حوار

رجاء حميد رشيد تحاور أقدم صانع توابيت في بغداد.. الحاج أبو نور

العراق | خاص

النجّار الحاج أبو نور: مَنْ يصنع نعوش الموتى لو توقفنا نحنُ عن صناعتها؟!

لم ينتبه النجار الحاج أبو نور، وأنا أقف قبالة محله لانهماكه بربط أجزاء التابوت بالبراغي وصوت آلة (الدريل)  مع صوت إذاعة القرآن الكريم من الراديو الصغير في محله حال دون سماع صوتي لرد التحية والسلام ، وحالما رفع رأسه ورآني توقف عن عمله ظانا أنني جئت لأطلب نعشاً ، ولكن عندما عرَّفته بنفسي رحب بي متعجباً كيف لامرأة تدخل محلاً يتشاءم منه أغلب الناس، ولا يطيقون حتى النظر إليه ويستعيذون بالله عند المرور في الشارع الذي يقطن فيه، ويمضون مسرعين إلى الجانب الآخر لتلافي المرور من أمامه !

أرشدني بائع الحرف اليدوية في الشارع المتفرع من شارع حيفا المؤدي إلى مديرية التقاعد العامة  في محلة الشهداء / كرخ بغداد  إلى محل نجارة أقدم صانع  توابيت  في بغداد ، ولم أكن بحاجةٍ للسؤال ليدلني شخص آخر عنه فوجود التابوت أمام المحل  كاف للتعريف به.

يقع المحل في منتصف الجانب الأيمن من الشارع الذي يكاد  يكون خالياً من المارة  وتقابله في الجانب الآخر محلات تخصصت بصناعة الجلود العراقية والتركية من الأحزمة ومحافظ النقود والحقائب النسائية والرجالية ، الحاج أبو نور صاحب المحل الذي ورثه عن والده الذي يعد أحد أوائل النجارين المتخصصين في صناعة التوابيت ، يتكون المحل من غرفة واحدة تحتوي على لوازم العمل من مواد أولية وأخشاب وبراغي ومسامير ورفوف وخزانة ومنضدة خشبية وكرسي ودرج خشبي صغير معلق على الجدار الذي زين بصور والده وصور توابيت إسلامية ومسيحية وصابئية  يطلع عليها الزبون كنماذج  من عمله ، وكان هناك تابوتان  إسلاميان على رصيف المحل وآخر قيد الانجاز .

يقول أبو نور: كلنا سوف ندخل هذا التابوت الذي يثير الرعب في نفوس من يمر من أمامه لارتباطه بكلمة الموت والتي عند نطقها لابد وأن تلحق بها  الجملة المأثورة ( لا سامح الله بعد عمر طويل، أو اسم الله عليكم)  رغم أنَّ الموت حق ولا يجوز التشاؤم منه، فالتشاؤم يدل  على ضعف الإيمان ، فصناعة التوابيت مهنة إنسانية كباقي المهن بل هي الأهم فكل الناس لابدَّ أن تنام في هذا الصندوق الخشبي المخيف بالنسبة للكثير منهم .

يضيف: نادراً ما تجد في أسواق النجارين محلاً لصناعة التوابيت لعدم رغبة الكثير منهم للتخصص في هذه الصناعة التي ترمز للتشاؤم والخوف من ناحية،  وقلة إقبال الناس عليها إلا عند حصول فاجعة لديهم من ناحية أخرى، وبالتالي عدم ضمان تحقيق أرباح مادية لصناعها ، ولكن الرزق من الله وبارك الله بالتجارة والتجارة .

عن بدايته في هذه المهنة يقول أبو نور :  كنت أعمل تاجر نايلون في سوق الشورجة ببغداد ، وبعد الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003  ، عملت مع والدي  الحاج علي حسين محمود  الذي  أفنى سنين حياته في هذه المهنة منذ أكثر من نصف قرن ويحتاج إلى مساعدتي في المحل ،  خاصة بعد أن تركه عمي الذي كان يعمل معه ويساعده، وفتح له محلاً  في نفس الشارع. 

وتابع : علمني  والدي رحمه الله صناعة التوابيت والنعوش بإتقان ، وقبل وفاته أوصاني بأن لا أتخلى عن هذه المهنة واستبدلها بنجارة أخشاب أخرى، لأنه  الوحيد في بغداد الذي يعمل على صناعة التوابيت ، وكان آخر كلماته : (بالرغم من أنها مهنة متعبة ويتشاءم الناس منها أوصيك أن تلتزم بها ولا تتركها،  فمن يصنع صناديق الموتى  لو توقفنا نحن عن صناعتها والموت هو الحقيقة الوحيدة في حياتنا وكلنا سندخل هذا الصندوق ولكن من لطف الله بنا أننا لا نعلم في أي ساعة يكون أجلنا) ، وأنا قطعت عهداً لوالدي رحمه الله بتنفيذ وصيته، وأن لا أترك هذه المهنة، أو استبدلها ماحييت .

