
د. أحمد الطباخ
لا يمكن للرجولة أن تختبر، وتكتشف إلا من خلال المواقف والأحداث، فعندئذ يظهر معدنها، وتتجلى بصورة ناصعة لا سيما عندما يكون مبعثها الإيمان، ومعدنها الأصل الشريف، والحسب الزكي، فلن تتغير نفوس أشربت الإسلام مهما علا منصبها، وسما نجمها ، وارتقى سلمها، وذلك قمين التربية القويمة والأخلاق الحميدة والنفوس الأبية والقلوب النقية، وفي مجتمع الإسلام تظهر تلك المعادن الثمينة والمواقف العظيمة كما حدث مع سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فعندما أراد الزواج من أم كلثوم بنت أبي بكر، وكان حينئذ أمير المؤمنين..بعث إلى أختها السيدة عائشة رضي الله عنها.. فرحبت بذلك السيدة عائشة وسعدت بهذا الخبر.. فأسرعت إلى أختها تبشرها بالنبأ السعيد..ففوجئت بـأم كلثوم تقول لها: وما أفعل بعمر؟! ذلك رجل خشن العيش شديد الغيرة لا يملأ رأسه إلا الرعية.. وأنا شابة أريد من يصب عليَّ الحب صباً ويكون عابداً لله .
فاستنكرت عليها ذلك السيدة عائشة قائلة:يا بنيتي إنه عمر أمير المؤمنين، فغضبت أم كلثوم وقالت: والله إن لم تتركيني لأصرخن أمام قبر رسول الله أني لا أريد عمر بن الخطاب..فحارت السيدة عائشة في أمرها.. فذهبت تستنجد بعمرو بن العاص تخبره أنها حائرة في أمرها.. فذهب عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب، وقال له: ألا تتزوج ؟
فقال عمر بسعادة: بلى.. فسأله عمرو بن العاص: ممن؟
فرد عليه: أم كلثوم بنت أبي بكر ! ، فرد عليه عمرو بن العاص: ومالك وتلك الجارية مات أبوها منذ شهور، وهي تبكي لك بالليل والنهار تنعي أباها.. فنظر إليه عمر بن الخطاب نظرة ذات مغزى سائلاً إياه: أو حدثتك عائشة؟
فرد عمرو بن العاص: نعم
ففهم عمر بن الخطاب، ثم أومأ برأسه: إذن لا داعي لها.
كلما قرأت هذه القصة أحسست عظمة هذا الدين، ونبل رجاله، وطهارة نسائه، وغيابنا وبعدنا عن هذا الدرس الكبير والعبرة العظيمة..وانظروا إلى جُرأة هذه الفتاة الصغيرة، و هي ترفض أمير المؤمنين!، وانظروا إلى هذا المجتمع الرائع الذي تقبل وجهة نظرها باحترام.!، وانظروا إلى حسن تدبير امنا عائشة، وعمرو بن العاص في إيجاد طريقة لبقة لإبلاغ عمر بالأمر، وانظروا إلى عمر، وهو يتقبل هذا الرفض، وهو الفاروق أمير المؤمنين، وانظروا لأُم كلثوم، وهي تعلن دون حرج حاجتها لرجل يصب عليها الحب صبا دون أن يتنافى ذلك مع اشتراطها للدين حين قالت: ويكون عابدا لله، ولهذا تزوجت رضي الله عنها بعد ذلك طلحة بن عبيد الله، وهو من العشرة المبشرين بالجنة.
لم تراودها أحلام النساء، فقالت: إنه الخليفة الذي تقدم لخطبتي، وسأكون معه في قصره المنيف وحشمه وخدمه، ولكنها قدرت الموقف تقديرا واقعيا من خلال ما رأته من عيشة الخلفاء الراشدين الذين ساسوا الرعية بالعدل والمساواة، ورفضته بلباقة وأدب، واختارت العابد الناسك سيدنا طلحة بن عبيد الله الذي كان من العابدين الصادقين، ومن العشرة المبشرين بالجنة في مثل سنها، ويعينها على الدين، ويبادلها مشاعر الحب مع دين، فاظفر بذي الدين فهو المعين بعد رب العالمين، فما أروع ذلك المجتمع الذي نالت فيه المرأة من الحقوق ما فاق على ما جاءت به حضارة الغرب المادية التي خدعت المرأة، وخلعت أنوثتها وقيمها، وجعلتها سلعة للبيع، ومتعة للجنس فخسئ.