عدنا إلى الجاهلية بكل شيء
د. ريم سليمان الخش | فرنسا
حدث قبل سنوات أن دعتني إحدى جامعات (أمتنا) للتعليم وجاء مدير الجامعة بذاته الكريمة إلى عمّان ليأخذني مع بقية الدكاترة هناك.. ولكن قنصليتها رفضت – بسبب تعليمات دولية – أذنَ السفر.. وذلك لأن فرعون العصر لا يريد ( للأمة المبتلاة) استقبال الكادر السوري ولا العراقي.
عندما تُحسب على أمة ما و تخذلك وأنت الجاد المجتهد الدؤوب ,لايكون منك إلا أن تُردد ماقاله الشنفرى من قبل: (أقيموا بني أمي صدور مطيكم …) وصدف أن شكوت لجامعتي في باريس ماتّم من عوائق فأسرعت بإرسال دعوة لتنقذَ خريجتها السابقة …ولا يسعني إلا أن أردد ماقاله المتنبي: (إذا أنت أكرمت الكريم ملكته) …
أنا مُدينة لفرنسا بالكثير الكثير ..مُدينة لها بحفظ ماء الوجه ..مدينة لها بكرامتي التي أبت لها أن تضيع… أنا مدينة لفرنسا باحتضان ابنتيّ سارا وسيدرا .. مدينة لها بانسانيتها الكبيرة حيث رأيت أيادي المسيح المطببة..نعم تلك الأيادي مازالت تحت عباءة العلمانية واللادينية وتتجلى بحرارة الإنسانية وبالإخاء والمحبة… مدينة لفرنسا بأنوار العلم وحدائق الثقافة وحرية الفكر واحترام الإنسان واللاعنصرية ..نعم اللاعنصرية !!…إذْ لم أجد عنصريا أكثر منّا!.. ولن أجد… نحن من عدنا إلى الجاهلية بكل شيء.
أبي رحمه الله الذي اتخذ عندما كان وزيرا للتعليم قرارا جبارا آنذاك قرار تأميم المدارس وفرض التعليم بلغتنا, كان يأمل أن نكون أقوياء بما يكفي ليستقيم العلم عربيا … كتبتُ وألفتُ الرياضيات بالعربية فياللجهد الضائع وياللخسارة إذْ من القارئ؟! ومن المتمحص؟! …لمَ كان علي ان اقضي السنوات بالكدّ والجد ّوالتأليف إنْ كانت النتيجة منعي من المحاضرة بما اجتهدت ؟! …
يالأمة جاء فيها كتاب عظيم تحدث عن الكون وعن مدارات النجوم وعن الفتق والتوسيع ولم يفطن أحد إلى الانفجار العظيم !!!!!
ياللنّظام ذلك العالم المتكلم الذي كان أول من تحدث عن طفرات الجسيم الدقيق ولم يأخذ عنه التابعون ليكملوا …
يالأمة اكتفت بالدرجة الأولى والثانية من الوعي وهجرت الدرجة الثالثة (وهي درجة الإبداع العلمي) باستثناء القلة من نجومها المهمشين المضيئين في عزلة لأن نورهم لا يعني لأصحاب القرار الا قلقا سياسيا مكروهاً…
عندما عُلِمَ آدم الأسماء كلها لم تكن الأسماء تقتصر على اللغة بل كانت تشمل كل المعادلات المنطقية الرياضية التي تتحكم بالكون فكل قانون طبيعي يُرمّز بحروف قليلة لكنه يضم في مضمونه الكم الهائل من الوعي الثلاثي المجرد .
لا تقوم اللغة ..أية لغة.. دون قوة المنطق والقدرة على التجريد والاشتقاق والاستنباط فإن ضعف العقل ذبلت اللغة وتداعت وأُنذرت بالتلاشي والزوال
لا يغرنكم أن لغتكم قد حُفِظت بقوة الكتاب المقدس فليس المغزى أن يُقرأ دون فهم بل المغزى أن تُدرك معانيه وأن تُحرّض على الجدّ والسبر والاستنباط …
كم أشفق على الأدباء والشعراء ظنّا منهم أن جميع ما كتبوا قد يساوي ثمن الاوراق والحبر …اللغة بذاتها لاتخلق أدبا !
لا بد للأدب كي يتشكل من فكر رصين وسبر عميق وفهم للذات البشرية ولقوانين الكون والحياة .
المتنبي ماكان متنبيا وما سماه المعري (هذا العبقري الفذّ) بمعجزة العصر إلا لامتلاكه الوعي الثلاثي الذي كان يؤهله كي يكون عالما كبيرا لو كان في عصرنا هذا …
إذْ مايبقى للأجيال هو ماتكتشفه أو تعيد اكتشافه من قوانين الطبيعة أو القوانين التي تسير وفقها الإنسانية بلغة أدبية أو علمية, فما يبقى في ذهن البشرية هو مايضيء الحقائق الثابتة في كون قد يظن للوهلة الأولى على أنه عشوائي وماهو بالعشوائي لكنه لم يزل يتشح بالغموض ويطلب منا الغوص والتمحيص..