مقال

إنه الإبداع في أسمى معانيه

قم فتش عما تملك فقد تجد كنزا ثمينا ينفع العالم بأسره

خالد رمضان| كاتب مصري – صلالة
الإبداع بكل صوره، وأشكاله، وألوانه عبقرية سامقة في سماء الفن والذوق الرفيع، تتفتق له عقول خارقة قد جابت الٱفاق محلقة في فضاء الجنون فلا يستقر لها حال، ولا يهدأ لها بال حتى تصل إلى مكنوناتها، فتُخرج لنا فنا ليس له مثال، فكأنه الدر المكنون الذي بهر العالم سطوعا ولمعانا.
ما أروع أن يمتطي شاعرٌ صهوة جواده فتتناثر تحت غبار حصانه أبيات تأسر القلوب والعقول والنفوس، فتطرب لها الٱذان، وتسمع لأوتار الحس أنينا كأنين الأم الرؤوم إلى ولدها الرضيع.
إن هذا الشاعر قد نسج قصيدة ماتعة، بمعاني اللفظ وبجمال اللغة، وبفصاحتها وبلاغتها جامعة ناصعة، قد حار فيها الأدباء، وعجز عنها البلغاء والفصحاء، ارتجلها صاحبنا في غمضة العين، وفي غفلة من الزمن بعدما اعترته رِعشةٌ، فانتفض لها انتفاضة العصفور من البلل، ثم تجدها قد سالت على صفحة لسانه كالشهد المقطر، تحار فيها الأفهام، وتذوب لها القلوب، وتعجز أمامها العقول، ويشهد لها الكبير والصغير، وكأني بقول المتنبي:
أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصمُ.
ثم تسري هذي الأبيات الرائعة سريان النار في الهشيم، ويناقلها القاصي والداني حبا وإعجابا لها وبها، وصاحبها يتناول فنجانا من القهوة، أو كوبا من الشاي ولا يلقي لها بالا .
إنه الإبداع في أسمى صوره ومعانيه.
وتأمل ذلك الملحن العبقري الذي رسم بوتره لوحة موسيقية يقف لها الزمان مصفقا، ويبهت لها الجمهور إعجابا وانصداما.
إن هذين المبدعين، الشاعر والموسيقار قد أوجدا هذه الأعمال من العدم، فلم يسبق لعمليهما أحد من قبل إنس كان أو جان، بل امتدت عقولهما المجنونة حتى غردت خارج السرب في عالم غير عالمنا الدوني، بل هو عالم من وحي أخيلتهم يفوح نفورا وإعراضا، فلا هو منا ولا نحن منه.
إنه الإبداع في أسمى معانيه.
وحين تقع عيناك في إحدى الحدائق الغناء على رسام هنا أو هناك، قد نصب قوائم حامل عليه لوحة خشبية، أو ورقية، تتناثر بين يديه ألوانه الخشبية أو المائية، وقد انتكش شعر رأسه، ولطخت الألوان جبهته أو وجنتيه، ممسكا بفرشاته الصغيرة يجسد ما يراه ماثلا أمام عينيه، فلا يتحدث إلى أحد، ولا يتحدث أحد إليه، بل ترمقه العيون من بعيد، وكأنها ترتقب لحظة ولادة متعسرة، حتى يتمخض الحدث عن إبداع تلمع له عيون الناظرين، وتبتسم له شفاه الحاضرين .
إنه الإبداع في أسمى معانيه.
هذا الإبداع نقف له جميعا تقديرا واحتراما وإجلالا، فقد عمل أصحابه على إمتاع أسماعنا، وأبصارنا، وعقولنا، ومشاعرنا وجميع أحاسيسنا، وخلّد أسماء أصحابه في سجلات الزمن، فتظل سيرتهم ما دامت أعمالهم.
ولو تأملنا حال هؤلاء المبدعين الذين شغلوا الدنيا بأشعارهم، أو خطبهم، أو قصصهم، أو مقطوعاتهم الموسيقية، أو جميع أعمالهم الأدبية فسنجدهم- وفي الغالب – كانوا يعيشون في عزلة، ويبيتون في خلوة، قد ضحوا بأوقات سمرهم، وتنازلوا عن لحظات اللهو والعبث التي ضاعت فيها أعمارنا، فعاشوا مع أنفسهم، ولأنفسهم يتحدثون، فسبحوا في بحار أخيلتهم حتى شقت سفنهم أمواج الحياة، فغاصوا في أعماق بحارهم المتلاطمة حتى خرجوا بما أفاء الله به عليهم.
وفي النهاية أقول لك ولنفسي:قد أكون أنا أو أنت ذلك المبدع الموهوب ونحن لا ندري، ولكن نحتاج إلى أن ننقب عما منحنا الله تعالى إياه، فتلك النفس البشرية عظيمة الصنع، قد أبدعها الله تعالى أيما إبداع، وعلى حد قول الشاعر:
أتزعم أنك جرمٌ صغير
وفيك انطوى العالم الأكبر؟
قم فتش عما تملك فقد تجد كنزا ثمينا ينفع العالم بأسره

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى