حوار

الشاعر نامق سلطان في حوار مع الشاعرة والصحفية نادية الدليمي

عالم الثقافة |بغداد

  • الهمّ الإنساني هو ما يقلقني
  • أراهن على وحدة الموضوع للخروج بقصيدة ممتلئة ومختلفة
  • القصيدة الحديثة لا يمكن أن تكتب بمعزل عن وعي تنظيري حديث وذهنية حديثة
  • الكتابة لي الواحة الوحيدة في الصحراء الممتده من حولي ولابدَّ أن ألوذ بها ولو آخر النهار
  • الشعر المترجم كشف لي عن قصور الشعر العربي في التعبير عن الهم الإنساني الكبير والقلق الذي يواجه الإنسان والطبيعة

تمتد تجربة الشاعر نامق سلطان على مدى أكثر من نصف قرن،كان خلالها يعمل على صقل موهبته. فيُنبت ويُزهر ويُثمر..كان لبيئته الموصلية الأثر البالغ في تكوينه بكل ما تحفل به من معالم وشواخص حضارية، وإرث تاريخي، الأمر الذي أعطاه أصالةً كونت شخصيته الشعرية الرسالية، وهو يعالج همومه الإنسانية بالإبحار في بطون الفلسفة والتصوف بعيداً عن الأضواء التي أتته طائعة لما وجدته أهلاً لذلك، وقد لفتت تجربته انتباه النقاد والباحثين فكتبوا عنها دراسات أكاديمية منها كتاب (نحو مفهوم جديد لقصيدة النثر: تجربة “نامق سلطان” مثالاً) للناقد محمد صابر عبيد، و(التغريب في قصيدة النثر عند نامق سلطان) للباحثة زهراء خالد، وهي أطروحة دكتوراه، قدمت لجامعة الموصل/ كلية الآداب، 2024 وغيرها،برغم ذلك اختار التخصص في حقل الهندسة ووظفها في الشعر الذي صار قدره، وله فيه دواوين ذات عناوين دالة منها: (إقحوانة الكاهن)،و(ترقيع الأمل) و(مثل غيمة بيضاء) ، و(قريباً من الأرض) ، و(أمشي على حبل)، وغيرها.
يسعدنا أن نتعرف على آرائه في الشعر والنقد والحياة والحرب وغيرها في هذا الحوار..
بيني وبين العالم / باب مسدود / لا أدخل ولا أخرج / ولا آبه بما يحدث خلف الباب)، من هو الكائن المحتجب عن العالم خلف ذلك الباب؛ ما روافد إبداعه و ما هي مصادر إلهامه؟
ـ هذا الكائن عاش حرّاً، أو على الأقل حاول ذلك، ودفع تكاليف كثيرة ليدافع عن حريته، ثم وجد نفسه متعباً ولم يصل. هو حفيد إيكاروس وعباس بن فرناس، وكل الذين أمضوا شطراً من حياتهم ينسجون أجنحة لهم، وعندما حلقوا في السماء سقطوا على الأرض. لم تستوعب السماء أحلامهم. هذا الكائن لم يستسلم، لكنه فضل أن يعيش حريته في داخله، يراقب العالم، ويعيد ترتيب عناصره وحوادثه ليجترح لذة تعوض لذة الطيران. هذا الكائن تعامل مع الشعر بجدية بالغة، لم يقلد أحداً ولم يتملق مؤسسة أوأشخاصاً. ظل يتعامل مع الشعر الجيد كما يتعامل القديس مع النصوص المقدسة. القراءات المتنوعة في حقول المعرفة والأدب كانت لها دور في شق طريقه نحو كتابة جديدة لا تستسلم للسائد. أما مصادر إلهامه فهي الحياة بتجاربها القاسية التي عاشها، وكل ما يمر من خلال عينيه من مشاهد القسوة والأحزان والأفراح والمباهج، والطبيعة بجمالها وتهورها، وما استقر في ذاكرته من حوادث التاريخ، والحياة البسيطة التي يعيشها كل يوم.
ما الذي يمثله المكان لنامق سلطان، ما مدى تعلق نصك بمكان ولادته؟
ـ المكان قيمة في القصيدة، يدخل في نسيجها كعنصر من عناصر بنائها. وعلاقة المكان بي حاسمة في بناء حالتي المزاجية وتكوين خيالي وذاكرتي. أما مكان ولادة القصيدة فقد لا يكون موجوداً، وإذا وجد، فهو غالباً متراكب مع أماكن كثيرة، بعضها واقعي وبعضها خيالي.
(مثل غيمة بيضاء)، (قريباً من الأرض)، (أمشي على حبل).. توحي عتبات دواوينك الشعرية بأنك تجد الأمان في أن تكون محلقاً، بعيداً عن شيء ما، ما الذي يقلق روحك الشاعرة ويربك هواجسها؟
ـ الآن فقط انتبهت إلى أنَّ العناوين الثلاثة تشير إلى تحليق بشكل من الأشكال، ولكنَّه تحليقٌ قريبٌ من الأرض. حتى الغيمة فهي قريبة، خصوصاً لمن يعيش على مدى البصر من البيئة الجبلية. فنحن كثيراً ما نرى الغيوم تتكىء مستريحةً على السفوح. وحتماً ذلك يعكس الحالة الذهنية للشاعر في الفترة التي كتبت فيها هذه الدواوين وهي السنوات العشر الأخيرة. بينما عنوان المجموعة الأولى كان “إقحوانة الكاهن” والتي كتبت في مرحلة اهتمامي بالفلسفة والتصوف. الهمّ الإنساني هو ما يقلقني منذ البداية، أما ما تغير فهو أسلوب التعبير عن ذلك الهم.
بعدك عن ضجيج الأضواء ونأيك عنها قرار أم طبيعة إنسانية أو لعلها ضرورة، هل توفر العزلة للشاعر ديمومة اتقاد وميض الشعر في وجدانه؟
ـ منذ صباي المبكر وأنا أحب الهدوء، أصدقائي قليلون، لا أحب الصخب، أشعر بالتعب من الزحام وأصوات السيارات، أنسحب إلى العزلة والصمت لحل الأزمات التي تجابهني، متقشف في متطلبات حياتي…، ومن الطبيعي أن تنعكس هذه الصفات على علاقتي بالوسط الثقافي وعلى شكل القصيدة عندي وعلى محتواها. وقد عملت بصبر على ترسيخ شكل خاص بي في محاولات ذات نسغ واحد متصل منذ بداياتي وحتى الآن. كل شاعر يحتاج إلى عزلة من نوع ما، مكانية أو ربما نفسية، أي أن يكون بين الآخرين ولوحده في الوقت ذاته، وهذا يعني أنَّ العزلة في الأساس هي شعور أكثر مما هو حالة اجتماعية.
ما الأمور التي يكاد يكون لوجودها صفة الهوية في نصوصك؟
ـ توظيف السرد، والإفادة من مادة الحياة اليومية والبناء المحكم ووحدة الموضوع. لذلك أفضل أن أسمي النص الذي أكتبه قصيدة، فأنا مازلت أراهن على وحدة الموضوع. هذا ما عملت من أجله للخروج بقصيدة ممتلئة ومختلفة، وأزعم أنني نجحت نسبياً في تحقيق الهدف.
هل وضعت الحرب أوزارها على أكتاف نصك؟ هل ساهمت في توجيه شاعريتك على نحوٍ ما؟
ـ الحرب عالم واسع وغني، كل شاعر يمكن أن ينهل منه، خصوصاً نحن الذين عشنا مآسيها الشخصية والاجتماعية. كثيراً ما تبرز أمامي من مشاهد الحرب التي عششت في اللاوعي حتى وأنا أكتب عن قضية أخرى لا علاقة لها بالحرب. مشاهد الحرب احتلت مساحة واسعة من ذاكرتنا، لكنها موضوع من مواضيع الحياة. الشاعرية أعقد من أن يوجهها موضوع لوحده حتى لو كان موضوعاً كبيراً كالحرب.
كيف تتشكل القصيدة لديك، هل لك أن تصف لنا حالة الكتابة وما الذي تمثله لك؟
ـ تبدأ القصيدة بفكرة، أو بصورة، أو بجملة مفتاحية…، ثم تمضي عملية بناء وتشكيل وإعادة بناء، وقد أتوقف ليوم أو يومين إذا لم أجد اللبنة التالية، وربما أتجاهلها وأحذفها من الحاسوب عندما تكون القصيدة غير مقنعة. أنا أكتب على الحاسوب وذلك يسهل عملية التبديل والتعديل والحذف. أما ما تمثله الكتابة لي الآن، فلا أبالغ إذا قلت إنها الواحة الوحيدة في الصحراء الممتده من حولي، ولابدَّ لي أن ألوذ بها ولو آخر النهار.
 ما رأيك بالنقد، وهل واكب النقاد تجربتك الشعرية بما تستحقه من البحث والدراسة؟
ـ في السنوات الأخيرة صدر عن تجربتي الشعرية كتاب، وأنجزت أطروحة دكتوراه ورسالة ماجستير، وبضعة مقالات…، وهذا أكثر مما كنت أتوقعه. فأنا على ثقة بأنَّ الغالبية العظمى من النقاد لم يسمعوا باسمي. فهم في واد والشعراء غير الفاعلين في المهرجانات واللقاءات الشخصية في واد آخر. حتى مع وجود وسائل التواصل، فالنقاد لا يكلفون أنفسهم للبحث عن الأصوات الجديدة وبعضهم مازال واقفاً عند شعراء الموجة الأولى من التجديد الشعري. كما أنَّ تصوري عن النقد سلبي، فأغلب المقالات النقدية التي قرأتها تبدو ضعيفة وانطباعية خالية من جهد التحليل لبنية النص والبحث عن مكامن الجودة والتميز. عموماً، دائرة معارفي من النقاد في توسع وأتوقع في المستقبل القريب دراسات مهمة عن شعري.
الشعر كفعل جمالي بحت، هل من الإنصاف إخضاعه إلى سلطة التنظير؟
ـ التنظير عملة ذات وجهين كما يقال. فإذا خضعت كتابة النص لسلطة التنظير دون تدخل الموهبة، سيكون النص يابساً لا حياة فيه. من جهة أخرى فإنَّ التنظير له أهمية قصوى في بناء ذهنية الشاعر، عندها سيمر النص الشعري من خلال مرشح التنظير دون تكلف. القصيدة الحديثة لا يمكن أن تكتب بمعزل عن وعي تنظيري حديث وذهنية حديثة. وهذا أمر من الخطورة بحديث قد يقتل النص الشعري إذا لم يكن الشاعر ذا موهبة وتجربة.
ما موقفك من موجات الحداثة التي تطرأ على الشعر والجدل الأزلي حول شرعية قصيدة النثر؟
ـ الحداثة قطعت أشواطاً طويلة في مسيرة الأدب والفن بشكل عام، فمن العبث إعادة الأسئلة القديمة عن شرعية قصيدة النثر بوصفها الواجهة الرئيسية للحداثة. الجدل المستمر حول هذا الموضوع سببه ثقافي وحضاري بالدرجة الأولى. فمن يشكك في شرعية قصيدة النثر وتحديث الأدب بشكل عام، فإنَّما يعيش أزمة مع حقيقة التحدي الحضاري الذي يلزمه باتخاذ موقف إيجابي نحوه. فهناك خوف غير مبرر على هوية وهمية رسختها في رأسه ثقافة القرون الماضية، مما يجعل عملية التحديث وكأنها عملية هدم للبنى الذهنية لحاملها. وهناك أيضاً الذائقة الكسولة، على حد وصف الناقد محمد صابر عبيد، التي استكانت إلى سهولة التعامل مع القصيدة التقليدية. بينما تجد الأشخاص الذين يُشكلون على الحداثة يعيشون حياة حديثة المظهر من استخدام السيارات والملابس وبقية الأجهزة المتطورة، لأنها لا تحتاج إلى إعمال الذهن.
ما هو دليل نجاح المشهد الثقافي بشكل عام؛ هل هي وفرة أعداد المتواجدين فيه، أم كثرة الفعاليات الثقافية، أم اتساع الرقعة الجماهيرية للمنتج الثقافي؟
ـ مع ثورة الاتصالات المتسارعة، صار مفهوم الفعالية الثقافية بحاجة إلى مراجعة جذرية. فالشكل التقليدي لتلك الفعاليات من مهرجانات ومعارض كتب وجلسات ثقافية لم يعد لها أهمية كما كانت سابقاً. وعليه، فإن الرقعة الجماهيرية كمعيار مهم لقياس منسوب الفاعلية الثقافية في المجتمع صار من الصعب التعرف عليه. هناك قنوات غير مرئية تتسلل منها مفاهيم وقيم متنوعة لا يمكن التكهن بنتائج تأثيرها في المدى البعيد.
ما هي الصعوبات أو التحديات التي تعترض الأديب العراقي في مجتمعه الثقافي، وهل واجهت خلال مسيرتك الأدبية شيئا منها؟
ـ هناك الكثير من التحديات التي تعترض طريق الأديب في العراق، على رأسها صعوبة التفرغ للعمل الأدبي بوصفه نشاطاً بلا مردود مادي. هناك أيضاً مشكلة النشر والتوزيع التي تثقل كاهل الأديب. وهناك صفة ربما ينفرد بها الأدباء في العراق وهي تسقيط الآخر وعدم التعامل مع الأصوات الجديدة باحترام بل وعدم الجدية حتى في التعامل مع الأصدقاء من الجيل نفسه. أما عن الشق الثاني من السؤال فقد نلت من الصعوبات الكثير في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، مثل السخرية من إصرارنا على قصيدة النثر واتهامنا باتباع فلان وعلان وصعوبة النشر والتشكيك في وجهاتنا السياسية.
هل ترى أنَّ المواقع الإلكترونية والاجتماعية لها أثرها في توجيه حركة الفكر والإبداع، وكيف تصف هذا الأثر؟
ـ بالتأكيد، وسيكون لها الدور الأكبر في ذلك. إنَّ الحرية في التعبير عن الرأي صارت مفتوحة بشكل مطلق أمام من يريد أن يكتب وهي مفتوحة كذلك أمام من يريد أن يقرأ. لم تعد هناك حواجز أمام أكبر فعلين ثقافيين وهما القراءة والكتابة. فيما يخص الشعر، نجد أمامنا جرأة كبيرة في الكتابة والنشر والتفاعل. وهذا سيؤدي بالنتيجة إلى فرز ما هو شعر حقيقي عن سواه. قد يلزم الأمر إلى وقت طويل لعملية الفرز، لكنه سيحدث لا محالة. يمكن أن ينطبق الكلام نفسه على الترجمة. فأمامنا اليوم كم كبير من الترجمات التي كنا نتحسر على مثلها. في الجانب الفكري، الأمر أوضح والتأثير أكبر، فلم تعد هناك محرمات وليس هناك ما يخفى بحجة العيب والحرام وسواها من الحجج التي كانت تحجب عنا حقائق في التاريخ والدين والسياسة. كل ذلك سيؤدي حتماً إلى تهديم كثير من البنى الفكرية السائدة.
هل خضت مجالاً أدبياً آخر غير الشعر؟ حدثنا عن ذلك؟
ـ لم يحدث ولا حتى من باب المحاولة. منذ بدايتي وأنا أشعر بأن الشعر هو قدري الوحيد، ووسيلتي في التعامل مع العالم. في البداية كنت أمارس الرسم، فموهبة الرسم موجودة عندي منذ طفولتي لكنني تركتها، إذ لم أجد فيها ما أريد أن أقوله. الشعر بوصفه عملية خلق مركبة كانت تستهويني وكأن هناك جينات تدفعني إليه وليس إلى سواه، مع أنني أقرأ في كل المجالات؛ رواية وتاريخ وفلسفة وعلوم وسواها.
بمن تأثرت في البدايات ، ومَنْ من المجايلين لك تلامسك تجربته وتصافح روحك؟
ـ في البدايات المبكرة، قبل العشرين من العمر، كانت المراثي العربية تثيرني وأبحث عنها؛ مالك بن الريب، دريد بن الصمة، الخنساء وكذلك الشعر الوجداني العربي القديم. كان ذلك قبل تعرفي على الشعر الحديث، الذي نقلني مباشرة إلى عالم آخر. من الشعراء الذين قرأتهم آنذاك؛ البياتي وحسب الشيخ جعفر ومحمد الماغوط وغيرهم ممن كانت تصلنا منشوراتهم. لكن التحول الحقيقي كان عندما اكتشفت الشعر المترجم، بعدها لم يعد الشعر العربي الحديث يثيرني، حتى الأسماء التي ذكرتها سابقاً سقطت من قائمة اهتمامي. الشعر المترجم كشف لي عن قصور الشعر العربي في التعبير عن الهم الإنساني الكبير والقلق الذي يواجه الإنسان والطبيعة. قبل ثورة الانترنت لم يكن لي سوى صديق واحد هو الشاعر رعد فاضل الذي منذ البداية وجدنا أواصر مشتركة بيننا. مع توفر وسائل التواصل، حصلت على أصدقاء رائعين يكتبون بأسلوب يلامس روحي، منهم من تشعر بأنهم مكتملون ويعرفون طريقهم جيداً مثل سلام دواي وعبود الجابري، وأنا أتابع ما يكتبان. وهناك أسماء أخرى لها سماتها الخاصة ولكن دون أن تكون تلك السمات واضحة وراسخة وأنا أتابع ما يكتبون وليعذروني عن ذكر أسمائهم لكنهم يعرفون إعجابي بكتاباتهم من خلال تفاعلى مع منشوراتهم، فأنا لا أجامل في ذلك.
شعراء الموجة الثالثة، ما الذي قصده النقاد بهذا التصنيف؟ وما موقفك من إدراجك ضمن هذه المجموعة؟
ـ لا أهتم بالنقد كثيراً، لذلك لم أسمع بهذا المصطلح ولا أدري إنْ كنت أندرج ضمن مجموعة هذه الموجة.
كيف تصف لنا الحراك الأدبي في الموصل الآن، وهل تركت الظروف العصيبة التي مرت بها الموصل آثارها على المشهد الثقافي؟
ـ الحراك الأدبي في الموصل يشبه تسقيط الفرض. هناك أكثر من مؤسسة تعمل كل منها بمعزل عن الأخرى، ودون تواصل ولا تنسيق بينها على ما يبدو لي. ولا يصل جمهور الواحدة عدد أصابع اليدين كما لاحظت من خلال الصور التي تنشر. قبل الظروف الصعبة لم أكن في الموصل، وعليه ليست لديَّ معلومات عن الأمور آنذاك.
الشاعر نامق سلطان بعد هذا المشوار الطويل والحافل مع الشعر ،بمَ تصف رحلتك وماهي محطاتها الأهم ؟
رحلة استغرقت خمسين عاماً، يمكن تقسيمها إلى أربع مراحل؛ مرحلة الإنبات واستغرقت أكثر من عشر سنوات، كنتُ خلالها أقرأ كثيراً وأحلم بالشعر العظيم وأكتب قليلاً، ثم انتهت بإتلاف كل ما كتبته في تلك الفترة لعدم قناعتي بها، ومنها قصائد منشورة في مجلات أدبية. المرحلة الثانية هي مرحلة الإزهار واستغرقت أكثر من عشر سنوات أيضاً، أصدرت خلالها ديواني الأول “إقحوانة الكاهن” سنة 1996 بطريقة الاستنساخ التي شاعت آنذاك بسبب ظروف الحصار. هذه المرحلة بدأت عام 1988 وفيها بدأت أشعر بأنني وضعت قدمي على الطريق الذي كنت أبحث عنه في السنوات السابقة. المرحلة الثالثة مرحلة السبات وامتدت إلى خمسة عشر عاماً تقريباً كتبت خلالها بضعة قصائد، وكانت هذه المرحلة وليدة الشعور باللاجدوى من الركض وراء سراب الشعر، ودعمت هذا الشعور ظروف الحصار القاسية وقد أدت إلى هجر الشعر ومغادرة العراق، وكأنَّ الشعر والعراق صنوان. المرحلة الأخيرة وهي مرحلة الإثمار وبدأت قبل تسع سنوات تقريباً بتحريض من وسائل التواصل التي وفرت لي أصدقاء تفاعلوا بشكل إيجابي مع منشوراتي التي كان أغلبها من المراحل السابقة. في هذه المرحلة صارت القصيدة عندي ناضجة وكاملة وتمثل طموحي، وقد تمخضت هذه المرحلة عن ثلاثة دواوين هي على التوالي: “مثل غيمة بيضاء” و “قريباً من الأرض” و “كأني أمشي على حبل”، مع الاعتراف بأنَّ هناك العديد من القصائد المنشورة في بداية هذه المرحلة بحاجة إلى إعادة كتابة وربما إلى حذف.

*****
قصائد
نامق سلطان
كل شيء على ما يرام

خُذ الأمر ببساطة
كما لو أنّ شجرةً زرعتَها
قبل عشرين ربيعاً، ولم تثمر،
مع ذلك، لديك شجرة…
أو كما لو أنّ فرخ عصفورٍ
سقط في ساقيةٍ، واستسلم للماء
فالتفّتْ عليه العصافير
وحملته إلى الأعلى
وهذا مشهدٌ ممتعٌ …
أو كما لو أنّكَ مطالبٌ بالرحيل
على آخر قطارٍ
دون أملٍ بالرجوع إلى هذا المكان
الذي حفظتَ أرصفتهُ وحاراتهِ
وأبوابَ بيوتهِ المفتوحةِ على الشمس
ووجوهَ أطفالهِ وأصواتَهم في الأزقة،
وحتماً ستجد من يودّعك
ولو بابتسامةٍ
أو أغنيةٍ تُرسل إلى هاتفكَ
وذلك ممتعٌ أيضاً…
****
كأني أمشي على حبل

لستُ اللاعبَ الأسوأ
في هذا السيرك
لكنّني، وكأيّ واحدٍ منكم
يغشى عينَيَّ بريقُ الأضواء
فتزلَّ قدمي
من الحبل
ولا أجدُ ما أتشبّثُ به
وعليَّ دائماً
أن أبحثَ عن أعذارٍ جديدة،
خفّةُ الهواءِ، مثلاً
صوتُ الموسيقى،
صراخُ طفل بين الجمهور
يذكّرني بأيام الحرب
عندما كانت أمّي تخبّئني تحت عباءتها
وكنتُ أسمعُ أصواتَ انفجارات
ثمّ لا يلبث أن يخيّمَ صمتٌ مذهولٌ
فأسمعَ قلبي يخفق
تماماً كما لو أنّني أمشي على حبل
وتزلُّ قدمي فجأةً
ولا أجدُ ما أتشبّثُ به
سوى الخوف
******
مازال هناك وقت
في الأماكن العامّة
حيث الناسُ كلّهم هناك
يمكن أن تختلطَ عليكَ الوجوه
غير أن وجهاً لا تخطِئُه
يظهر فجأةً من بعيد
ويختفي قبل أن تدركه
ثم يظهر في مكان آخر
معكوساً على واجهةٍ زجاجية
أو مرسوماً على قميص ملاكٍ عابر.
*
الوجه ذاتُه يظهر في غيبوبتكَ
وأنتَ في المشفى، نصفَ حيٍّ
والممرّضاتُ يمزحن معك
خصوصاً تلك التي تتحدّث
عن ساقكَ المبتورة
بلكنةٍ غريبة، كأنّها تموء
وقد تركتْ شعرها الأسود
يتدلى فوقك، كي يتوقف الزمنُ
والشعورُ بالألم.
*
في الأماكن العامّة
كلّ الاحتمالات ممكنة
حتى أنّكَ يمكن أن تقفزَ
من رصيفٍ إلى رصيفٍ، بساق واحدة
وتدندنَ لحناً بهيجاً
ولا أحدَ ينتبه إلى مرارةِ صوتكَ
بينما عيناكَ تبحثان بين الوجوه
عن وجهٍ لا تخطِئُهُ أبداً
******
آثارٌ ورديةٌ على الثلج

أنتِ عرفتِ كلّ شيء
أما أنا فقد نسيتُ كلّ شيء
نسيتُ أن أكون
شجرةً هاربةً من الغابة
كي لا أتحوّل إلى تابوتٍ يمشي
نسيتُ بضعةَ أحلام، لا أدري أين
ربّما في حانةٍ تَفَرّقَ روّادُها
بين سجون ومَهَاجر
أو في الطريق بين الجامعة
والمقهى القريب
حيث الصبايا
يطيّرنَ أفراحاً ملونةً بلا أجنحة
ثم أنّني حين كبرتُ فجأة
نسيتُ أن أتركَ باب الطفولة مفتوحاً
كي أعود إلى تلك السنة البعيدة
إذ نسيتُ أن أشكر مدير المدرسة
على معونةِ الشتاء
عندما داهمنا البرد
ولم يُبقِ على شيءٍ دافئ في البيت
لا الجدرانُ ولا البراجدُ
ولا الحليبُ في ضرع البقرة…
كان الثلج في الطرقات
وعلى البيوت
وعلى حافّةِ الوادي…
هناك انزلقَتْ قدمي
عندما حاولتُ أن أستعرضَ مهارتي
في الطيران حولك
وكنتِ تضحكين
وتركضين هاربةَ
وتتركينَ خلفك آثاراً ورديةً
كي تستدلَّ الفراشاتُ عليكِ
عندما تنامين.
********
نامق سلطان عبد الله.. سيرة مضيئة
*ولد في حمام العليل – محافظة نينوى في 22 شباط 1957
*أنهى الابتدائية والثانوية في مدارس حمام العليل، وتخرج في ثانويتها سنة 1975
*حصل على البكالوريوس في الهندسة الإلكترونية – جامعة الموصل سنة 1979
*حصل على الماجستير في هندسة الحاسبات – الجامعة التكنولوجية – بغداد 1993
عُين في جامعة الموصل قسم علوم الحاسبات.
*تفرغ لدراسة الماجستير في هندسة الحاسبات في العامين 1991 و 1992 في الجامعة التكنولوجية – بغداد.
*عضو هيأة التدريس في قسم علوم الحاسبات – جامعة الموصل بين العامين 1993 و 1997.
*عضو هيأة التدريس في جامعة دهوك بين العامين 1997 و 2002.
*عضو هيأة التدريس في جامعة الحسين بن طلال – الأردن، بين العامين 2002 و 2010.
*عضو هيأة التدريس في جامعة دهوك منذ العام 2010 و مازال يعمل فيها أستاذاً مساعداً.
*صدر له عدد من المؤلفات :
(إقحوانة الكاهن) ، اتحاد أدباء نينوى ، 1996
(ترقيع الأمل) ، دار مومنت، لندن، 2016
(مثل غيمة بيضاء) ، دار تموز، دمشق ، 2019
(قريباً من الأرض) ، دار نون، الموصل ، 2020
(كأنَّي أمشي على حبل) ، الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق، 2022
*كتبت عن تجربته الشعرية عدد من الدراسات منها :
(نحو مفهوم جديد لقصيدة النثر: تجربة “نامق سلطان” مثالاً) للناقد محمد صابر عبيد، مؤسسة أبجد للترجمة والنشر والتوزيع.
(التغريب في قصيدة النثر عند نامق سلطان) للباحثة زهراء خالد، أطروحة دكتوراه، جامعة الموصل، كلية الآداب، 2024
(الفضاء التشكيلي لقصيدة النثر: الكتابة بالجسد وصراع العلامات) ، ضمن كتاب، للناقد محمد صابر عبيد، 2015
(عينُ الشَّاعر اللاقطة) ، مقالة، للناقد محمد صابر عبيد، صحيفة الصباح.
(نامق سلطان – مثل غيمة بيضاء) للشاعر سامي مهدي، الأنطولوجيا.
(الشاعر العراقي نامق سلطان: ليس للشعر مسقط رأس) ، حوار، القدس العربي
(قريباً من الأرض للعراقي نامق سلطان: الشعر ابتكار للدهشة) مقالة، لمروان ياسين، القدس العربي.
(التجاذب بين الرؤيا والرؤية في نصوص الشاعر العراقي نامق سلطان) ، مقالة، لعلاء حمد، الناقد العراقي. في كتاب عربة الشعر- الجزء الثالث.
(البساطة منهجاً وموضوعاً، الشاعر نامق سلطان أنموذجاً) ، لليث الصندوق، الناقد العراقي.
(قصيدة النثر وسيولة مابعد الحداثة، شعر نامق سلطان مثالاً) – بشرى البستاني، صحيفة الزمان.
(نامق سلطان يرسم خريطة الموصل… بالشعر) لحيدر عبد المحسن، صحيفة الشرق الأوسط.
(العناصر البنيوية في شعرِ نامق سلطان) ، رسالة ماجستير، لإبراهيم عبدالغني الحيالي، جامعة تشانكري كارا تكين، تركيا، 2022.
(نصوص العراقي نامق سلطان … الصعب الممتنع) لحيدر المحسن، القدس العربي، 19-أبريل-2023
(السرد في قصيدة النثر: قراءة في ديوان “كأني أمشي على حبل”) ، لعواطف محجوب، ندوة فوروم كناية للحوار وتبادل الثقافات في تكريم الشاعر نامق سلطان، 26 ديسمبر 2022
(نامق سلطان في محاولات متكررة للوصول) ..، لميس داغر، ندوة فوروم كناية للحوار وتبادل الثقافات في تكريم الشاعر نامق سلطان، 26 ديسمبر 2022.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى