مساحة شخصية (2)
فراس حج محمد| فلسطين
الأدب في ظل الحرب
هل للأدب من فائدة في مواجهة وحش الموت الذي استبدّ بنا بكل شراسة التاريخ المعهودة لدى المستعمرين وغير المعهودة، يبرز سؤال: ما فائدة الأدب في ظل الحرب؟ أظنّ أن الحرب لا تفتح شهية أحد على أن يقول شعرا أو يكتب قصة أو يستعدّ لكتابة رواية. ثمة انتهازية ما في هذا الأمر. أنت تكتب والناس تصعد للأعالي بالمئات. إنه لأمر مخجل حقاً.
الحرب ظرف مواتٍ للكتابة على ألاتكون بهذه الشراسة التي ينتفي معها التفكير بغير وحشيتها. عندما تتعاظم الحرب كالتي تحدث الآن في غزة، لا أهمية للأدب بشتى أنواعه، لمن يكتب الكتّاب؟ أيكتبون لتمجيد الشهداء؟ لقد رحلوا أليس كذلك؟ من سيقرأ ما نكتب؟ أنكتب لنا نحن لنذكر أنفسنا بعد حين- إن أبقت الحرب منا أحدا-؟ أنكتب للقراء العرب أو الغربيين المشغولين بعدّ ضحايانا والدعاء لنا. ما فائدة أن يقرؤوا؟ ألم يشاهدوا مجازرنا؟ وأمثلهم طريقة بكى علينا أو دعا لنا؟ أم نكتب لمن حرّموا الدعاء لنا بسقطاتهم الفقهية السلطانية المخزية؟
ما نفع الأدب في ظل الحرب؟ على الرغم من انشغالي بالإجابة، وتختلف إجابتي عن هذا السؤال، فعندما أكون أمام التلفاز، وأشاهد فظائع الحرب التي فاقت بفظاعتها أكثر الأفلام دراماتيكية وفنتازية. الحرب مدهشة في هذا الذي رأيته وأراه. والأكثر دهشة نحن الذين نحتمل كل هذا الذي نراه ولا نُجَنّ. كيف ظللنا صامدين، نأكل ونشرب ونشاهد التلفاز، ونكتب! أنكتب من أجل أن نرمم بعض أوجاعنا؟ وهل بمقدور الكتابة أن ترمم جرحا مفتوحا بهذا الكم النازف من الدم والموت والظلم والظلام؟
لا معنى للكتابة وأنا أدخل التلفاز وأضع نفسي بين الضحايا، باكيا مرة، وصارخا مرات، وشاتما بأفظع الشتائم قلب هذا العالم المتحجر، لاعناً أمريكا وشبه أمريكا وأحزاب أمريكا، وأقول كما قال أحد السوريين مرة: تباً لكم جميعا، وقد عدد المعارضين والموالين والدول الكبيرة والصغيرة كلهم أجمعين، ثم قال: “وتبا لي أنا”. أتذكره الآن، وأتذكر كيف تعاملت مع موقفه كأنه سخرية، أو فكاهة تدعو إلى الضحك، يا لسفاهتي عندما ضحكت مسرورا كأن ما قاله نكتة. إنني، ومعي ملايين من المشاهدين الآن، قد وصلنا إلى أن يقول أحدنا: “ألا تباً لنا جميعا”. عدا المقاومة بطبيعة الحال.
حالة مشبعة من الفراغ، تختلف عما أكون فيه وحدي، وأحاول البحث عن عبرة أو حكمة أو بصيص أمل من بين هذا الركام، ثمة أحبار تردّ فيّ الروح، أبكي مرة أخرى بفرح مكبوت أخاف أن يتبخر. أسترجع تجارب الحروب السابقة على غزة وعلينا وعلى العرب وعلى المسلمين والمذابح التي ارتكبت بحقنا، ونحن ما زلنا أحياء لم نمت. إذاً لن نموت، ولو مات منا ملايين الناس، أطفالا ونساء ومسنين، سيبقى فينا عِرق ينبض.
التاريخ يعلمني بهدوئه الجمّ المحايد أن “الأيام دول”، وعلينا ألا نضعف وألا نتقهقر، مررنا بما هو أصعب، ومرّ غيرنا بما هو أقتل، لكن “لا فناء لثائر، أنا كالقيامة ذات يوم آتي”. تعود ثقتي بالأدب مرة أخرى، أعود لأسمع الأغاني الحماسية والأناشيد المناضلة، أستعيد توازني وأشد من أزر نفسي، وأكتب، فثمة ما يستدعي أن يُكتب عن هذا الظرف العصيب.
في أعالي المعركة
من رحم هذا الصراع بين الفكرتين النقيضتين، ولد ديوان: “في أعالي المعركة”. أريد أن أؤكد أهمية الأدب في ظل الحرب، لقد اختبرت ذلك فعلا، وإن لم أكن أعي تماماً ما فعلته حينها، عندما كتبت لغزة عام 2014 ديوان “مزاج غزة العاصف”، كتبته بطريقة مختلفة عما فعلته في هذا الديوان. هنا أنا مع الناس، أصرخ بأعلى صوتي، أتحسس الشهداء، وأجسادهم، أخاطبهم، أعيش النكبة من أولها، لكنني لم أغرق في السواد المفضي إلى العبث، بدأتُ بباب الموت وانتهيت بباب النصر. لا بد من أن ننتصر، ولو بلغ عدد الشهداء ما بلغ. لأنه لا مفرّ لنا إلا أن ننتصر، لا أن نموت. علينا أن ننتصر في غزة، لننتصر في الضفة الغربية، لأنه لو انكسرنا هناك، سنضيع هنا. هذا إحساسي الوجودي في هذه المعركة، لذا فأنا أعتبر أن هذه الحرب هي حربي الشخصية، وأنا جنديّ فيها، متمنيا لو كنت أستطيع القتال، والله لكنت أحد الحاملين السلاح، ولن آلو جهدا في تقديم دمي على مذبح النصر والحرية فداء لنفسي ولأولادي وأحفادي.
عليّ أن أعوّض هذا العجز الماديّ عن القتال إلى القتال على جبهة الأدب. هذه هي الفكرة التي دفعتي لأكتب هذا الديوان “في أعالي المعركة”، أتتبع المأساة من أولها منذ خمسة وسبعين عاما وحتى الآن، وأمرّ بالشهداء وأسلّم على الكثير منهم، وأقيم بينهم أعراسهم وأعراسي، وأعرج على القدس وأفتح بوابتي للسماء، لأدلف للحرب التي ألعن من أجبرنا على أن نكون وقودها، لأستقر في باب النصر. رحلة متعددة من المشاهد والمشاعر.
أسقط في هذا الديوان الاعتبارات النقدية الساذجة، أعود لما قاله يوسف اليوسف في مقدمة كتابه “مقالات في الشعر الجاهلي” حيث التفت إلى طبيعة شعر الشاعر العربي المعاصر وأنه لا بد من أن يكون ابناً لبيئته ويتمثل روح عصره، وأنه ينبغي عليه ألا يكون رمزياً، فالرمزية لها سياقها الاجتماعي أولا، أما نحن فلا بد من أن يلتحم شعرنا بالجماهير، علينا أن نلتحم بقضايا الجماهير، والجماهير الآن من المحيط إلى الخليج تهتف بصوت واحد: “الموت لإسرائيل”. لن أخجل فنيا من أعود مباشرا، واضحا، متحدياً أقول: “لبيك واجعل من جماجمنا لعزّك سُلما”، وألعن هذا الكيان الغاصب المحتل الهمجي، لأقول: “من يحمِ إسرائيلَ خان”.
إن قتل الأطفال بمثل هذه البشاعة وقد أحرقتهم آلة الحرب المتوحشة لا تجعل للرمزية أو الجمالية الأسلوبية أي معنى. فالعدو لا يقتلنا بالرمزية ولا بالسريالية، بل إنه يصهر لحمنا على نار الصواريخ بكل واقعية ومباشرة وجماهيرية ووقاحة. أيعقل إذاً أن نكون رمزيين جماليين؟ سأكره النقاد الذي سيجدون من تفاهاتهم مجالا للانتقاد من هذه الزاوية. إنهم بالفعل لا يعقلون ولا يفهمون، ولا يدركون معنى أن يكون الأدب في ظل الحرب واضحا ذا رسالة لا يواري ولا يتوارى خلف استعارات بلهاء. هذه الفكرة بالذات “الاستعارة البلهاء” كانت حاضرة في ديوان “في أعالي المعركة”.
المجاميع الشعرية (الأنثولوجيات)
من ذات الفكرة أيضاً تنشط دعوات بعض المؤسسات لإعداد مجاميع شعرية تستلهم الحرب الدائرة على غزة. في الكويت، وفي الأردنّ، وفي الجزائر، وربما غير هؤلاء. في القراءة الأولى لهذه الدعوات ثمة ما هو اعتراف بدور الأدب في ظل الحربّ، فلولا هذا الدور لما وجدت هذه الدعوات للملمة القصائد في مجاميع شعرية، تشترك في التعبير عن فكرة واحدة معركة طوفان الأقصى والحرب على غزة، وكانت لجنة أدبية نقدية قد أنجزت قبل هذا المشروع مشروع شعري عربي بمشاركة أكثر من 40 شاعرا لإنجاز ديوان “رباعيات جنين”. إذ كانت جنين ومخيمها وكتيبتها وعرين الأسود هي الظاهرة الأبرز في القتال والمعركة اليومية مع الاحتلال.
هذه الدعوات غير غريبة وغير مستهجنة وتنبع أصلا من تصور نقدي يسعى إلى لمّ النصوص ذات الهدف الواحد أو الموضوع الواحد، تمهيدا لدراستها بشكل موسع في دراسات نقدية منهجية. كما هو في كتاب “ديوان الشهيد” الذي ضم مجموعة قصائد للشعراء المشاركين بمسابقة أفضل قصيدة بذكرى مجزرة كفر قاسم، وديوان “الشهيد محمد الدرة” بجزأين، و”ديوان الفرقان” الذي جمع فيه محرره الدكتور أسامة الأشقر قصائد عن معركة الفرقان في غزة عام 2009، ومن اللافت للنظر عنوانه الفرعي: “قصائد مقاتلة أطلقتها مدافع الشعراء في ملحمة غزة 2009”. لافتا للنظر في مباشرته وتحديه، وتمثيله للفكرة التي أستندُ عليها في هذه الكتابة وتؤكد دور الأدب في ظلّ الحرب.
هذا الديوان لم يكن نتاج مسابقة ما وإنما جهد بحثي من خلال الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية حتى استطاع جمع ديوان كبير الحجم متنوع القصائد وممثلا لأسماء كثير من الشعراء من أجيال متعددة، بهذه الكيفية فعل الباحث أ.د. عادل أبو عمشة (أستاذي في جامعة النجاح الوطنية لمساق الأدب الحديث) عندما جمع مجموعة من قصائد الانتفاضة الأولى في كتاب “شعر الانتفاضة: دراسة واختيار” ليكون للكتاب قيمة تاريخية ونضالية.
لاشك في أن الدعوة محفّزة وجيدة لإعداد ديوان حول هذه الحرب، لكن ارتباطها بفكرة الجائزة- كما أعلنت عنه مؤسسة عبد العزيز البابطين- تجعل الأمر براغماتيا نوعا ما، وتصبح الكتابة ذات هدف مادي، ليس عند الجميع بطبيعة الحال، لكن لا تخلو الدعوة من فتح المجال لمثل هذا التفكير البعيد عن نقاء الهدف وسمو الغاية، وجمالية الحرب ذاتها التي راح ضحيتها آلاف الشهداء، وكأنّ أحدهم لم يكن معنيا بدماء الضحايا إلا بقدر المسابقة على ما تقدمه له تلك الدماء من فرصة الفوز بإحدى الجوائز الثلاثة المعلن عنها.
