دون كيشوت بطل رواية سرفانتس أهم من كل الفلاسفة (المتكلِّفين) والشكلانيين
بقلم: عماد خالد رحمة | ألمانيا
يرى الفيلسوف والشاعر والروائي الإسباني ميجل دي أونامونو (Miguel de Unamuno) أنّ الفلسفة الحقيقية هي تلك التي تعلّم الإنسان كيف يعيش، وكيف يُدبّرُ شؤون حياته اليومية والمستقبلية. فعلى الرغم من أنَّ الفلسفة قد تراجع دورها وابتعدت عن الهواجس الحياتية اليومية فإنه لا غنى عنها في حياتنا المعاصرة، مع أنَّ أغلب الأفكار الفلسفية تم تقديمها كحذلقات فكرية بعيدة عن واقع الإنسان، وقليلون هم المفكرون وكبار المثقفين الذين التحموا بقضايا الإنسان المعاصر. وتعاملوا مع مفاعيل حياتهم.
الفَلسَفَة philosophia، والتي تعني حرفيًا (حب الحكمة) هي التي تدرس الأسئلة العامة والأساسية عن المعرفة، والوجود، والعقل، والقيم، واللغة، والاستدلال. غالباً ما تطرح مثل تلك الأسئلة كمسائل لدراستها بعمق أو حلّها. ربما صاغَ مصطلحُ فيلسوف أي (محب الحكمة) هو الفيلسوف وعالم الرياضيات اليوناني فيثاغورس الساموسي ( (570- 495 ق.م نسبةً إلى جزيرة ساموس، التي ألهمت تعالميه كبار الفلاسفة في العالم، وعلى رأسهم أفلاطون وأرسطو. والتي شملت الأساليب الفلسفية الاستجواب والمناقشة النقدية والحجة المنطقية العقلانية والعرض المنهجي.
في إطار قراءتنا للمسار والطريق الإنساني الغامض في حقبة ما، نجد الإجابة عن الكثير من الأسئلة في كتاب (الإدراك التراجيدي للحياة) للفيلسوف والأديب الإسباني ميجل دي أونامونو (Miguel de Unamuno). فقد أعادتنا جائحة كوفيد 19 (كورونا) إلى مراجعة ما تمت كتابته حول حالات التراجيديا الحياتية الإنسانية وكان كتاب (الإدراك التراجيدي للحياة) لمؤلفه أونامونو واحد من الكتب الهامة الذي تتضمن فصوله الأولى ما يستجيب للكثير من الأفكار والهواجس والخواطر في مثل تلك الأيام العصيبة من أيام الوباء العالمي والذي كان تأثيره سلبياً على معظم نواحي الحياة اليومية للإنسان
كان ميغال دو أونامونو قد ساند في البداية الجنرال والديكتاتور الإسباني فرانثيسكو فرانكو بوهاموند ( (4 ديسمبر 1892 – 20 نوفمبر 1975) . إلا أنّه ارتدّ عن موقفه هذا بعد مقتل الشاعر والكاتب والمسرحي والرسام وعازف البيانو فيديريكو غارثيا لوركا (Federico García Lorca)، ولم يتردد في توجيه نقد لاذع للجنرال (خوسيه ميلان-أستراي إي تيريروس José Millán Astray ((1879 ـ1954) م، قائد ومؤسِّس الفيلق الإسباني قائلا له: (أنْ تنتصر على عدوَّك لا يعني أنّه اقتنع بفكرتك). فردَّ عليه الجنرال بحدَّة: (فليمت الذكاء وليحيا الموت).
في سياق الصراعات السياسية عمد أنصار الجنرال ميان أستراي خوسيه ميلان-أستراي إي تيريروس (José Millán Astray) 1879 ـ 1954) إلى قمع ميجل دي أونامونو (Miguel de Unamuno) وعملوا على سحله بعد انتهاء حفل كبير أقيم في جامعة سالامنكا، إلّا أنَّ زوجة فرانثيسكو فرانكو بوهاموند تمكنّت من انتشاله منهم لتعيده إلى منزله. إثر تلك الحادثة، أقيل من منصبه ليموت معزولاً أواخر عام 1936 عن عمرٍ تناهز إثنان وسبعون عاماً.
لقد أشار الفيلسوف والأديب الإسباني ميجل دي أونامونو في مؤلفه الهام (الإدراك التراجيدي للحياة ) إلى أنَّ الفيلسوف الحقيقي هو ذلك الذي يكون إنسانا قبل كل شيء بمعنى أنّه يتمتع بكامل إنسانيته . لذا هو يرى أنَّ الفيلسوف وعالم الرياضيات والفيزيائي الفرنسي رينيه ديكارت (René Descartes) (31 آذار 1596 – 11 شباط 1650)، كان مخطئا عندما قال: (أنا أفكر إذن أنا موجود)، لأنّه كان يتوجَّب عليه أن يقول (أنا موجود لأنّي أفكر) لأنَ الإنسان مكوَّن من لحمٍ ودم، ولا يمكن أن يكون مجموعة من الأفكار والمفاهيم المجرَّدة.
