع ألم عبد الرحمن، سنوقف الضحك مؤقتاً حتى تلتئم بشكل جيد جروح وجهه”. وافق طلابي بتأثر، قطبوا جباههم، توقفوا عن قول النكات، وكان إذا نسي أحدهم وقال نكتة هجم الطلاب على فمه وأغلقوه، أما أنا فقد ألغيت القيام بحركات مضحكة وقراءة القصص المضحكة عن شخصيات مخترعة كخميس الضخم عاشق الملفوف، الذي بول على نفسه لأنه خاف من الفأر.
(أستاز ممكن بلفونك؟ بدي أحكي مع خالتي أم محمد، بتحب تسمع صوتي، هي بتحكي لأمي في غزة دائماً، خلي عبد الرحمن يكلمني، أستاز ما تزعل مني لأني ما بضحك لما إنت بضحكنا، أنا ما بقصد، أنا بحب الضحك كثير، بس عشان حُرق وجهي لما أضحك بصير وجهي يوجع كثير، بصير يشعط شعط أستاز. يا أستاز هات بلفونك، إنت إمبين بخيل؟ أستاز ما جاوبتني شو هذا الإشي الأحمر اللي على راس منخارك شكله حرق قديم؟
