الكتابة في المتن الساخن
علي جبار عطية | كاتب عراقي
في الفيلم السوري الروائي الطويل (المخدوعون)/ ١٩٧٢ للمخرج توفيق صالح يحاول ثلاثة عمال فلسطينيين سنة ١٩٥٨ الهرب من ذل العيش في مخيمات اللاجئين في الأردن ـ مع أنَّ الهرب من المشكلة لا يحلها ـ إلى البصرة ثمَّ إلى الكويت بحثاً عن عمل يضمن لهم حياةً كريمةً لكنَّ الموت كان يتربص بهم في نقطة الكمارك الكويتية لأنَّ المهرّب (عبد الرحمن آل رشي) الذي أضاع رجولته ووطنه أخفاهم في صهريج ماء ، وتأخر عليهم بسبب سفاهة موظفي الحدود فماتوا خنقاً، واضطر إلى رمي جثثهم في مكب النفايات!
حصل الفيلم على الجائزة الذهبية بمهرجان قرطاج للأفلام العربية والأفريقية عام ١٩٧٣ وهو يستند إلى رواية قصيرة من تسعين صفحة للكاتب والشاعر الفلسطيني غسان كنفاني عنوانها (رجال في الشمس) صدرت عام ١٩٦٣، وقد قصد المخرج التعبير عن هؤلاء الذين تركوا أرضهم بالمخدوعين، والعجيب أنَّه بعد أكثر من ستة عقود على هذه القصة فمازالت تتكرر حكاية الهاربين من أوطانهم ولو بإلقاء أنفسهم في البحر سعياً إلى وهم الخلاص !
هناك الكثير من الروايات التي تناولت القضية الفلسطينية، والأحداث الساخنة التي رافقتها منها: رواية (الوقائع الغريبة لاختفاء سعيد أبي النحس المتشائل)/١٩٧٤ لإميل حبيبي، ورواية (باب الشمس)/١٩٩٨ لإلياس خوري التي تُرجمت إلى عدة لغات، وقد صُنِّفت ضمن أفضل مئة رواية عربية في القرن العشرين وفقا لقائمة اتحاد الكتاب العرب، كما قدمها المخرج المصري يسري نصر الله في فيلم سينمائي من جزأين بعنوان (باب الشمس ـ (الرحيل) و(العودة)/٢٠٠٤ ،كذلك رواية (ربيع حار)/٢٠٠٤ لسحر خليفة. ورواية (الطنطورية)/٢٠١٠ لرضوى عاشور. أما الكاتب الفلسطيني إبراهيم نصر الله فله عدة روايات بهذا الصدد منها رواية (قناديل ملك الجليل)/٢٠١١، و(زمن الخيول البيضاء)/٢٠١٧، وثلاثية الأجراس: (ظلال المفاتيح) و(دبابة تحت شجرة عيد الميلاد) و(سيرة عين)، ورواية (في ظلال المفاتيح).
لا يمكن لأي كاتبٍ واعٍ أن يغض الطرف عما يحدث من عدوانٍ وانتهاكات فظيعة لحق الحياة في غزة ولبنان وسوريا وغيرها من المناطق الملتهبة من هنا تجيء رواية (لا شيء أسود بالكامل) للكاتبة اللبنانية عزة طويل، وقد صدرت حديثاً.. تعد هذه الرواية الأولى للكاتبة الحائزة على شهادة الدكتوراه في إدارة الأعمال من غرونوبل في فرنسا وتقيم في كندا.
تقع الرواية في ١١١ صفحة ويتماهى فيها الذاتي مع الروائي فالراوية تشبه الكاتبة في عدة أمور والوقائع كتقارب العمر وانجابها لفتاتين، وسفرها إلى كندا، واهتمامها بعالم النشر والكتاب.
يصف كولن ولسن طريقة الكتابة هذه بـ(الإيهام بالواقعية) كما تفعل الكاتبة الفرنسية آني أرنو الفائزة بجائزة نوبل للآداب سنة ٢٠٢٢ المعروفة بكتاباتها الواقعية واهتمامها بالسير الذاتية.
تقول عزة طويل في روايتها : (في مدينة مثل بيروت، على المرء التروّي قبل اتخاذ قرار الموت، أما الضيعة، فالأمر أسهل. الأرض أسرع استقبالاً للجثث، كما أنَّ التربة أشهى) .
وبأسلوب لاذع توضح أنَّ [تكلفة القبر في (الباشورة) تصل إلى ١٥ ألف دولار. هناك يحفرون ليدفنوا الميت الجديد في كل عائلة فوق جثث أقاربه. ينتظرون تحلل الجثة الذي يستغرق عامين قبل أن يضيفوا إلى الحفرة ميتاً آخر]. هي ترى أنَّ المدينة العربية ليست آمنة حتى للأموات، فحرمتهم هي الأخرى منتهكة وليس هناك شيء اسمه الراحة الأبدية في مدن تُفتح قبورها ليستقبل الميت السابق عنوة ميتاً لاحقاً قد يكون عدواً حميماً !. تنقلك الرواية إلى بيروت وجدلية الحياة والموت، ومجازر صبرا وشاتيلا و مآسي الحرب السورية، والهجرة إلى باريس والنظرة إلى المهاجر، وغيرها.
تقول الكاتبة في حوار أجرته صحيفة (العربي الجديد) بتاريخ ٢٠٢٤/٤/١٧ :(تشغلني عشرات الهواجس وليس هاجساً واحداً. الأطفال والأمّهات والآباء الفلسطينيّون، وقدرتي المحدودة على المساعدة، ورياء هذا العالَم بما في ذلك المُنظّمات، والوضع في الجنوب وفي لبنان ككلّ وطبعاً الخوف على أهلي، وشعورٌ بالحيرة والتردّد وحتى الذَّنْب تجاه أي دعايةٍ لعملي الأدبي في ظلّ الوضع بغزّة، وهُناك أيضاً هاجسٌ لا يُفارقني: كيف يُمكن لبعض الأطراف ألّا ترى الإبادة التي تحدُث في غزّة؟).
وتقول في حوار لصحيفة (المدن) بتاريخ ٢٠٢٤/٦/١٦ : (.. وفي الوقت الذي تحمل هذه الرواية بعض عناصر الواقع، إلا أنَّها ليست سيرة ذاتية. لم أعش إلا بعضاً قليلاً من مشاهدها، لذا لا يمكنني الإشارة إلى العمل على أنه سيرة ذاتية، ولا على أنه مشاهد حقيقية وقعت على أرض الواقع. هي مشاهد تشي بأنها وقعت، هي مشاهد تستلّ من الواقع، فأنا لا أكتب الفانتازيا ولا الخيال العلمي، لكن من المؤكد أنني أكتب الخيال بعد أن أغمّسه بالحياة) .
ترى ما رأي بعض مثقفينا الذين يناقشون على الفضائيات مسائل ترفيةً سطحيةً خارج المتن التاريخي بغرض إثارة الجدل والكراهية؟