الجدير بالذكر أنَّ كل فيلسوف هو إنسان من لحم ٍ ودم يعتمد العقل والإرادة بالدرجة الأولى، ويخاطب أناساً آخرين من لحم ٍ ودم أيضاً. فإذا لم يكن الفيلسوف إنساناً ويتمتّع بكامل إنسانيته، فإنَّه يمكن أن يكون كل ما نحن نريد ونبتغي إلّا أن يكون فيلسوفاً. وهذا يدلُّ دلالةً كبيرةً على أنُّه مُتحذلق، أي متكلّف ومتصنِّع ومدّعي معرفة، أي أنه نسخة عن الفيلسوف الحقيقي وليس الأصل.
عدد كبير من الفلاسفة والمفكرين يؤمنون غيماناً مطلقاً بأنَّ الفلسفة إنتاج إنساني لكل فيلسوف من الفلاسفة في العالم، كل فيلسوف هو إنسانٌ يملك الإحساس المرهف والشعور الحسّاس وهو من لحم ٍ ودم يعتمد العقل والإرادة أوّلاً، ويخاطب أناساً آخرين لديهم شعور وإحساس عالي وهم أيضاً من لحم ٍ ودم. والفيلسوف يقدِّم فلسفته أو نظريته الفلسفية ليس اعتماداً على العقل وحده، بل اعتماداً أيضاً على الإرادة، وعلى الشعور، وعلى الجسد كله وعلى الروح. من هنا جاء اعتقاد ميجل دي أونامونو أنَّ العيب الأساسي في ما بات يُعرَف بــ (خطاب الطريقة) ليس الشك المنهجي الأوَّلي، وليس لأنَّ الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت (René Descartes) أراد منذ البداية أن يشكِّك في كل شيء، بل لأنَّه سعى ويسعى جاهداً في أن يكفّ أن يكون هو نفسه، أي رينيه ديكارت (René Descartes الرجل الواقعي، من إحساسٍ وشعور ومن لحم ٍ ودم، والذي لا يريد أن يموت ويُفنى، لكي يكون (مفهوما تجريدياً، ومفكرا خالصاً).
وبحسب ميجل دي أونامونو (Miguel de Unamuno) فإن رينيه ديكارت (René Descartes) لا يصبح فيلسوفا حقيقياً إلاّ عندما يقول في (خطاب الطريقة) بأنَّ أفضل ما يمكن أن يتقاسمه الناس جميعاً هي رجاحة العقل ونضارته، كونه (يعشق الشعر والأدب) و (الفصاحة الفتانة)، وأنَّ الفلسفة الحقيقية هي تلك التي تعلّم الإنسان كيف يحيا ويعيش، وكيف يُدبّرُ شؤون حياته اليومية.
الجدير بالذكر أنَّ عدد كبير من الفلاسفة والمفكرين وكبار المثقفين كانوا قد استهجنوا بل سخروا من اسبانيا لعدم تمكنها من أن تنجب فلاسفة كبار مثل ألمانيا وبريطانيا وفرنسا، وكان ردّ الفيلسوف والأديب الإسباني ميجل دي أونامونو (Miguel de Unamuno) في كتابه (الإدراك التراجيدي للحياة) بفصل من فصوله يمجِّد دون كيشوت بطل رواية سرفانتس حين قال : ( إنَّ دون كيشوت أفضل من كل الفلاسفة المتحذلقين، الذين يطلقون المقولات والأفكار المبهمة والغامضة كي يُشعِروا البشر بأنهم من جنسٍ خاص)، وأنهم قادرون على كشف عوالم وأسرار كثيرة، وليس بمقدور غيرهم الاطلاع عليها ومعرفتها.
قد يكون دون كيشوت بطل رواية سرفانتس (ساذجاً وغبياً)، لكن أحلامه وحياته، وأوهامه، وهو يجوب سهول وهضاب إسبانيا على ظهر حصان عجوز تعكس الإدراك التراجيدي للحياة في مفهومه العميق الشفاف وحسب ميجل دي أونامونو. فهو (أفضل وأهمّ من مئات النظريات العلمية والفلسفية). ولأنه لم يطلب من الفلاسفة والمفكرين والعلماء أصحاب العقول الكبيرة، فإنَّ دون كيشوت كان (يتقبّلُ الحقيقة والحياة كما هما). كما أنه كان (يثق بقوّة في المشاعر والأحاسيس أكثر ممّا يثق في العقل البشري التجريدي).