تأملات في مرثية أبي ذؤيب الهذلي
بقلم: خالد رمضان
البلاءات والابتلاءات منح واختبارات فَقدٌ وعطاءات تعتري المرء أيًّا كان لونه أو جنسه أو وضعه، فلا تميز بين عربي أوأعجمي فقير أو غني، بين عظيم أو حقير، أو بين مغمور وشهير، فلابد أن تعضك الأيام بأنيابها، وأن تمزقك بمخالبها، فإما أن يكون البلاء منحة ترفع قدرك وتعلي شأنك، أو يكون محنة ونقمة تردي صاحبها، وتحط رافضها.
سُئل الإمام الشافعي – رحمه الله-: هل يُبتلى الإنسان حين يُمكَّن؟
فقال: لا يُمكّن حتى يُبتلى، فكأن الأصل أن يُبتلى الإنسان قبل التمكين.
قال تعالى: “ونبلوكم بالخير والشر فتنة”، ويقول المثل المصري: (مفيش حلاوة من غير نار ).
وهنا ننظر إلى البلاء من زاويتين
أمّا الأولى:
قد يكون محنة، وقد يصير منحة، فإذا أحسن المرء استقبال البلاء ففتح له ذراعيه وتقبله بنفس راضية وقلب مطمئن تحول – بفضل الله- إلى منحة يرفع الله بها شأنه، ويعظم له أجره، وكان عنده من المحمودين،
أما إذا سخط ونقم على ما أصابه فقد خاب وخسر وكان عند الله من المنبوذين .
وأمّا الثانية:
إن البلاء يكون بالخير كما يكون بالشر، وهنا قد يتساءل البعض كيف يكون ذلك؟
أذكرهم بقوله تعالى: “ونبلوكم بالخير والشر فتنة”، ودليل ٱخر ألا وهو حديث النبي – صلى الله عليه وسلم- عن الأقرع والأعمى والأبرص، وما كان منهم عند تحول حالهم من الفقر والمرض، إلى الصحة والغنى، وما كان من الأقرع والأبرص من رفض للزكاة والتصدق معللين أن هذا المال ورثناه كابرا عن كابر، ورفضوا العطاء قائلين: إن الحقوق كثرة حتى دعا عليهما الملك فعادا كما كانا.
أما الأعمى الذي عرف حق الله تعالى وقال للسائل: خذ ما يكفيك فقد كنت فقيرا فأغناني الله، وكنت مريضا فعافاني الله، فدعا له الملك ببقاء ماله، ودوام حاله على حاله. قال تعالى: أفحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا ٱمنا وهم لا يفتنون”.
والآن نذهب سويا إلى شاعرنا المخضرم أبي ذؤيب الهذلي المبتلى بفقد بنيه الخمسة بسبب طاعون أصابهم فكانت صدمة الدهر، وفجيعة الفجائع التي كادت تودي بحياته لولا أن صبره الله.
رغم هذه المصيبة القاتلة إلا أن الله تعالى جعلها له منحة ورفعة فانسالت على لسانه أروع الأبيات، فاضت قريحته بأجمل الكلمات التي تغنى بها الزمن وطربت لها الأيام فكانت درّةً متلألئةً في تاريخ الشعر ونجمة ساطعة في سماء الأدب وزهرة باسمة في حدائق اللغة .
هذي المرثية التي حفظها الكبير والصغير الغني والفقير، القصيدة التي طرب لها الركبان، وترنم بها الرعاة في الصحاري والوديان، وجرت على ألسنة النساء والصبيان فكانت الجانب المشرق في هذا البلاء، وكانت العوض عن هؤلاء الأبناء.
لقد مات الشاعر وماتت أبناؤه وانتهى عصره وبقيت أبياته كأنها كوكب دري يضئ ولو لم تمسسه نار، فكانت سلوة المبتلين وبردا وسلاما للمصابين. بدأ أبو ذؤيب أبياته قائلا:
أمن المنون وريبها تتوجعُ
والدهر ليس بمعتب من يجزعُ
قالت أميمةُ ما لجسمك شاحبا
منذ ابتُذلت ومثل مالك ينفعُ
أودى بني فأعقبوني غصةً
بعد الرقاد وعَبْرةً لا تُقلعُ
ولقد حرصتُ بأن أدافع عنهم
وإذا المنيةُ أقبلت لا تُدفعُ
تأمل كيف صور تلك الفجيعة وأثرها على نفسه وجسده الذي أصبح نحيلا شاحبا، وكيف صار وكأن في حلقه غصةً كادت تقتله،وفي عينيه دمعة لاتفارقه.
وكأي أب تختلج داخله مشاعر الحب والرحمة بأبنائه الذين يموتون أمام عينيه كان حريصا بأن يدافع عنهم بكامل جهده وكل طاقته ولكن كما قال الشافعي:
ومن نزلت بساحته المنايا
فلا أرض تقيه ولا سماءُ
لأن الموت إذا حل بالمرء فلن يستطيع الفكاك حتى وإن كان في بروج مشيدة. ثم أنشد يقول:
وإذا المنية أنشبت أظفارها
ألفيت كل تميمة لا تنفعُ
فالعينُ بعدهم كأن جفونها
سملت لشوك فهي عورٌ تدمعُ
وتجلدي للشامتين أريهم
أني لريب الدهر لا أتضعضعُ
والنفس راغبة إذا رغبتها
وإذا ترد إلى قليل تقنعُ
كم من جميعي الشمل ملتئمي الهوى
كانوا بعيش ناعم فتصدعوا
هذه النازلة التي تركت عينيه لا تجف عن البكاء وكأن بها الشوك الذي مزق أنسجتها فلا يرقأ لها دمع، ولا يبرد لها جفن.
إن هذا الشاعر كان راسخ القلب ثابت الجأش متحملا متجلدا لا يقبل أن يشمت به أحد، ولا أن يفرح فيه عدو متمثلا حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- ودعوته “اللهم إنا نعوذ بك من درك الشقاء وعضال الداء وشماتة الأعداء” وعلى حد قول الإمام الشافعي:
ولا تُر للأعداء قطّ ذلّا
فإن شماتة الأعداء داء
ثم يختم قصيدته بحكم سنظل نردد إبد الٱباد، مفادها: أن النفس ترغب إذا رغبتها، وتنتهي إذا نهيتها، وأن البلاء والابتلاء لا يختص بقوم دون قوم، وأن لُحمةَ الناس وترابطهم لا يدوم فكم من أناس كانوا عصبة واحدة فأصبحوا كهشيم المحتظر، أوكالبناء المنهدم أعاذنا الله تعالى وإياكم من السخط بعد الرضا ومن الفقر بعد الغنى ومن العقوبة بعد البلا .