التأرجح بين الفكرتين ومسؤولية الحرب
تبيّن لي أن للحرب الطاحنة قدرة على أن تجعل المرء يتأرجح بين فكرتين نقيضتين، تميل لفكرة ما بفعل الحرب، فتدفعك الحرب ذاتها لتتخذ حيالها فكرة مغايرة تماما، هي ذاتها مسألة التأرجح بين اليأس والأمل، علينا ألا نغرق في لجة اليأس الأسود القاتل، ولا أن ننتشي بالأمل إلى حد الإفراط الأعمى فلا نرى الحقيقة الماثلة.
علينا أن نتعلم من التاريخ دروسه الواقعية. علينا أن نظلّ في صلب هذه الحرب مقاتلين، لا نستسلم، ننتصر أو نموت. نعم ننتصر أو نموت، أما الاستسلام ففكرة غبية جداً. ماذا يعني الاستسلام سوى العبودية والذل، وفقدان معنى أن تكون حراً. فالموت هو خيارنا إن خيرنا بينه وبين الاستسلام، سنظل نقاتل حتى نبيد جميعاً، بكل معنى الكلمة، حرفيا، لا مجازيا، نُباد ولا الاستعباد.
وعلينا أن نتعلم من الحرب قسوتها الرحيمة هذه، إنها تمنحنا شرف الموت ببسالة على أن نرفع الرايات البيضاء. يا إلهي! أي خزي وعار سيلحقنا بعدها في الدنيا؟ سنأكل ونشرب ونتمتع ونأكل كما تأكل الأنعام. أي جحيم هذا الذي سنتقلب فيه، ونحن نرى الأعداء صباحا ومساء يذكروننا بتلك المشهدية المخزية؟ فما زالت فضائياتهم تبث بين الحين والآخر مشهد “اقتحام سجن أريحا” وأخذ المحتجزين فيه وهم في ملابسهم الداخلية، أي حرب ستمسح هذا العار الذي أوقعتنا فيه السلطة، والأعداء معاً؟ بل كم من حرب يلزمنا لنمسح هذا العار الذي دنّس الأرواح، وهشّم الروح المعنوية. كان ذلا وطنيا وقوميا قاسياً جدا جدا جداً، وفضائحيا عالميا، ولن تسامح الأجيال مَن فعلها مِن الطرفين على فعلتهم تلك مهما كان. فبعض الانكسارات لن يجبر بسهولة، بل إنه من المستحيل أن يجبر.
لكل ذلك علينا أن نعيد بكل فخر واعتزاز ونحن في معمعة هذه الحرب الضروس ما قاله إبراهيم طوقان في رائعته الخالدة “موطني”:
الشباب لن يكلّا/ همه أن يستقلّا/ أو يبيدْ
نستقي من الردى/ ولن نكون للعدى/ كالعبيدْ
هذا ما تعلمه الحرب لنا، فعلينا أن ننتصر إذاً، وإن لم ننتصر- لا سمح الله- علينا أن نمنع شماتة الأعداء فينا. فإنها قاسية ومرة، وتُفقد طيبات العيش معناها وطعمها ولذاذتها، وهذا ما يعلمه لنا الأدب، ذلك المكتوب في ظل الحرب، معبّرا عن أصل الفكرة الإنسانية التي يستشعرها كل بني البشر ممن أوتوا الحكمة وفصل الخطاب وقوة الروح المعنوية وحق العيش بحرية وكرامة، رغما عن كل آلات الدمار العالمية والاستعمار الهمجي الذي لا يرانا إلا ونحن أقوياء شامخين نضرب بعنف ونتحدى كل العالم بقوة الحق، وحق امتلاك القوة.