بقلم: عصام الياسري
في لقاء اعتدنا عليه بين الحين والآخر، كنت والصديق الكاتب والإعلامي يحيى علوان نتحدث عن ظاهرة ملتبسة لا تنفصل عن اضطرابات نفسية سائدة في المجال الثقافي في مجتمعاتنا العربية، ألا وهي (هوس الشهرة) عند أبناء المحيط العربي ومنهم بعض العراقيين في المهجر. وعلى ما يبدو أن انتشار ظاهرة الهوس بطرق مختلفة عند البعض من الكتاب والشعراء الناشئون، أصبحت أشبه بما يعرف بداء (العظمة). تفسر بلمحة سريعة أقل ما يقال عنها إشارات “صراع ثقافي بين الأجيال” أو نظرة قاصرة تجاه المنجز الأدبي للمبدعين الرواد العرب بالمهجر على الصعيدين العربي والعالمي في مجال “الشعر والرواية والفنون”. ولكن إذا نظرنا عن كثب إلى الأمر سنكتشف بأن “شهوة الشهرة” يمكن أن تسبب ليس إشكاليات ثقافية وفكرية فحسب، إنما الإدمان على هذا السلوك، وقد يستغرق الأمر وقتا طويلا حتى يدرك البعض مدى ضياع التركيز عليه كثيرا، حيثما تتلاشى أحلام النجاح والشهرة. وبعد كل شيء قد تتغير الأولويات، لكنها أن تغيرت، كان هوس المال دائما هو الهدف، وليس فيما يتعلق بإنبات فلسفة الإبداع الفعلي. على مدار الوقت، تم تطوير نماذج عديدة لهذه الظاهرة، وفي كثير من النواحي بشكل مثير للجدل، في البحث الإنساني والاجتماعي والثقافي.
تتخذ مظاهر شكل الإنتاج الأدبي في نظر أصحاب “هوس الشهرة”، ليس كعلاقة مسبقة ووسيط يجب أن يؤخذ في الاعتبار في خصوصيته، إلى حد كبير، دوره منذ عقود في نشر ورقي المنتوج الأدبي العربي الأصيل كممثل ثقافي اجتماعي، لا ينضب تركيزه الرئيسي على المواجهة الحقيقية ضمن مختلف الثقافات. بل العكس، يمكنك أن ترى، أنه من لم يكن مقتدرا، جعل الناس يعتقدون أنه كاتب أو شاعر عصره. إن “الفرق بين القديم والجديد” يكمن في مدى حاجة الآخر، حين يكون الجديد “مثقفا لغويا” حقا، عندئذ فإن شخصا دائما يراعي نشاطه الثقافي. غير ذلك لا يمكن أن تتسامح مع أي مظهر آخر في هذا الشكل، غير المستقر، إلا عندما يكون كل واحد في دور “أنا” قادرا على الرجوع إلى النظير في دور “أنت”. ومثلما يُدعى الإنسان للإجابة عن طريق قدرته على الإجابة عن نفسه، عليه ألا يسيء الظن بأن “الأنا”، فقط، من خلال ذروة أن يكون المرء قادرا حقا على قول “أنا” من أجل إن تكون العلاقة بينه وبين الآخر في الشأن الثقافي لا لغرض ولا جشع أو ترقب، إنما إلى أبعد من العلاقات بكل ما في الحقيقة، إذ إن اكتساب الشهرة يعني قبل كل شيء إثبات قيمتك الثقافية بما ينسجم مع القيم الإنسانية.
عقدة الـ “أنا” و “هوس” الشهرة بالسرعة القصوى وبأي ثمن، حالة ليست بالجديدة على المجتمعات الثقافية العربية في المهجر، إنما هي ظاهرة بدأت في أواسط سبعينيات القرن الماضي. آنذاك أخذ التنافس بين ضعفاء النفوس طابعا شخصيا للظهور في المنصات الثقافية الأدبية والفكرية في أوروبا، فقط لأجل أن تتصدق بعض المؤسسات الأوربية المشبوه بحفنة مال أو طباعة ديوان أو كتاب. هذا الارتباك الفكري واقع الحال لا يرقى لأن يكون وسيط لثقافة لديها ما تختزن من مهارات أدبية عبر التاريخ، ولا علاقة بموروثنا الثقافي، بل حماقة البحث على أرصفة الطريق عن شهرة زائفة. وعلى ما يبدو أن مفهوم الـ “… أنا” عند الناشئين أو دخلاء الثقافة، لا زال بعيدا عن التنقيب في أساسيات النصوص الأدبية السردية ـ الشعرية والحوارية، في الأدب العربي القديم والحديث، والذي قل نظيره القيمي مجتمعيا في العديد من الأماكن والأزمنة. بمعنى آخر، عدم فهم هؤلاء فلسفة العلاقة بين الإنتاج الأدبي ومصير الإنسان على اعتبار أن للثقافة الأدبية غايتين، الأولى من شأنها نشر الوعي واستخدامه لبلورة عناصر التأمل والتفكير في المحيط الاجتماعي الثقافي. الثاني أن يكون عنصر فاعل للدفاع عن قضايا الإنسان، الذي لازال ذلك حيويا ولم ينفصل منذ أول ملحمة شعرية “كلكامش” قبل آلاف السنين ولغاية اليوم. ولا زال أيضاً، في غاية الأهمية لرسم الخريطة الثقافية العربية وبالأخص أدب الشعر والرواية واتساع حجم روادها في العالم.
لا ضير في أن ينمو النشاط الثقافي الأدبي العربي في محيطات غير محيطه الأصل، لكن عليه أن يكون وحدة متجانسة إلى آخر حدود التناسق الحرفي التنموي، بعيدا عن ضجيج المهرجين ممن يسيئون الفهم للثقافة العربية وأبجدياتها اللزومية، مثل عدم إتقان اللغة ونقاوتها، افتقار الخبرة، انعدام الأساسيات والمناهج الألسنية والجمالية التي تمتاز بها وتشكل كغيرها من اللغات مقومات أي ثقافة وأدب، ودونها لا تنشأ أي ثقافة… الغريب أن العديد من العرب من أصحاب المقدرة والمكانة على الساحة الثقافية والأدبية والفكرية، أصبحوا جزءا من لعبة “الذروة الزائفة” وللأسف ملاقاتها ليكونوا جزءاً من المحسوبين عليها. فشكلت ظاهرة ميزة تستغلها بعض المؤسسات الأوروبية لإيقاع بعض المثقفين العرب الشباب المصابين بهوس الشهرة والعظمة في حبالها للاستفادة منهم بالشكل الذي تتطلبه مصالحهم دون أن يدركوا ذلك.
في تسعينيات القرن الماضي نظمت أكبر مؤسسة ثقافية في ألمانيا “دار ثقافات العالم”، ندوة ثقافية أوروبية على مدى أيام. الصديق المفكر أودونيس كان مدعوا للمشاركة. ونحن في طريقنا من مطار برلين متوجهين لمكان السكن وكان “بنسيون” صغير وليس هوتيل. اقترحت عليه أن نذهب أولا إلى دار الثقافات للاستفسار حول الأمر. سألني ما العمل إذا تبين سكن الضيوف الآخرين في أماكن موقرة، أجبته… “مكانك أعود مباشرا من حيث أتيت.. لأن ذلك غير مقبول”، وهو ما حدث بالفعل عند انكشاف الحقيقة… بعدها بأشهر نظمت مع الصديق الراحل المؤرخ زياد منى أمسية في نفس الدار للشاعر العربي الراحل نزار قباني شاركت فيها المفكرة الفلسطينية سلمى خضراء الجيوسي، وعلى ذكر الإحاطة بما حدث مع أودونيس عهدت لي إدارة المركز اختيار الهوتيل المناسب خوفا من أن يتكرر الموقف. وعند تنظيمي بالتعاون مع الصديق السينمائي قيس الزبيدي عام 1995 أمسية للشاعر العربي الفلسطيني الراحل محمود درويش في دار ثقافات العالم اقترح علي مدير الإدارة “الدكتور شيرر” أثناء إحدى جولات المباحثات، أن أسأل الشاعر درويش فيما إذا لديه مانع من مشاركة الكاتب اليهودي “آموس أوس”، سألته لماذا؟، أجابني لنضمن حضورا واسعا. قلت له: لكن علمي أن محمود سيرفض قطعا. لأنه وأنا أيضا، ندرك بان أدبنا العربي يحتل المركز الذي يستحقه، وان المثقف العربي لا يمكن أن يقاس على أنه من الدرجة الثالثة. نقلت المقترح مع ذلك لدرويش فسألني، ماذا كان ردي؟ أجبته كما ورد فقال: موقف مبدئي بمستوى المسؤولية… أخبره إلغاء الأمسية. عند هذا الحد انتهى أمر “أوس” وضجت القاعة الواسعة عن بكرة أبيها بالجمهور ووسائل الإعلام.. اذكر ذلك من باب التنبيه على مدى المسؤولية الثقافية والاخلاقية التي كان يتحلى بها جيل المثقفين العرب في الازمنة الغابرة ازاء ثقافتنا العربية، وبالتالي قيمها على المستوى الشخصي والعالمي. وليس بدافع الـ “..انا” و “شهوة الشهرة”.
