لمن نكتب؟
بقلم: عمر اليدري أفيلال | كاتب من المغرب
لعل سؤالا من هذا القبيل، لا يبعد أن يكون قد ساور من يمتهن الكتابة، سواء ألقاه على نفسه عن حيرة، أم تلقاه من غيره لشيء ما في نفس الملقي، في العادة من يقرأ فقط ليس كمن يكتب وهو قارئ ؛ لأنه قد لا يعايش ما يعتمل في صدر الكاتب، لحظة استلاله القلم بغية إنشاء نص، حشا معانيه التي اقتنصها من بنات أفكاره، زبدة ألفاظ حوتها اللغة، برصف بعضها إلى بعض في تركيب، قد يكون حباه ببعض عنايته، ووشاه ببراعة أسلوبه.
جهد يختلف البذل فيه من ذي قلم إلى آخر مقدار مكنته من اللغة، ودرجة ارتقائه في سلم البيان، فلمن يتجشم هذا العناء في إخراج هذا “الهراء” -جريا على تعبير صديقي أحمد- من بئر الأفكار المظلمة إلى ضياء الألفاظ المتلألئة؟ ولعل ثمة جواب جاهز ينتظرنا على الرف كأن يتخذ الكاتب من ذاته غاية يكتب إليها، أو بعبارة أدق يفترض فيه ألا يطلق لقلمه العنان إلا لها، فتتنزل النفس منه إذاك منزلة المتلقي من الكاتب، وليس ذاك بغريب؛ فرضى الناس غاية لا تدرك، فما تعده جميلا قد يراه غيرك “هراء”، وما تنفق فيه أحرفا قد يودعه غيرك سلة المهملات.
إلى هنا يبدو الأمر قد حسم فيه؛ فالكتابة تحوز من الذاتية نصيبا أوفرا، رقيا بالأفكار، واستذكارا للمعارف، وتنمية للأسلوب، فلن يرتقي الشادي بحصيلته من القراءة إذا لم يخض معها غمار الكتابة، فالأفكار تتبلد، والقلم يصدأ، والمعاني تنضب مع الوقت حتى يصيبها الجفاف.
لأنها لم تجد وهي في نمو من يتعهدها تنمية وصقلا، لكن لا نغالي إذا ما قلنا أنه ثمة في زاوية من زوايا ذهن المرء سؤال ملح يستبد بتلابيب فكره، إذا كان الأمر يجري على هذا النحو جريان النجوم في الكواكب، والكتابة غاية ذاتية، فلم يودعها بين دفتي كتاب؟ أو بين دفتي صفحة من صفحات العالم الافتراضي؟ لم لا يكتفي بالنظر إلى هرائه وحده وهو مستلق على سريره الدافئ منتشيا برصفه ما شاء الله له أن ينتشي؟ أما كان حري به ألا يتكبد إلى عناء الخلق الأدبي عناء في الرقن والنشر؟
لعل حاجة الإنسان إلى إبداء آثاره -سيما الكاتب الذي أوتي ملكة في البيان- تضاهي حاجته إلى التعبير عن ذاته، ولا يكون ذلك منه على ما يبدو إلا رغبة في تقويم تلكم الآثار، وتعديل نظرته إلى العالم؛ الذي إن تهيأ له منفذ منه إليه فثمة منافذ أخرى قد غابت عنه فيه، ولعل لانج قد أصاب المحز بحديثه عن أن إدراك الإنسان لذاته يختلف عن إدراك الآخرين له.
ومنه فخبرته بنفسه تختلف عن خبرتهم به؛ لأنه لا يستطيع أن يتجرد من ذاته تجردا يتيح له النظر إليها من بعيد، ليتأتى له بعد إدراكها إدراكا تاما، وهنا كما هو بين فالمبدع أحوج ما يكون إلى المتلقي؛ لأنه يحقق له بعض غايته من نفسه؛ إذ يملأ فجوات إدراكه لذاته، ومعرفته بحقيقة أمره، فينكب بذلك على تعديل نظرته إلى العالم؛ وعليه فلا يقل -في نظرنا- توخي الكاتب ذاته عن توخيه المتلقي بالكتابة إليه.
كنتُ هنا وقرأتث لك، واستمتعتُ. بما نسجته، وخطّت يمينك. وفيّتَ وكفّيتَ، لا شلّت يمينك. دمتَ ودام نبض قلبك وقلمك خفّاقا، في انتظار المزيد.