ما سر عبقرية محمود درويش؟
بقلم: توفيق أبو شومر
ستظل قصائد الشاعر الكبير محمود درويش نبعا نستقي منه عبقرية الإبداع والجمال الشعري سنواتٍ طويلة، لأن الشعراءُ والمبدعين أمثال محمود درويش لا يُدفنون عندما يموتون، بل يتحولون إلى سمادٍ رائع للإبداع، ونسماتٍ وعطورٍ وباقات ورودٍ لا تذْبُلُ أبدا.
كثيرا ما ساءلتُ نفسي: هل يعودُ إبداعُ محمود درويش وعبقريته الشعرية إلى ارتباط شعره بنضالنا الفلسطيني، مما يجعل شعره مجردَ لوحاتٍ دعائية نضالية، كما قال بعض أشباه النقادِ في سبعينيات القرن الماضي، وهويُقدِّمُ نقدا لبعض قصائد محمود درويش في معرض احتفالٍ أدبي، كنتُ أحضُرُهُ، لدرجة أنه قال: لولا قضية فلسطين، لما سمعتم بمحمود درويش، فعبقريته تكمنُ في قضيتِهُ؟!!
أم أن لإبداع محمود درويش سماتٍ تجعله مختلفا عن بقية الشعراء، سماتٍ تجعله مثل حكيم الزمان المتنبي، وشبيها بفيلسوف الشعراء أبي العلاء المعري، والزاهد أبي العتاهية، والوصّافِ ابن الرومي والبحتري؟
أم أن إبداعه يعود إلى شيء آخر، يمكننا أن نسميه عبقرية التحدي؟
نعم إنها عبقرية التحدي، ولا أقصد فقط بالتحدي، المعاني التي تتحدى المحتلين، وتتحدى الواقع المرير الذي يعيشه الفلسطينيون، عندما كان يقول:
“سجِّل أنا عربي …. أنا آكل لحم مغتصبي” أو يقول: “شُدُّوا وِثاقي وامنعوا عنى الدفاتر والسجائر، وضعوا التراب على فمي…سأقولها في غرفة التوقيف في الإسطبل، في الحمام، تحت السوط، في عنف الزلازل: مليونُ عُصفور على أغصانِ قلبي تخلق اللحن المُقاتل”
بل أقصد أيضا تحدي الفنون الشعرية المعتادة، والقوالب التقليدية للشعر العربي كله، وذلك بنحت قوالب شعرية جديدة، وابتكار رؤى شعرية مستحدثة، واستخدام الأساطير والأقوال والحكم، وسبك قالب شعريٍّ جديد.
فهو يقول مبتدعا صورة عُرْسٍ فلسطيني: “هذا هو العُرس الفلسطينيُ… لا يصلُ الحبيبُ إلى الحبيب.. إلا شهيدا أو شريدا”
ويقول مستوحيا أسطورة العنقاء: “في الناي الذي يسكننا نارٌ… وفي النار التي نوقدها عنقاءُ خضراءُ.. وفي مرثية العنقاء لم أعرف رمادي من غُبارك”
ويقول ناحتا معنىً جديدا من إغماد السيوف : “أغمدتُ رِيْحا بخاصرتي، كنتِ أنتِ الرياحَ، وكنتِ الجناح.. وقد كنتُ أستأجر الحلم.. وفي آخر الأرض أرجعني البحر”
ويقول مستوحيا تراثنا الشعري الأصيل مُعارضا بيتَ المتنبي:(على قدر أهل العزم تأتي العزائمُ… وتأتي على قدر الكرامِ المكارمُ) يقول: “على قدر خيلي يكونُ المساء، وكان التتار يدسون أسماءهم في سقوف القرى كالسنونو، وكانوا ينامون بين سنابلنا آمنين، ولا يحلمون بما سوف يحدثُ بعد الظهيرة، حين تعود السماء رويدا رويدا، إلى أهلها في المساء”
نعم إن لمحمود درويش عبقريةَ التحدي في النوعين السابقين، ففي تحديه الوطني الواضح جمالٌ فنيٌّ أدبي، تظهرُ في معظم قصائده عبقريةُ فيلسوفٍ مُجَرِبٍ، يمزج تحديه الإبداعي بسبائكه اللُغوية، ويُعْمِل ذائقتَه الأدبية في تخليق الحِكَم، وفي إعادة صياغة الموروث في الأوزان والقوالب.
إن عبقرية التحدي الدرويشية ترقى إلى مصاف عظمائنا الأولين من الشعراء والأدباء، هذه العظمة أدركها أدباءُ العالم ومفكروه، فترجموا قصائده إلى لغاتهم، وصاغوا النقد الأدبي في الجامعات الأجنبية والمعاهد، ليفككوا عبقرية درويش المختفية بين حروفه وجمله وأوزانه ومعانيه، لعلهم يظفرون بسر عبقريته الفذّة.
أما نحن، أهله، فقد انقسمنا قسمين، قسما يُسبِّح بحمد الشاعر بدون أن يُبلور صيغةً، تجعل من عبقريته مائدةً لأبنائنا، يقتاتون منها، ليُثروا ويُنيروا عقولهم، وقسما آخر أخذ على عاتقه مهمة تدمير آثار الشاعر، والتشكيك في نبوغه، فهو عند بعضهم كان يحمل جواز سفر إسرائيليا مرسوما عليه نجمة داود، وعند بعضهم الآخر عَلمانيٌّ لا تظهر على أشعاره سيماء الالتزام بالموروث التقليدي!
وهكذا سنظل نقف على رصيف المبدع محمود درويش، بدون أن نستوحيَ من إبداعاته الشعرية الهندسية رسما جديدا آخر، يحمل جينات الشاعر العبقرية، ويورث هذه الجينات لأجيالنا الواعدة.