مقال

في دلالات ومعاني المعرض الدولي للخشب في العاصمة الإسماعيلية بمكناس

رواق صيانة الذاكرة وحفظ التراث ضمن هذا المعرض 2024

د. عبدالله الطني في ندوة المعرض يوم الأربعاء 6 مارس
في البداية لا بد من تحية للحضور المتتبع لهذه الندوة، من أطر غرفة الصناعة التقليدية، ومسؤولي المياه والغابات، والسيد سلام العربوني، الباشا والشاعر والمفكر والفاعل الجمعوي.. وهي مواصف قَلَّما تجتمع في شخص واحد، وإن اجتمعت لا يكون عنها سوى الخير العميم والتجربة الإنسانية التكاملية.
وأحيي أيضا السيد الإسماعيلي رؤوف، رئيس جماعة المشور الستينية، المكناسي المكناسي حتى النخاع، والذي لا يُخاصم ولا يُصالح إلا من أجل مصلحة مكناس، ومكانتها التراثية في ذاكرة أهل مكناس وكل المغاربة.
وتجدر التحية كذلك لطالبات وطلبة مركز التكوين المهني، من شعبة الصناعات الخشبية، وشخصيا أعتبر حضورهم بيننا في هذا المعرض، وهذه الندوة، يحمل وعيا بأهمية التربية على الذاكرة التراثية، باعتبارها رصيد هويتنا الوطنية.
إن عنوان مداخلتي هذه يستضمر أطروحة أساسية، مفادها أن أهمية الأقوال والأفعال والأحداث، لا تكمن في ذاتها وصورتها فقط، بقدر ما تكمن في دلالاتها ومعانيها. فلا أهمية لوجودنا إلا بمعناه ودلالاته الثقافية والحضارية والإنسانية.
وانطلاقا من هذه الأطروحة بالذات أقول: إن هذا المعرض ليس مجرد حدث روتيني دوري للاحتفاء بالخشب وبالمهتمين بصناعته، ولا هو مجرد احتفاء بثروة من ترواث المغرب… وإنما هو، بالإضافة إلى كل هذا وذاك، حدث يحمل أكثر من معنى ودلالة. ويمكن إبراز، على الأقل، خمس دلالات استراتيجية من تلك الدلالات:
1 – الدلالة الانثروبولوجية:
من معاني الانثروبولوجيا البحث في أصل الحياة الإنسانية ومظاهرها الاجتماعية والثقافية. وأقصد بالدلالة الانثروبولوجية هاهنا تلك النقلة من الطبيعة إلى الثقافة، ومخلفاتها وآثارها في حياة الإنسان. وفي موضوعنا هذا تلك النقلة من الخشب في ذاته، إلى الخشب في امتداداته الحرفية والثقافية، بواسطة المهارة الصناعية، والتي نلمس أثرها في عمراننا ومتاحفنا، وتجلي عبقرية الصانع المغربي وموهبته المشهود له بها عالميا، كما هو الشأن في محفل اليونيسكو الثقافي.
2 – الدلالة الانطولوجية اوالوجودية:
وأقصد بها تلك الأهمية الحيوية التي يحتلها الخشب في الوجود الإنساني، بحيث رافق هذا الوجود في مختلف مراحله وتجلياته ونقلاته النوعية.
– فبواسطته تلقف الإنسان الشرارة الأولى للنار عن زناد الحجر، وعن النار كان كل ما كان..
– وبواسطته أيضا ركب الإنسان البحر وشق العباب، ليكتشف آفاقا جديدة. وعن ذلك كان ما كان من انتشار وتلاقح الحضارات الإنسانية فوق كوكب الارض، سواء في حوض البحر الأبيض المتوسط، او في غيره من الأحواض..
– وبواسطة اللوح المحفوظ ربطنا بين لغة الأرض ولغة السماء، ونحن نكتب على متنه ونحفظ آيات القرآن الكريم، ونكتسب منه الخيرات والبركات.
– وبالمحراث الخشبي أيضا شق الإنسان صدر الأرض ليضمن عيشه ومعيشه، ويدخل بذلك مرحلة الفلاحة والزراعة التي أحدثت نقلة نوعية في حياته.
وبواسطة الخشب أيضا حقق الإنسان النشوة والطرب بواسطة العديد من الأدوات الموسيقية الخشبية، كالعود والوتر وغيرهما..
– وفوقه كنا ونحن أطفال نحمل خبزنا إلى الفرن الذي يُطهيه أيضا بواسطة الخشب، ومنه نبدع سيارتنا الخشبية ونلعب ونحن نسابق بعضنا..
– وأخيرا، إذا ما الواحد منا تعب وخانه الجسد وداهمه الأجل، يحمله الخشب إلى مثواه الأخير.
أليس الخشب إذاً هو رفيق الوجود الإنساني من المهد إلى اللحد؟
3- الدلالة الهوياتية الذاكراتية:
وأقصد بهذه الدلالة أن احتفالية معرضنا المبارك هذا تجسد، من ناحية أخرى، هويتنا وذاكرتنا الثقافية، وبالتالي أصالتنا الحضارية. وهي الأطروحة التي تشتغل بمقتضاها جمعيتنا هذه، والتي من أهم رهاناتها صيانة الذاكرة وحفظ التراث في العاصمة الإسماعيلية، بمختلف مظاهره ومستوياته، معتبرين أن تراثنا محددٌ أساسي من محددات هويتنا، بحيث أن ما يعطي للأمم والشعوب أهميتها هو هويتها بين الأمم والشعوب، ومدى عمقها وغناها ووعيها وشعورها بهويتها في ذاتها وامتداداتها. وهو ما تجسده الأمة المغربية، وما يجلب لها الكثير من التقدير والاحترام لدى المجتمع الدولي في محافله الثقافية، وأيضا الكثير من الحسد من طرف جهات معينة لها عقدة هوياتية وتاريخية تجاه وجودها.. فهل يمكن أن تحيا الأشجار بدون نصْغٍ، والأجساد بدون روح،وهل يحيا الوعي بدون ذاكرة، وتوجد الأمم بدون هُويّة؟ !
4- الدلالة التكاملية:
وتتجلى هذه الدلالة في ذلك التكامل البنيوي بين مختلف مكونات تراثنا، بحيث ان كل مكون من مكوناته يحيل إلى غيره من المكونات، في نسق يشكل كلية تراثية متكاملة. وما حضورنا كجمعية مدنية تعتني بالذاكرة والتراث، في فعاليات هذا المعرض إلا دليل على ذلك. بحيث استحضرنا في رواقنا العديد من العناصر الخشبية التراثية التي تنتمي إلى مراحل مختلفة من تاريخ المغرب، وأخرى لها علاقة بالمعيش اليومي للمجتمع المكناسي، وابداعات شعرية وملحونية تتغنى بتراثنا وتمجده، بل استحضرت شخصيات تعتبر في حد ذاتها تراثا وشاهدا في الآن نفسه على تراث المدينة، مثل الأستاذ العالم العلامة سيدي محمد الحسني الحسيني أطال الله عمره.
5 – الدلالة الايكولوجية :
وهي الدلالة التي تجسدها هذه الندوة التي تصب في مجملها في ضرورة التربية على صيانة محيطنا الايكولوجي ككل، وضمنه محيطنا الغابوي، الذي يعتبر الخزان الأساسي لتروثنا الخشبية، وما يرتبط بها من صناعات، والذي أصبح، مع كامل الأسف مهددا بفعل عوامل طبيعية، وأخرى بشرية..
بهذه المعاني والدلالات إذاً نحتفي اليوم بالمعرض الدولي للخشب بمكناسة التراث، ومكناسة التاريخ والعراقة الحضارية، ونحتفي كذلك بمبدعينا في هذا المجال..
ولا بد أن نهنئ في الأخير كل الذين صهروا على التنظيم الرائع لهذا المعرض، وعلى رأسهم رئيس غرفة الصناعة التقليدية بمكناس السيد عبد المالك البطيني، الإنسان والاديب والمدبر الحكيم لهذا القطاع الحيوي، ولهذا المعرض الذي ضم أروقة لأهم صناع ومعلمي مكناس، سواء من الجيل القديم أو الجيل الجيد، ولمختلف المدن المغربية، وبعض الدول الشقيقة. وهو ما يجلي مظهرا آخر من مظاهر التواصل والتكامل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى