في ذكرى خليل توما
بقلم: جميل السلحوت
قبل أببعة أعوام وفي 12 فبراير 2019 اختطف الموت الشّاعر الجميل “كارلوس” خليل توما، وشاعرنا الرّاحل لا يزال وسيبقى حيّا لأجيال قادمة رغم أنّه غادرنا جسدا، لكنّ سيرته العطرة ستبقي اسمه خالدا، وأشعاره الملتزمة ستبقى خالدة، وكما قال الرّاحل الكبير سميح القاسم في تأبين صديقه الشّاعر الكونيّ محمود درويش:” إذا مات الشّاعر فإنّ الشّعر لا يموت”، ويعني بذلك أنّ الشّعر يخلد شاعره، وبالتّالي فإنّ خليل توما سيخلّده شعره.
والفقيد الرّاحل خليل توما المولود عام 1945م أبرز الشّعراء الذين أسّسوا للقصيدة وللشّعر في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة عام 1967م، بل هو من أبرز مؤسّسي الحراك الثّقافي في الأراضي المحتلّة، ويتجلّى ذلك بأنّه واحد من مؤسّسي تجمّع “كتّاب البيادر” عام 1978، وهو أحد مؤسّسي رابطة الكتّاب الفلسطينيّين في الضّفّة الغربيّة وقطاع غزّة، وشغل عضويّة هيئته الإداريّة.
كما أنّه عمل حوالي عقدين في صحيفة الفجر المقدسيّة باللغة الإنجليزيّة، فقد كان يجيد الإنجليزيّة بطلاقة، كما عمل في قسم الاستقبال في فندق “الكولونيّة الأمريكيّة.
ولم يقتصر نشاطه على المجال الثّقافي فقط، فهو أحد مؤسّسي نقابة الفنادق، وشغل عضوا منتخبا في هيئتها الإدارية لسنوات عديدة.
وخليل توما الشّاعر المبدع والنّقابيّ النّشيط تحلّى بصفات حميدة يفتقدها كثيرون، امتاز بالصّدق والأمانة والمثابرة، لم يكن كثير الكلام، وكان يعرف متى يتكلّم ومتى يسكت، أحب النّاس فبادلوه حبّا بحبّ، لم يعرف الطّائفيّة في حياته، وأذكر أنّه وقف ودعم فتاة مسيحيّة الدّيانة، تزوّجت من مسلم، فقاطعها أهلها والكنيسة، لكن خليل لم يتخلّ عنها، واحترم خيارها بالزّواج من مسلم، وهو يردّد، كلّنا عرب وأبناء شعب واحد، ولا فرق بين مسلم ومسيحيّ. وهو رغم تفّوّقه في الشّعر إلا أنّه لم يسع يوما للشّهرة حتّى أنّه لم ينشر قصائدة في الصّحف إلّا في حالات نادرة. بل كان ينشرها في دواوين.
والرّاحل خليل توما الذي انحاز بفكره ومسلكيّاته إلى الفئات الكادحة، فانتظم في الحزب الشّيوعي الفلسطينيّ، وشغل عضوا في المكتب السّياسي لحزب الشّعب الفلسطيني الذي يشكّل امتدادا للحزب الشّيوعيّ، واعتقل أكثر من مرّة، وكان جدّيّا في تصرّفاته ومسلكيّاته مع الجميع، وفي الوقت نفسه كان مرحا صاحب نكتة مع أصدقائه المقرّبين.
ومع أنّه كان مقلّا في شعره، إلّا أنّه عاد يكتب الشّعر بغزارة وبتميّز في سنوات عمره الأخيرة بعد أن أحيل إلى التّقاعد.
حدّثني كثيرا عن بعض الفواصل الهامّة أو الظريفة في حياته وحياة أبيه، وأبدى قلقه لقلّة عدد أفراد عائلته، لذا فقد كان حريصا على عدم هجرة أو نزوح أبنائه أو أقاربه. قبل أن يختطفة الموت بعدّة اشهر حدّثني بفخر عن بناته وأبنائه وأين درس كلّ منهم وماذا يعمل. ذات يوم من العام 1916م زرت بصحبة صديق دير مار سابا في العبيديّة، فدهشت بجمال الدّير التّاريخيّ المبني قبل ما يزيد على سبعة عشر قرنا وبالمنطقة المحيطة به، فتحدّثت مع خليل توما لاحقا حول هذا الدّير بشكل خاصّ، وعن الأديرة الأخرى الموجودة في فلسطين مهد السّيّد المسيح عليه السّلام بشكل عامّ، وعرضت على خليل أن أشترك وإيّاه في عمل بحث توثيقيّ عن هذه الأديرة التّاريخيّة، وركّزت على ضرورة البحث عن أيّ وثائق عن هذه الأديرة التي تشكّل جزءا هامّا من تراثنا الفلسطينيّ العربيّ، لكنّ مرض وموت خليل حالتا دون تحقيق هدفنا.
وممّا رواه لي خليل أنّ المرحوم والده أو جدّه، -فذاكرتي تخونني بتحديد أيّ منهما- زار الدّير بصحبة رجل آخر في عشرينات أو ثلاثينات القرن الماضي مشيا على الأقدام، وجلسا يستريحان في ظلّ سلسلة حجريّة، وإذا بضبع يقفز من فوق رأسيهما، ومعروف أنّ الدّير يقع في البراري الذي تكثر فيها الضّباع والذّئاب.
ومهما كتبنا عن هذا الرّجل المعطاء سنبقى مقصّرين بحق هذ الشّاعر الإنسان. فله الرّحمة ولذكراه الخلود.