من ينقذ المسجد الغريق؟!
أميرة عبد العزيز | القاهرة
” ألا إن أولياء الله لا خوفُ عليهم ولا هم يحزنون “
هذه الآية الكريمة مكتوبة أعلى باب مسجد العارف بالله سيدي مدين الأشموني رضي الله عنه.
لم يكن ذهابي إلى هذه المنطقة المحببة والقريبة إلى قلبي وروحي مجرد صدفة.. ولكنها إرادة الله ومشيئته..
لازلتُ أسيرُ في الطريق هنا في حي باب الشعرية وبالتحديد في شارع باب البحر وعلى مقربة حوالي مائة وخمسون مترا أو يزيدُ قليلا حارة مدين التي سُميت بإسم الزاهد الوَرِع الصوفي سيدي مدين حيثُ يوجد مسجده وضريحه المدفون فيه، لكنه غارقاً في المياه الجوفية يستغيثُ منذ أربعة عقود حائراً بين وزارتي الأوقاف والآثار وقد أُغلِقَ تماماً منذ عام 1990م إلى وقتنا هذا.
قال عنه المقريزي في الخطط ج 5 ص 110: “هذا الجامع في خط باب الشعرية بداخل حارة مدين قائم على أربعة أعمدة من الرخام والأرضية من الرخام وفيه ضريح لصاحب المقام وله مولد سنوي يُقام هو الشيخ مدين بن أحمد الأشموني من أكابر العارفين “، ويقول علي باشا مبارك في الخطط التوفيقية ج 2 ص 89: “هو الشيخ مدين بن أحمد الأشموني وكان من أكابر العارفين وانتهت إليه تربية المريدين في مصر وقُراها..”، كما أنه خال أحمد البدري المعروف بإسم السيد البدوي، وكلمة البدوي لأنه كان يرتدي عقالاً مثل البدو وله مسجد ومقام في مدينة طنطا.
ولا عَجَبَ في ذلك حيث أن جده هو الغوث الأكبر شيخ الشيوخ لبلاد المغرب العربي أبو مدين شعيب الذي وُلِدَ بإشبيليه في بلاد الأندلس ” أسبانيا حالياً “، كان محباً للعلم والدين والفقه توفي والده وهو صغير كان أصغر أخواته سناً، وهنا نجد ثمة تشابه بين سيرة الأولياء الصالحين رضي الله عنهم وأرضاهم وحال الأنبياء فيتم هنا ويتم هناك وولاية هنا ونبوة هناك وذلك سر عجيب في سير الأولياء الصالحين إن الله يصطفي من الملائكة رسل ومن الناس إن الله سميع بصير، لذلك يُعبر اليُتم عن هذا الإصطفاء حتى ينقطع الولي عن الناس وينفردُ بالحق عز وجل وهو ما عَبَّرَ عنه بن عطاء الله السكندري في حكمه العطائية حين قال: ” ومتى أوحشك من الخَلقِ فاعلم أنه يريدُ أن يفتح لك بابا الأُنسُ به”
لم تكن طفولة أبو مدين شيخ الشيوخ بعد ذلك سهلة ممهدة لطريق العلم بل عانى كثيراً للوصول إلى ما آل عليه بعد ذلك، عندما توفى والده عَهِدَ إليه أخواته رعاية الغنم والماشية التي تركها والده لكن قلبه وعقله كان معلقاً وشغوفاً منذ الطفولة برؤية الناس وهم يصلون ويقرأون القرآن الكريم بينما هو لا يُجيد القراءة والكتابة وتمنى كثيراً بينه وبين نفسه الفرار وبالفعل فَرَّ حتى ينقطِع للعبادة والزهد والعلم لكن عَلِمَ أخاه وهدده إن فَرَّ مرة أخرى سوف يقتله، ولكن بعد فترة من الزمن فرَّ أبو مدين مجدداً وإتجه ناحية البحرعند الفجر ورآه أخوه وكان غاضباً فرفع عليه السيف ليقتله لكن أبو مدين تلقى الضربة بعصاه فانكسرَ السيف فكانت هذه أولى كرامات أبو مدين وطوق نجاة له من الله عز وجل عندها أيقنَ أخيه أن بينه وبين الله شيئاً فبكى وقال له إذهب حيث شِئت.
وفي أثناء رحلة بحثه عن الله والعلم وجد أبو مدين في طريقه شيخاً جالساً متعبداً في خيمته لازمه أياماً ثم أفصح له برغبته في التعلم ومعرفة أمور الدنيا والدين فقال له الشيخ: إن أردت العلم إذهب إلى الحواضر أي المدن فإن الله تعالى لا يُعبد بالجهل، وظل هكذا يبحث ويطلب العلم من بلد إلى بلد إلى أن وصل مراكش فقال لهم إني جئت طالبا للعلم والدين فقالوا له: إذهب إلى فاس التي كانت في ذلك الوقت مثل بغداد تجمع علم قرطبة والقيروان وذهب بالفعل إلى هناك ولازم الفقهاء في مجالسهم لكن كلامهم لم يثبت في قلبه إلى أن وجدَ مجلساً لأحد كبار الأولياء أبو الحسن علي بن حرزهم فوقع كلاه وثَبُتَ في قلبه وسأله عن سر ذلك فقال له: يا بُني هؤلاء يتحدثون من طرف لسانهم فلا يتجاوز كلامهم أوحديثهم الآذان ونحن قصدنا بكلامنا هذا الله عز وجل، ثم ذهب إلى أبي عبد الله الدقاق وأخذ العلم النظري منه أما علم السلوك والتربية والتصوف عملياً أخذه عن الشيخ أبي يعزى صاحب الكرامات الكبيرة الذي قال في أبو مدين: ” سوف يكون منه كذا وكذا أي سيكون له شأنُ كبير وكرامات وولياً من أولياء الله الصالحين “، كما أخذَ الحديث أيضاً عن أبي الحسن علي بن غالب خاصةً سنن الإمام الترمذي، تبحر أبو مدين في أصول الإسلام في مكة.
وتم بناء مسجداً بإسمه في الجزائر، له غاية في الجمال والروعة ويزوره مئات من الناس وينشدون فيه القصائد وفي بلاد المغرب العربي في أعالي هضبة العباد بمدينة تلمسان يرقُد الولي الصالح أبو مدين شعيب الإشبيلي المعروف عند التلمسانيين “سيدي بومدين” يزوره الآلاف من داخل وخارج المدينة ويعتبرونه الرجل الثاني بعد سلطان الأولياء سيدي عبد القادر الجيلاني رضي الله عنهما، وهو القطب الغوثي الأكبر والذي جمع الرجال من المغرب العربي وقادهم لنصرة بيت المقدس أثناء الحملة الصليبية عليه في معركة حطين وفقد يده في هذه الحرب وتم بناء مقام له هناك بأسمه في حي المغاربة دُفِنت فيه بأمر من صلاح الدين الأيوبي إكراماً لشجاعته وتضحيته ولذلك سُميَ الحي بهذا الإسم، تخرج على يدِ أبو مدين أكثر من ألف شيخاً من الأولياء وكلهم من أصحاب الكرامات في مقدمتهم محيي الدين بن عربي الشيخ الأكبر.
لقد كانت ذرية أبو مدين تتسم بالفضائل والأخلاق العالية وحب العلم والناس والترحال الدائم لمساعدتهم على طلب العلم والإستزادة منه فأصبح مقامهم في القلوب وأجمعت المشايخ والناس على إجلالهم حتى أن أمير المؤمنين في هذا الوقت كان في تلمسان فأراد مقابلته والتبرك به، وعندما ذهب إلى المسجد الجامع هناك وما إن نزل به واستقبلَ القبلة وتَشهَّدَ وقال ها قد جئت.. ها قد جئت، وعجلت ربي إليك لترضى، ثم قال: الله الحي فاضت روحه إلى بارئها.
وهكذا كلما ذهبواإلى مكان تُبنى لهم المساجد والمدارس لينهل الناس من علمهم.
وهذا المسجد يوجد به ضريح حفيده مدفوناً بداخله، أصبحَ أثراً من ضمن الآثار شاهداً على الزمن بأسراره وآلامه ودموعه وابتساماته وذكرياته فتارة حلوة وتارة أخرى مُرة مؤلمة يحمِلُ رقم (82) كان يوماً ما عامراً يدخله الناس، قطعة جميلة شاهدة على جزء لا يتجزأ من تارخ مصر كيف يُترَكٌ هكذا غارِقاً في المياه الجوفية منذ سنوات طويلة..؟! هناك ترميمات للآثار القديمة والمساجد في شتى أرجاء مصر عامة والقاهرة خاصة ، فمتى إذن يتم إنقاذ هذا المسجد العريق لشيخ أحب مصر والمصريين..؟.
وأخيراً وليس آخراً أقول للحديث بقية.. وكلي ثقةُ في الله أولاً ومصداقاً لقوله سبحانه وتعالى: ” ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون “، وثانياً في رشد الحكومة المصرية أنها ستتحرك سريعاً لإنقاذ هذا المسجد ولن تتركه غارقاً هكذا لأنه قطعة من مصر وجزء نابضاً من تاريخها العظيم.