امتدح قيصر بروسيا فريدريك الثاني، الملقب بالعظيم، طاقة اللغة الفرنسية – لا شيء آخر، لا الليونة ولا النشوة. وكان يضع الفكر والأفعال على قدم المساواة، على عكس مظاهر البحث عن المجد باي وسيلة وغاية. ولم يكن عرش فرنسا معيار عنده: كان سيقاس به. انما وجد الثقافة ـ الادب والفن لا تضاهى في جميع درجات العرش. لا في فرساي التي تُرى من بعيد، وباريس لم تطأ قدما أبدا. جلست العقول المستنيرة للمملكة حول طاولته في بوتسدام – ليس بالضبط طواعية، لكن هذا لم يزعجه. ما أعجب به في فرنسا هو السمعة لفلاسفتها، حتى لو تم حظرهم.: كان يجب ألا يسمح لنفسه بأكثر من تفوق المفكرين والادباء. ومن الغريب أن الملك مات وهو يشيخ في استضافته واحترامه للادباء والثقافة والمثقفين والمفكرين، ليس الاوروبيين فحسب، انما من مشارق الارض ومغاربها. على النقيض من الصورة الذاتية المعكوسة عند المثقفين العرب الذين لديهم شغف كتابة “الشعر او الرواية”، لكن بالنسبة لواقعهم، امرا يتوجب إلى حد كبير ان يكون له سياقات لا تترك مجالا دون تنفيذ أهدافهم ونواياهم الشخصية. الامر يبدو الى حد ما طبيعيا، لكن تفسيره يتم في واقع الحال وفقا لاتجاه البحث على انه الصورة السيسيولوجية للشاعر او الكاتب والتي إذا ما أخذ المرء في الحسبان مدى تعبيرها المحدود في التفسير، سوف لا تنفصل عن غاياته المرتهنة الى “هوس الشهرة” بثقة مفرطة للغاية، ولكن إلى أي مدى يمكنه تحقيق ذلك في عمله الابداعي؟ الصورة لحد الان تبدو قاتمة، في شكلها واسلوبها.
في تقديري تشكل ثقافتنا عموما صراعات فكرية تتفاعل مع الأحداث وتتطور مع الزمن بموضوعية أهمها: المذهب العقلاني الذي يقول بأن العقل مصدر كل معرفة، والعلماني الذي يطالب بفصل الدين عن الدولة، والإسلامي أو الغيبي الذي هو ما لا يعرفه البشر إلا بواسطة الأنبياء. لكن كل هذه التناحرات لا تشكل نسبيا أي معيار، بقدر ما تبقى الباب أمام أعداء الثقافة العربية مفتوحا على مصراعيه فتختزل حضارتنا ويتعمق باسم “الثقافة” اتجاه الكتابة المشوهة على حساب ازدهار الاتجاه الثاني الذي يرفض إحباط القيمة الإبداعية في تراثنا الثقافي لأجل الشهرة والمال.