وحيد تاجا والشاعرة الفلسطينية منى المصدِّر.. وجها لوجه
خاص| عالم الثقافة
– يخدمني التأمل واحترام نصي في أن يصبح نصي هوية نفسه لا هويتي أنا
– أكتب للكتابة نفسها وبكل صدر حنون أتقبل زيارة النص كابن مغترب وأحتضنه بكل جوارحي
– تركت النصوص غير معنونة لأعطي مجالاً للقارئ لأن يبحر بتأويله الخاص للنص
– البحر هو الأفق الشامخ المتسع المليء بالأسئلة وحكايا الغرباء التي تتلهف لمن يسمعها أو يقنصها بحنو
– سابقاً كان الأدب الفلسطيني أدباً مقاوماً ملتزماًـ والآن مع تعقيدات الاحتلال والوضع السياسي القائم أصبحت النزعة تذهب نحو الوجودية- الوطن والحب
تعتبر الشاعرة منى المصدِّر(مواليد 1995).. واحدة من أهم الشواعر الشابات في فطاع غزة.. استطاعت خلال فترة وجيزة ان تحجز لها مكانة ملفتة في الساحة الثقافية والشعرية في القطاع وخارجه. ويذكر أن الشاعرة منى حاصلة على ماجستير الأدب المقارن. و على بكالوريوس آداب اللغة الانجليزية. تعمل كمترجمة وتكتب المقالات باللغتين العربية والانجليزية. صدرت لها مجموعتان شعريتان، “أعد خطاي” و”لأنني أخشى الذاكرة”. ومجموعة نصوص سردية بعنوان “توقيت”
* ـ بدايةً، هل يُمكنُ إعطاؤُنا لمحةً عن البداياتِ؟
لا يمكن حصر البدايات بطابع واحد. فهي كانت مرحلة بحث في ذات الانسان بالأكثر. يمكنني القول أن الكتابة لا تأتي فجائية. تحتاج صبراً ونضجاً وكثير من التأمل. فبالتالي بداياتي كانت بالتأمل فيما أراه ومن ثم التفكر والقراءة النهمة جداً. لاحقاً وجدت نفسي أكتب. كنت أدرك أنني أكتب لكنني لم أعرف تصنيفه أدبياً. أستطيع أن أجرؤ وأقول بالبداية رسمت لنفسي طريق بأن أكتب وأن هذه المحاولة المطلقة للحياة ليست سوى أمل. عكفت على القراءة وحينما زارني النص أكرمته لغةً وانصاتاً. في العشرين بدأت أكتب بكثرة مقارنة بالسابق. انخرطت أكثر بالمجتمع المدني وبالشعراء والكتاب وبكل الهيئات التي تحتضنها. وكنت أقرأ ما أكتب أمام الجميع. أذكر أن أول أمسية شعرية شاركت فيها كانت في مدينة خانيونس جنوب قطاع غزة-فلسطين. صوتي ويدي كلاهما كانا يرتجفان. هناك جمهور لأول مرة! نصي سيرسم لوحة وأنا جالسة ألقيه! لم يكن الحماس ما شعرت به ولا الخوف من عدم التقبل. لكنني كنت متوترة من أن يعيش النص في وجهي. الكتابة فعل إنصات. ما تمكنت من الانصات والتأمل تمكنت من الكتابة. فبدايتي كانت في تلمس هذا النور الصغير والانصات إليه بإخلاص حتى تحول إلى مشكاة وأنار قلبي وحُلمي بأن أكتب. فقط أن أكتب لأجل الكتابة لا لتصفيق ولا لإجلال. أكتب للكتابة نفسها وبكل صدر حنون أتقبل زيارة النص كابن مغترب وأحتضنه بكل جوارحي. فكانت البداية إنصاتاً ومحاولة دؤوب للثقة والحلم.
* ـ “أنا لا أكتب الجميل أنا أكتب الذي لا ينسى” كلمات الشاعر حسين البرغوتي التي كانت مدخلاً لمجموعتك “لأنني أخشى الذاكرة”؟. وسؤالي أين ترين مكمن الاختلاف في قصيدتك.. وكيف تخلقين خصوصيتك الشعرية؟
أؤمن أن كل كاتب/ة يستطيع أن يتفرد بأسلوبيته/ا في النص. لأن كل انسان تجربة مختلفة عن الأخر. والكاتب/ة لا تنهل من تجربته/ا وحده/ا. الكتابة حقل خصب للتأمل. وعليه فأنت تتأمل الناس، الحياة، التفاصيل الصغيرة التي تعلق في ذهنك ولاحقاً تجدها في مائدة نصك. أرى أن من يحدد الاختلاف هم النقاد والقراء. لكن يمكنني أن أجيب عن كيف أتعامل مع نصي بل بمعنى أصح كيف يفرض نصي عليّ أسلوبيته وكيف أسكب الحياة فيه. إجابتي ببساطة هي التأمل. إسقاطات الإنسان على ما يقرأه من الناس ومن الأدب تخلق ذاكرة ومخزون لغوي وحياتي كبير جداً. فمن الذكاء أن تستطيع أن تتناول التفاصيل المختلفة بطريقة مختلفة وأن تبتعد بعض الشيء عن محاكاة النص أو إخضاعه للوظيفية أو للقوالب الجاهزة طمعاً في القبول النقدي والحضور أيضاً. من وجهة نظري، يخدمني التأمل واحترام نصي في أن يصبح نصي هوية نفسه لا هويتي أنا. ما دام صامداً ومعبراً عن نفسه وقادراً على خوض الحياة بعناد فإن له من الخصوصية ما يستحق. فخصوصية النص تكمن في الانسيابية الأسلوبية لا في جلب ورقة وقلم واستخدام المكتب وأن تقول لنفسك سأكتب النص حالاً. النصوص لا تلد بهذه الطريقة ولا تسمو. لتنال الخصوصية الشعرية عليك أن تبحر لا في ذاتك فقط بل في الحياة أيضاً لتكن هي مادتك الخام الحية والمباغتة.
* ـ من المعروف أنك من بيئة محافظة نسبياً. فكيف كان رد فعلها على كتاباتك المختلفة.. وكيف استطعت فرض نصك ومفرداتك على العائلة وعلى المجتمع حولك؟
البيئة المحافظة في المجتمعات العربية لها وضعية متشابكة؛ بمعنى أنه لا يمكن دراستها بشكل تعميمي. لا أنكر أن الأمر واجه الكثير من الصعوبات والرفض في بعض الأوقات. بل الاستهجان في بداية الأمر. لكن أرى أن الأمر يعتمد على الشخصية وعلى الإصرار. فما دمت تنمو في كنف أهلك فهم الأبصر بتطور شخصيتك حتى لو كنت تعمل في صمت وتنأى عن إعلان أهدافك وما تفعل في الحياة. يستطيع والداك معرفة تركيبتك بمجرد أن تبدأ بالتغير. وعليه أمنت بالمحاولة ولم أعبأ بالرفض أو حتى بالتخوف مما اخترت. لم أرى أمامي سوى محاولاتي وهدفي وما يعرفني كإنسانة. اهتممت برحلتي مع ذاتي ومع الكتابة أكثر من تفكيري بالرفض وبماذا سيقول المجتمع؟ أغلقت الستار على كل هذا القلق لأنه ببساطة لم يكن يهمني! ما كان يهمني هو أنا وما أفعل وما أؤمن به. الأن وبعد نشر ثلاثة كتب ونصوص مترجمة وقصص صحفية بالإنجليزية. أستشعر كم الفخر والرضا من بيئتي المحافظة! وإن كنت سأضيق الدائرة على أهلي. فإنهم داعمين بصمت ما دام أيقنوا أنك مقتنع بسعادتك فيما اخترت. وأنك لم تختر بشكل عشوائي أو لتواكب موضة المثقف المزيف. بل يدركون فكرك، عقلك، ماذا تفعل دون تماس واضح ربما لكبرياء ربما للمجتمع. لكنك بكل لطف وامتنان ترى الفخر والمحبة في عيونهم طوال رحلتك وهذا أكثر من كافي لك لتستمر. أما المجتمع كبنية متكاملة، فالمجتمع في غزة لديه هموم أكبر من فتاة تكتب في مقتبل العمر!
* ـ ملفتة جدا مفردات قصيدتك وقاموسك اللغوي الغني، الى الحد الذي نشعر وكأن اللغة غاية بحد ذاتها؟ فكيف تنظرين إلى مسألة اللغة؟ وكيف تتعاملين معها؟
لقد أجبت حين أردت السؤال. اللغة فعلاً غاية. لكنها غاية النص وسموه. الكاتب يخاف اللغة تماماً مثلما يخشى النص. هناك علاقة من الرهبة والتي تتبخر تماماً ما أتى النص. قد يقول البعض أن اللغة هي ما تحيي النص أو أن الصور الجمالية إن صح التعبير هي ما تجعل النص متفرداً. لكنني مع تأمل المفردة نفسها وكيف يمكن للمفردة أن تنساب بسهولة وبكل اشتقاقاتها وتخدم النص بكل ولاء ومحبة. بالنسبة لي كمختصة في اللغة والأدب أنظر للأمر بعين النقد أكثر من عين الكتابة. فأرى اللغة روح حرة لا تستطيع ترويضها لكنها تكرمك بالتأويل والتفكر. وبالتالي علاقتي مع اللغة علاقة تفصيلية مع المفردة نفسها ومع روحها. بحيث يمكنني أن أقرأ نصاً يحتوي مفردات، لغة، صور لكنه لا يحتوي الروح. فهو نص غير مكتمل بالنسبة لي. فروح اللغة هي من تغذي النص. واللغة من أسلحة النص الشرسة التي لا يتنازل عنها بل ويبني أسواراً حولها قد نسميها بالأسلوبية أو الخصوصية الشعرية كما ذَكَرتَ آنفاً.
* ـ لماذا تتركين قصائدك بلا عنوان.. وما مدى تأثير هذا على المتلقي برأيك؟
أدرك أنترك القصائد بلا عنوان أمر مختلف ولا أبدع للتجديد بل ما رغبت به فتح مجال للقارئ ولمخيلته. مرات كقارئة شعرت أن العنوان قد يضعني أمام انطباع أولي للنص قبل قراءته فأبحر في العنوان قبل النص. لذلك قررت حين نشرت أعد خطاي، لأنني أخشى الذاكرة، أن تكون النصوص غير معنونة لأعطي مجالاً للقارئ لأن يبحر بتأويله الخاص للنص وأن يعطي المجال لمخيلته لأن تتفاكر مع النص وبالتالي يضع إسقاطاته هو/ هي.
* ـ في ذات السياق.. لماذا وكيف أطلقت على أعمالك أسماء مثل ” اعد خطاي.. توقيت.. لأنني لا أخشى الذاكرة.. وما مدى تماهي الاسم مع المضمون؟
عنونة الكتاب لم تكن سلسة. ولا أقصد بذلك أنني أردت أن أضع عنواناً يثير القراء ليباع العمل أكثر. لا على الاطلاق! بل كنت أفكر أكثر في عنوان يستطيع أن يعطي صورة شاملة ومتكاملة عن النصوص الموجودة في العمل. البعض اقترح عليّ أن أضع عنواناً لكتبي من اقتباس مفردة أو سطر مكون من جملتين ليكن عنواناً. لكنني لم أستحسن الفكرة. وظللت أفكر في المضمون وكيف يمكن أن أضع له اسماً تستحقه النصوص. فمثلاً، مجموعتي الشعرية أعد خطاي، حملت هذا الاسم لفلسفة العمل التي من وجهة نظري على الأقل هي تأملات في فلسفة الحياة والعاطفة والإنسان والرحلة مع الذات. أذكر نصاً من المجموعة يستحضرني الأن:
” كيف يبدو العالم لك
فقاعة؟
حجر نرد؟
بحر؟”
فبالنسبة لي هذه التأملية الفلسفية هي جزء مما أردت قوله في أعد خطاي وربما يكون أحد أسباب التسمية. أما لأنني أخشى الذاكرة فمضمون العمل يتحدث عن الحرب والوطن والخيبة ورحلة الذات مع نفسها ومع الأخرين. ومن ضمن ما يخشاه الإنسان هي الذاكرة سواء بلطفها أو ندوبها لذلك كانت التسمية.
* ـ تقولين: “يلهمنا الوقت أبجدياتنا أمام طوفان الحياة. وبه نتسلح أمام الفقد قد يكون سلاحنا الأنجع أو مقصلتنا. لكن لا ضير من المحاولة لإدراك سره” فماذا عن الوقت في كتابك توقيت؟
الوقت في “توقيت” هو مجال مفتوح من اسقاطات الانسان عليه وعلى كل الصور النمطية التي نفتعلها للتعامل مع الوقت. كأن نصنف الوقت ونقسمه ونعطيه من روحنا ثم نتمنن عليه وإن احتجناه للتعافي أو النسيان ركضنا إليه! لذلك كان سر الوقت حاضراً في توقيت للمتأمل. النصوص كافة تتحدث عن الوقت وفلسفته في الحياة. حتى الانتقال بين عنونة النصوص في توقيت كان مرتبطاً بالزمن بشكل كبير فعلى سبيل المثال أذكر عناوين نصوص مثل: الساعة العاشرة والنصف صباحاً ومحاولة رابعة للانتحار، لا فرق للأيام فالوجع مصاب بالسعار. هذا مجرد مثال على كيف يسقط الوقت نفسه في النص بانسيابية ويترك لك مجال المخيلة والتأمل في الوقت. حتى أن مفردة توقيت متخصصة أكثر من وقت. لكن أعتقد أننا نجمع أن الوقت بحاجة للتأمل كمفردة وكركن من أركان الحياة. لذلك كانت توقيت.
*ـ هل صحيح ان على الشاعر أن يعيش حالة القلق بتفاصيلها لكي يستطيع الإبداع والإنتاج، وهل كان القلق يوماً منبع حياتك؟
الشاعر يستلهم المشاعر من زوايا عدة، حتى لو كان قلقه الفردي أو الجماعي. لو أردنا اسقاط ما قلت على الكُتاب المشهورين إعلامياً وأدبياً فإن كلامك يحمل الحقيقة. لأن الإبداع من الممكن أن يفجر عبر تساؤل الكاتب المستمر وقلقه الدائم أو حتى سوداوية حياته. لكن هذا لا يعني أن تُسقط حياته على النص حين النقد! بل أن تبحر أكثر في نقد النص لأجل نفسه والنص لأجل القراء-أي اسقاطات القراء على النص-. أحب دوماً أن أبحث تجربتي الانسانية قبل تجربتي الشعرية. القلق رفيق دائم ليس من السهل ترويضه ولا حتى الانصات إليه. لكنك بفعل طبيعتك البشرية ترده عنك أو تحاول أن تفهمه- وهذه لا يفعلها الكل، ولا يعني أنني أرى نفسي استثناء. هي فقط محاولة تامة وخالصة للتأمل. في غزة، ستجد الكثير من الجمال الأدبي الذي ولد من رحم معاناة الاغلاق والحصار. وبدايات ظهور أدب المقاومة الفلسطيني بالأصل كانت بعد الصدمات والنكبات التي عاشها الفلسطينيون ويعيشونها حتى الأن. القلق يحفز الكاتب نفسه بل والغضب أيضاً- ليس كتفريغ نفسي، بل كحالة شعورية من الغضب لأجل شيء ما لأجل الجندرية مثلاً أو سوء استخدام مفردة ما مجتمعياً كأن يعيد تعريفها في نص، أو حتى مثل قصيدة لا تصالح لأمل دنقل. فليس القلق وحده محرك الكاتب/ة. بل الكثير.
* ـ تذهبين أكثر فأكثر باتجاه صوفي في مفرداتك ومعانيها.. لماذا؟
حقيقة لم أنتبه لذلك! لكنني أحب الموسيقى الصوفية وأسمعها كثيرا متى ما أردت التأمل فلربما أثر هذا بشكل غير مباشر على مفرداتي ونصي. حتى أنني قرأت في الشعر الصوفي بعض الوقت. وعليه أعتقد أن إجابة سؤالك من الممكن أن تتمحور حول التأمل بحد ذاته. أحب إعادة تعريف الأشياء ودق باب كل المسلمات وقوالب التابوه. أحب البحث فيها وتأملها وإسقاط صبغة الانسانية المفرطة عليها. ولا أعني بذلك وظيفية النص بل تفكيك المفردة لسانياً ونفسياً. ولاحقاً حين يزورني النص ألاحظ هذا في محياه.
*ـ تتكرر كثيرا صورة البحر في قصائدك:” يا بحر، قل لي أسرارك؟ / هل تحمل قلبي / أم يحمل قلبي هواك؟.. فما الذي يمثله البحر بالنسبة إليك؟
البحر بالنسبة لي هو الأفق الشامخ المتسع المليء بالأسئلة وحكايا الغرباء التي تتلهف لمن يسمعها أو يقنصها بحنو. وعليه فهو مساحتي الخاصة من التأمل والانصات.
* ـ يقول أحد النقاد عن نصك الشعري ” هي لا تفتش عن إبهار القارئ بقدر ما تفتش عن كيفية استيلاد الأسئلة والرؤى وخلخلة الساكن في الآخر المتلقي بحدة جراح وبثبات عارف” ما قولك؟
أعتقد أنه صدق لأنني أقدر القارئ جداً وعليه حينما يزورني النص أستشعر حالته كاملة وأكتبها بتأمل المتسائل والباحث عن دهشته. لهذا من الممكن أن يشعر القارئ بالدهشة أو بأن أعمالي تفتح أمامه سؤالاً أو تستوقفه صورة ما. وربما لأنني أكتب عن الإنسان وعن رحلته مع ذاته وتفاعله مع ما حوله. وأعتقد أن ما يثيره نصي من إعادة تعريف المسلمات والمفردة في السياق ما جعل الناقد يميل لهذا الأمر.
* ـ” الحبُّ / أنْ تزيِّنَ جراحَك بنبضة / وتحتوي هشاشَةَ الآخر كلَّها.هل هذا مفهومك للحب؟
الحب له خصوصية لكونه مفهوم مجرد يصعب تعريفه بشكل ملموس. لكن العاطفة الإنسانية تصهر كل هذا وتعطي أشكالاً مختلفة ومتفردة لكل عاطفة على اختلافها. بالنسبة لي الحب أوسع من أن أقول إن سطري الشعر هذين قد يكونان تعريف شامل للحب. هذان السطران مجرد تعريف لحالة من حالات الحب لا الحب كله.
*ـ تقولين في قصيدة:” الشهيد، ودعته يوم الجمعة / لم تمهلني الرصاصاتُ /أن أحتضن قلبَ حبيبي /حين قتلته على الحاجز /كنتُ أنزف دمًا / أرفضُ الوداعَ الذي يسكنُني الآنَ /وأتلو معَه صلواتي الأخيرةَ في الحبّ.” القارئ يلحظ كم يحتل الوطن مساحة في أشعارك.. كما تحتل ” الذات ” مساحتها أيضا.. فما هو مفهومك للالتزام؟
قبل الانتماء إلى وطن، أنت منتمٍ لنفسك. وعليه أعتقد أن الالتزام يبدأ مع التزامك بنفسك ووضع الخطوط العريضة لك فيما يتعلق بكل شيء بالحياة وحتى في القضايا الشائكة والجدلية. على صعيد الوطن فأنت منتمٍ لإنسانيتك ولهذا المكان الذي تتشرب تاريخه منذ نعومة أظافرك. الأن مفهوم الالتزام الجمعي والالتزام في الأدب أصبح أوسع لتغيرات كثيرة كموجة التطبيع مثلاً أو حتى استمرار ممارسة التطهير العرقي. وعليه فإنني أرى أن العمل الأدبي الملتزم يرفض تماماً في جنباته أي علاقة بالتطبيع أو حتى بالتعامل مع ما تسمى دولة إسرائيل بأنها أمر واقع أو حتى حل الدولتين. أرى أن التعرض لمثل هذه الأفكار بإيجابية لهو منافي للالتزام. في المقابل حين تكتب عن الوطن ولأجل الوطن كي لا ينسى الجيل القادم فأنت تمارس الالتزام. والالتزام لا يتعلق فقط بالكاتب الفلسطيني. فالقضية الفلسطينية ليست قضية الفلسطينيين وحدهم. الكثير من الكتاب كتبوا عن فلسطين في أعمالهم وكانوا خير مثال للالتزام مثل الطنطورية للكاتبة المصرية رضوى عاشور. والأمر لا يكون فقط في الكتابة، فالكاتبة الإيرلندية سالي روني رفضت ترجمة روايتها أين أنت أيها العالم الجميل إلى العبرية من باب المقاطعة الثقافية للاحتلال. فهذه أشكال مختلفة ومتعددة للالتزام.
* ـ بالتالي كيفَ تنظرينَ إلى شِعر المقاومة الآن؟ وهل ما زالَ الشّعرُ الفلسطينيُّ شِعرًا مُقاومًا فِعلًا؟
بالطبع لا زال الشعر الفلسطيني شعراً مقاوماً لكنه يأخذ أشكال مختلفة عما كان عليه شعر المقاومة في بداياته. لأن الفلسطيني يرى في الشعر محاولة للحياة والعناد والبحث عن الجمال حتى رغم محاولة الاحتلال تشويه كل المحيط بل وحتى تشويه الانسان أمام نفسه-روحياً. وبرأيي أن الشعر الباحث عن الحياة والمعاند لجبروت الاحتلال سواء تحدث عن الوطن بصورة مباشرة أو ضمنية لهو شعر مُقاوم. الفلسطيني الأن لا يتحدث فقط عن رمزيات النكبة بل تعدى الأمر حتى الكتابة عن صوت ارتجاج القنبلة في الأرض وحتى ذرات الرمل المحروقة المتطايرة من القصف. هذه التفصيلات الصغيرة وتناولها والكتابة عنها مثري جداً لأدب المقاومة الفلسطيني ويعطي فرصة عظيمة للضحية أن تتحدث عن نفسها وعليه نكسر قالب أدب الضحية المنقول بلسان أخر بل تصبح الضحية قادرة تماماً أن تقارع وتوصل صوتها وهذا من المقاومة والعناد على الاستمرارية والإبداع. وبالتالي أتفق تماماً أن الأدب الفلسطيني لا زال أدباً مقاوماً على اختلاف ثيماته ومدى اشتباكه مع الحاضر.
* ـ لا أخفيك كم فاجأني وجود شعراء شباب مثلك في غزة، التي ترزخ تحت الحصار والاحتلال.. فهل يمكن ان نطل من خلالك على المشهد الشعري في غزة … فرسانه الجدد… مواضيعه…اتجاهاته؟
المشهد الشعري في غزة متنوع وهذا ما يزيده جمالاً. قد تجد منا من يكتب الشعر الحر ومن يكتب قصيدة النثر وهم الأكثر. والجميل أن الشعراء في غزة يتناولون مواضيع عدة مثل تجربتهم الإنسانية مع الحصار وانقطاع الكهرباء. وحتى تجاربهم في الحب. بل أيضاً يكتبون عن الحياة وعن الجمال. هذا التنوع من التجربة الإنسانية الشعرية يزداد في غزة. لأنه مع ظروف غزة الراهنة يطمح الشاعر بالذات باكتشاف نفسه وتعامله مع كل ما يحيط معه. كصوت القنبلة مثلاً وحتى جداريات الشوارع أو شجر الورد المتناثر الذي قد يمتد ليلمس رأسك وأنت تمشي بجوار الحائط. هذه التفاصيل يتلمسها الشعراء في غزة ويكتبون باختلاف وتنوع. وقد يغلب طابع الشعر الوجودية وهو أمر طبيعي حين تواجه الموت بشراسة بهذا الشكل وحين يذهب منك مستقبلك بسبب إغلاق معبر رفح مثلاً. الشعراء في غزة يتفاعلون بجمال وجدية بل ودهشة مع ما يعيشونه داخل هذا المكان.
* ـ ولماذا يذهب جميع او اغلب الشعراء الشباب باتجاه قصيدة النثر.. وبالتالي هل يمكن القول ان الصراع على الشكل قد حسم في فلسطين بشكل عام، وغزة بشكل خاص، لصالح قصيدة النثر؟
أرى أن قصيدة النثر تعطي مجالاً أوسع في التعبير وفي انسيابية النص حتى أنها خلقت موسيقاها الداخلية دون الحاجة للعروض؛ لذلك يتجه لها المعظم. وقد أثبتت جدارتها عربياً بالفعل. ممارسات الاحتلال العنصرية وضغوطات الحياة تحت الاحتلال والحصار قد تجعل الإنسان بحاجة لأن يُسمع فيميل إلى تقنية تمكنه من البوح بشكل جمالي ومدهش ومختلف. وعليه كانت قصيدة النثر. الجميل في المشهد الشعري الفلسطيني الأن أنه يميل إلى الوسطية بين مريدي قصيدة النثر وبين مريدي الشعر الحر. لكن مما ألاحظه أن الشعر الحر يلقى ترحيباً أكثر بين الأجيال الأكبر سناً في عالم الأدب بل وتقبلاً أوسع من قصيدة النثر وحتى من الشعر النبطي. لكن هذا لا يمنع أن قصيدة النثر تحاول وبجد أن تطرق باب الخزان وترى النور الساطع لا فقط إشعاعه. والكثير يكتب في قصيدة النثر فهذا مشجع حقيقة كونه يخلق هذا التنوع الجميل.
* ـ هل ترين أي اختلاف في المشهد الشعري في غزة عنه في الضفة الغربية أو عن المشهد في اراضي الـ 48؟
يوحدنا الوطن وتفصلنا جغرافية الأبارتهايد ببساطة. التغيرات التي نعيشها مختلفة ومتفاوتة وبالتالي هناك بعض الاختلاف فيما يكتب وكيف يتم تناوله. فقليلا ما تجد الغارة الجوية والركام حاضرة مثلا في شعر شعرائنا في الضفة الغربية والأراضي المحتلة. لكنك ستجد الحاجز والبوابات الحديدية وجدار الفصل العنصري وشجرة الزيتون و الهوية الزرقاء. هذه الرمزيات توجد بكثرة. مثلاً كيف سأتحدث عن لم الشمل بين الأراضي المحتلة ورام الله. هذه الخصوصية يستطيع أهلنا في الضفة الغربية والأراضي المحتلة أن يصفوها بكل نقاء وعذوبة بل ودهشة أيضاً وباستخدامي مثل هذه الصفات الايجابية لا يعني جمال الحالة بل عذوبة تناولها في الأدب لدرجة الدهشة. وعليه فالمكان له خصوصية. لكن في النهاية التجربة الإنسانية تحت الاحتلال والحصار تشملنا جميعاً. نحن نكتب عن بعضنا البعض ونكتب عن مدننا. لو كان سؤالك يصب في المناطقية ووحدة النموذج الشعري الفلسطيني ثيماتيكياً
* ـ إذا تحدثنا عن القصيدة الفلسطينية المعاصرة والشابة تحديداً. فهل يمكن القول بوجود سمات محددة لهذه القصيدة؟
سابقاً كان الأدب الفلسطيني أدباً مقاوماً ملتزماًـ والآن مع تعقيدات الاحتلال والوضع السياسي القائم أصبحت النزعة تذهب نحو الوجودية- الوطن والحب. كوني ذكرت الوطن بهذه الطريقة لا يعني أن خطابه تراجع بالعكس أصبح متعمقاً أكثر في الوجودية، حيث يبحث الفلسطيني عن نفسه وعن علاقته مع الأرض التي بالنسبة للفلسطيني فطرة مطلقة. وكوني وضعته في جزء من الوجودية لأن رحلة البحث عن ذات الفلسطيني بشكل ما تربطه بوطنه. كأن أقل لك من أنت. فتقول أنا فلان من فلسطين. وبلدتي الأصلية فجة المدمرة، مثلاً. لا زال هذا التاريخ المتناقل متواجد في الوعي الفلسطيني ومرتبط بوجودية الفلسطيني أكثر بل ويحقق لهم فهم أعمق للإنسانية. لأنه ببساطة الفلسطينيون من الشعوب الذين لا يحصلون على أدنى حقوقهم، كيوم كامل من الكهرباء في غزة مثلاً. وعليه بالنسبة لي أجد أن السمة الأوحد للقصيدة الفلسطينية قد تكون في البحث عن الذات والتمرد على التابوهات والطغاة. حقيقةً أرى أنه من الشائك تقييد النص بمصطلحات مثل المحلية، القومية! فقد نرى نصوص مناصرة لفلسطين ومتوافقة للثيمات التي يكتبها الفلسطينيون لكنها ليست فلسطينية. وهذا يخضعنا لسؤال آخر، هل على القصيدة لأن تكون فلسطينية أن تكتب من قبل كاتب فلسطيني؟ وعليه أترك السؤال مفتوحاً لأن الشعر مائدة متنوعة وخصبة سواء في باب المفردات، اللغة، الثيمات. والنص وحده أجدر أن يعرف نفسه دون أي أطر.