تاريخ ومهنة

يتابع أبو نور : في عام 1940 أسس والدي محل النجارة هذا ، وكان حينها نجاراً عادياً يصنع التخوت البغدادية والتي كانت  تعد أحد أهم  قطع الأثاث السائدة تلك الفترة،  حيث كانت تستخدم في أغلب البيوت البغدادية وتصنع من الخشب وتسمى تخت أو ( كرويته) يتم تزويدها إلى المقاهي ( القهاوي ) ودواوين العرب ، كما راجت في تلك الفترة صناعة الثلاجات الخشبية حيث كان والدي ماهراً في صناعتها وحسب الطلبات الكثيرة لاستخدامها في حفظ الثلج في البيوت والدكاكين وخاصة في فصل الصيف لتوفير الماء البارد ، وتتكون الثلاجة من صندوق خشبي وبداخله خزان من الصفيح المغلون ،ويوضع قالب الثلج بجوار خزان صغير يوضع فيه ماء الشرب ويتم تحشية جدران الصندوق من جميع الجوانب  بنشارة الخشب كعازل للحرارة فضلاً عن صناعة الدواليب (الخشب والسيم ) وهي عبارة عن دولاب خشبي ذي بابين مصنعة من مادة (السيم ) تجدينها في كل البيوت البغدادية آنذاك وتستخدم لحفظ أدوات المطبخ، وأشياء أخرى ، وكان والدي يسوق بضاعته في  السوق الأشهر ببغداد (سوق أيوب) .

وفي ثمانينيات القرن الماضي أبان الحرب العراقية الإيرانية وزيادة شهداء الحرب تزايد الطلب على صناعة التوابيت ولم  تستطع الدولة تجهيز الطلبات  لكثرة الشهداء ، حيث كانت وقتها هي التي تصنع التوابيت وتسمى (بلوك) وجاءت التسمية حسب نوع الخشب المستخدم ، فاتجه والدي لصناعة التوابيت  حصرياً ، وبدأ يتفنن في صناعتها وتصميمها حسب الحاجة ، خاصة مع ندرة النجارين في هذا المجال، حيث تعلم أبي في خمسينيات القرن الماضي صناعة التوابيت من أوائل النجارين في بغداد ويدعى سيد أمين الملقب (بعمدة النجارين) ، يقع محله بالقرب من تمثال الرصافي وكان يصنع التوابيت وأتقن والدي منه هذه الصنعة واكتسب خبرة مكنته من  التخصص فيها .

أشكال التوابيت حسب المكونات العراقية

يفصل أبو نور أنواع التوابيت قائلاً: تختلف أشكال وأحجام التوابيت وحسب الطوائف والمكونات العراقية  فالتابوت الإسلامي أو النعش ، كما هو نعش أهل البيت عليهم السلام يكون جمالياً هرمي الشكل وكبيراً طوله متران وقياسه عند الرأس (70) سم وعند القدم (30) سم وبارتفاع (25) سم وهو القياس الأكثر رواجاً، أما التابوت الخاص بإخواننا من الطائفة المسيحية فيختلف عن التابوت الإسلامي ، يصنع من خشب الصاج ويغلف بقماش وإسفنج ، ويكون بشكل مثلث تقريبا، بقياسات أيضاً مختلفة فعند الرأس يكون (31.5)    وعند القدم ( 30) سم وبارتفاع

 ( 30) سم وطول متران

أما بالنسبة للصابئة المندائيين فيكون على شكل مستطيل ، ويصنع من الخشب البلوك وبارتفاع (30) سم، وطول متران ، قياس الصندوق من جهة الرأس (80) سم وقياس ( 40) سم عند القدم، يصمم والدي أشكال التوابيت وفق قياسات مختلفة حسب وزن  الجثة، بالإضافة للتابوت  العادي الجمالي الهرمي ، هناك تصميم آخر يسمى (انكر)  يختلف قياسه عن الأول يتجاوز طوله مترين وخمسة عشر سنتمتراً وعرضه عند الرأس (70) سنتمتراً وعرضه عند القدم (30) سنتمتراً وهذا يصنع حسب الطلب للجثث الضخمة ذات الوزن الثقيل التي تزن مئة كيلوغرام وأكثر ، فأوزان الجثث متباينة بين شخص وآخر ويجب أن تؤخذ في الحسبان عند صناعة التابوت لحملها.

وأردف: قبل عام توفيت عمتي وكانت سمينة جداً وزنها (175) كغم فصنعت لها صندوقا كبيراً وعريضاً (كما في الصورة التي أخرجها من  أحد الأدراج في زاوية المحل وعرضها أمامي) حيث اعتاد أن يوثق صناعاته بصور فوتوغرافية ويعلقها على جدران محله لتكون نماذج للزبائن وحسب طلباتهم .

أسعارها

تزايدت أسعار صناعة التوابيت في الآونة الأخيرة حسب شراء أسعار الخشب حيث ارتفع سعر الخشب إلى ثلاث مئة ألف دينار للمتر الواحد، فيتراوح سعر التابوت ما بين ( 90_95)  ألف دينار  تابوت الكبار ، أما تابوت الصغار فيتراوح  سعره ما بين (60_65) ألف دينار ، ويؤكد أبو نور بأنَّ الرزق على الله فأحياناً يبيع تابوتاً واحداً في الأسبوع وأحيانا تصل مبيعاته إلى ثلاثة أو أكثر، أما في الأزمات خلال فترة انتشار وباء كورونا عام 2020 فازداد الطلب عليها، ووصلت الطلبات إلى عشرة توابيت في اليوم وأكثرها تبرعات من قبل بعض الأشخاص الميسورين حيث يشتري أعداداً من التوابيت ويضعها في الحسينيات والمساجد والكنائس لتكون وقفاً لوجه الله  للفقراء، والعاجزين عن شراء توابيت لموتاهم ، وأحياناً بعض الأشخاص يطلب تابوتاً لا يستطيع دفع ثمنه لفقر الحال فأبيعه مقابل ثمن رمزي قد يصل إلى خمسة عشر ألف دينار أو مجاناً دون ثمن  لوجه الله . وكثيراً ما يترك المتوفى بهذا الوباء في ثلاجة المشفى خوفاً من العدوى ، كما قال تعالى (يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه) صدق الله العظيم.

حرصت على فتح المحل يومياً خلال وباء كورونا

يضيف :في فترة الحجر الصحي خلال انتشار وباء كورونا لم أترك عملي  بالرغم من توجيهات خلية الأزمة بفرض حظر للتجوال امتد لفترات طويلة، بل على العكس كنت حريصاً على فتح المحل يوميا من أجل مساعدة الناس وتوفير التوابيت لموتاهم، وكانت نقاط السيطرة تتفهم طبيعة عملي وتسمح لي بالذهاب من بيتي الكائن في منطقة الحرية غربي بغداد إلى محلي الكائن في الشارع القريب من جسر الشهداء المقابل لمديرية التقاعد العامة، علما أنني لم أحصل على

 (باج) يسمح لي بالتجوال في فترة الحجر من أجل خدمة الناس في هذا الظرف العصيب،  وغالباً ما يراجعني الكثير من الجنود وأصحاب الإسعافات في مستشفى الكرامة  لاستلام الطلبية فأنا عملي خدمي وخاصة في الأزمات حين أصبح نقل الموتى إلى المدافن والمقابر مشكلة، تكون الحاجة ماسةً لفتح محلي وكان على وزارة الصحة تزويدي بـ( باج مرور)  ليكون تجوالي رسمياً، وكانت الأولوية لتجهيز المستشفيات، ومن ثمَّ تجهيز الطلبات حسب الجهة التي طلبتها قد تكون جامعاً أو حسينيةً أو كنيسةً والتي لا يمكن تأخيرها، فكثيراً ما يهرع إلي أبو احمد صاحب الإسعاف في مستشفى الكرامة  لعمل عدد من التوابيت يصل أحيانا إلى خمسة في اليوم وحسب الجثث الموجودة في ثلاجة المستشفى فأقوم بصنعها مستغلاً الوقت اللازم لمعرفة نتيجة المسحة للمتوفى وتسليمها، كما كانت هناك طلبات كثيرة من الحسينية في منطقة الحرية وجامع عمر المختار في منطقة اليرموك/ الأربعة شوارع، وكنيسة النجاة في منطقة الكرادة وأنا وكيلها  الحصري في تزويدها بالنعوش.

مهارات المهنة

يقول أبو نور:  أصنع التابوت بإتقان (درجة أولى) وحسب نوع الخشب والبراغي المستخدمة، تعلمت من والدي – رحمه الله – أن أتقن عملي بكل مهارة ولا استخدم مواد رخيصة لصناعة تابوت مثل الخشب العادي ومعاكس قديم ومسامير متنوعة ، فكل صنعة تحتاج إلى إتقان ومهارة مهما كانت بسيطة فالإخلاص بالعمل أمانة أمام الله أولاً ، ولأنَّ الله فضل الإنسان وأكرمه عن سائر المخلوقات هو الذي سينام فيه ويحمل إلى مثواه الأخير، لا أستخدم الخشب المعاكس الصيني سمك (20) سم الذي يتعرض للكسر بسهولة، بل استخدم الخشب المعاكس الذي تصل كلفته بحدود  (20_25) ألف دينار الذي يمتاز بالمتانة ويمكن الاستفادة منه لنقل الجثامين لأكثر من مرة، الآن لديَّ أربعة توابيت جلبها لي أحد زبائني  من مدينة الصدر شرقي بغداد تحتاج إلى إعادة ترميم، وهي من صنعي وواضحة من نوع المواد والخشب المستخدم والبراغي ذات اللون (الأصفر) فأصلحت ثلاثة منها والتي استخدمت لأكثر من عشر سنوات  فيما كان الرابع تالفاً ولا يمكن إصلاحه .

أبدى أبو نور أسفه لأنَّ معظم الناس لا تميز بين التابوت التجاري العادي، والتابوت المتقن ويتصورون بأنها مجرد صناديق يعبئون بها الجثث، ولا يهمهم سوى نقل موتاهم ، فأنا لا أستطيع أن أصنع تابوتاً بخشب رخيص ورديء فالصنعة أمانة والإنسان الذي خلق الله الكون من أجله يستحق أن يحمل بصندوق آمن وجيد عند حمله فقد تتعرض البراغي إلى الفتح، وسقوط الجثة قبل وصولها إلى اللحد خصوصا عندما تكون المسافة طويلة مثلاً الدفن في مقبرة النجف فلا يمكن استخدام التابوت سوى مرة واحدة لعدم صلاحيته للاستخدام مرة أخرى فأصنع التابوت عند إدخال الجثة فلا يحتاج إلى ربطه وضمان عدم فتحة والمحافظة على وصول الجثة إلى القبر.

 صنعت نعشاً  لجارنا فحملنا فيه جثة أبي

يقول أبو نور: توفي والدي في العشرين من الشهر الخامس سنة 2007، ومن سخريات القدر بأن جاري في منطقة الحرية  أوصاني بصنع تابوت خاص له  نوع (انكر كبير) الذي يتحمل  ثقل الجثث وزن ( 250) كغم ، فصنعت التابوت بإتقان  ، وخلال هذه الفترة تعرض والدي لوعكة صحية ألزمته الفراش فكان يأتي إلى المحل ويعود باكراً بعد صلاة الظهر، وأنا على وشك إكمال صناعة تابوت جارنا ، قال لي أبي:  أسرع بإكماله (قابل أبوك راح ينام بيه)، فأجبته: ألف سلامه عليك عمرك طويل إنْ الله  سأكمله لم يتبق سوى الغطاء (القبغ)، ثم أكملت التابوت وأرسلته إلى الحسينية وحسب الاتفاق مع جاري ، وبعد يومين توفي والدي رحمه الله وبلغت أولاد عمي بالذهاب إلى الحسينية وجلب التابوت الذي صنعته وفعلاً لم يستخدمه أحد، ولا حتى صاحب الطلب جارنا وحمل فيه والدي إلى مثواه الأخير.

سألته :هل تعتزم تغيير صناعتك للتوابيت إلى أثاث منزلي وأشياء أخرى ؟

قال : أبداً؛ لأنني النجار الوحيد في بغداد المتخصص بصناعة التوابيت في حين هناك آلاف النجارين للصناعات الأخرى،  فالناس بحاجة لي،  فإذا تركتها فمن يصنع التوابيت وبإتقان مثلي خاصة وان معظم النجارين لا يجرؤ على صناعتها بل ويتشاءمون منها .

الحاج أبو نور شارف على الستين من عمره وأصر على تثبيت كنيته فقط وليس اسمه لاشتهاره بهذه الكنية،  حالت الظروف دون إكمال دراسته الإعدادية ، متزوج وأب لثلاثة  أولاد  ، حسين طالب في الجامعة التكنلوجية، ونور طالبة في جامعة بغداد  كلية العلوم /تحليلات مرضية ، وأحمد في الصف الثاني المتوسط،  و لا يتحرجون من ذكر مهنة والدهم بل يفتخرون به كصانع نعوش جثامين الموتى. .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى