فكر

العلاج بالشعر (2)

د. محمد سعيد حسب النبي|أكاديمي مصري
أثبتت الأبحاث الأكاديمية أن العلاج بالشعر فعال، ودليل ذلك أنه متداول في أمريكا وبعض الدول الأوروبية في مستشفيات الطب النفسي ومراكز التأهيل الصحي ومصحات كبار السن والمراكز الصحية التي تعالج الأمراض المستعصية.

       ووفقاً لما جاء في كتاب العلاج بالشعر، يتم علاج المريض نفسياً وعقلياً من خلال جلسات شعرية تُعقد في مركز العلاج، وفي غرفة حيث يجلس الحضور معاً، وتوزع عليهم ورقة بها ثلاث مقطوعات شعرية أو أربع‏، ويقوم الطبيب المعالج بقراءة القصيدة مرتين بصوت مرتفع‏ واضح، وبإلقاء بطيء، مُركزاً على مقاطع من القصيدة تكون محلاً للمناقشة. وفي هذا السياق يجب مراعاة أن يكون اختيار القصيدة سهل الفهم والاستيعاب، حتى لا يضطر الطبيب إلى إعادة صياغة القصيدة بأسلوبه مما يؤثر على فاعليتها وتأثيرها الشعري المأمول.‏ وبعد إلقاء الطبيب للمقاطع تبدأ المناقشات التي تكشف عن تطلع الحضور إلى المعرفة، واستجلاء المشاعر وردود الأفعال، وتبدأ أسئلة على نحو: كيف وجدت هذا المقطع من القصيدة؟ هل أحببت معانيه؟ هل أدركت الحالة النفسية لقائله؟ ما شعورك الآن؟ هل وافق شيئاً في نفسك؟

      مثل هذه الأسئلة تعطي الحاضرين فرصة لإزالة الثلج الذي يعلو سطح النفس بتأثير القصيدة، وفي بعض الأحيان يكون من المستحسن أن تشق السكون بتبادل النظرات ذات المعنى، مع إنسان تتوسم فيه أن القصيدة لها معنى بالنسبة إليه‏.

    مهمة الطبيب المعالج لا علاقة لها بتنمية القدرات العقلية أو إثراء المعجم اللغوي؛ فهو ليس معنياً بإعطاء دراسات منهجية في كيفية فهم الشعر‏، ولكن بإيقاظ الإحساس بالنزعة العاطفية والشعورية للقصيدة‏، على اعتبار أن لديه فكرة عن هذه النزعة أو تيارها الشعوري بالنسبة له‏.‏

   ومهمته أيضا مساعدة مرضاه على إعادة خلق القصيدة في ضوء مخزونه الخاص من التجارب والذكريات، بمعنى‏ ما الذي تعنيه القصيدة بالنسبة له؟ ولماذا تعني شيئاً آخر بالنسبة لغيره؟‏ وغيرها من الأسئلة التي تساعد في تشجيع الاتجاه المطلوب وتعزيزه‏.‏

وهنا يكمن الفارق الرئيس بين درس الأدب وجلسة العلاج الشعري، حيث يرتكز الهدف من هذه الجلساتعلى البحث عن المعنى الذي تعكسه القصيدة لدى كل واحد من الحاضرين المختلفين، وقد يختلف المعنى لدى الحضور جميعاً.

   ولقد عرض فاروق شوشه في مقال له نموذجاً من تلك القصائد التي دارت من حولها جلسات العلاج الشعري، لما تمنحه كلماتها من مفاتيح سحرية إلى هذا العالم الغريب الطريف، والقصيدة عنوانها‏:‏ الجوع والظمأ‏:‏

من بين كل الفواكه التي اقتطفتها
محاولاً أن أسكت جوع أحشائي
تظل الخوخة التي تركتها على الغصن
أشهاها جميعا وألذها‏!‏
وأعذب قبلة نلتها
هي تلك التي لم أحصل عليها بعد
وهكذا‏..‏
في حفل العيد الذي سأقيمه
قبل أن تغرب حياتي
سوف يكون الجوع أفخر الطعام
والظمأ أعذب الشراب‏!‏

     لقد أدى العلاج بالشعر في تجربة مركز العلاج الشعري في نيويورك إلى مساعدة المرضى على تحقيق التوازن والتوافق والتكيف بعد أن فشلت كل الوسائل الأخرى التي جربت‏.‏ إنه يساعدهم على أن تكون اضطراباتهم العاطفية أيسر في التحمل، كما أنه ينمي العمليات والقدرات المحققة للشفاء، ويأخذ بأيديهم إلى تبني فلسفة في الحياة تحل التكيف والتلاؤم والمرونة محل الحظوظ والأقدار السيئة‏.‏ فالشعر يساعد المرضى على أن يكتشفوا مشاعرهم، وأن يشعروا بعمق أكثر، وأن يوسعوا من مداهم العاطفي والنفسي لاكتشاف الأنماط والمسببات وصولاً إلى منطقة التحكم‏.

ويؤكد فاروق شوشة أن القصيدة أصغر مسافة عاطفية بين نقطتين، هاتان النقطتان تمثلان الشاعر والقاريء‏.‏ وهذا يفسر لنا لماذا يصبح الاتصال عن طريق الشعر جاهزاً وحاضراً، ولماذا يتحرك المرضى بصورة تلقائية، لكي يحققوا فكرتهم الخاصة عن القصائد‏.‏

يقول الشاعر‏:‏
تعال، واقرأ لي بعض الأشعار
الأشعار البسيطة التي تستقر في القلب
سوف تزيل هذا الشعور بالقلق
وتطرد أفكار النهار
اقرأ لشاعر متواضع
انبثقت أشعاره من سويداء قلبه
كما تهطل الأمطار من سحاب الصيف الممطر
أو تنهمر الدموع من المآقي
ثم اقرأ من المكنز الذهبي
القصيدة التي من اختيارك
وأعر موسيقى الشاعر
جمال صوتك وإلقائك‏!‏

    ليس ضرورياً أن يكون المستوى الشعري المستخدم في ممارسة العلاج الشعري رائعاً أو عظيماً‏، وإنما الضروري أن يكون مساعداً على تحقيق شفاء المريض. وربما كان اللقاء السعيد الذي يتحقق بفضل جلسات العلاج الشعري حول نص شعري ملائماً محققاً لمعجزة. يقول فاروق شوشة: إن الشاعر يقول لنا عادة في قصائده‏:‏ هذه هي أحزاني وأفراحي، آمالي ومخاوفي، وإنه ليسرني أن نتقاسمها معاً، وإذا ما أبصرت نفسك في مرآة فني، وأحسست بأنك أكثر راحة واطمئنانا وقوة؛ فاتبعني‏.‏

    ولعل نظرة إلى تراثنا العربي تنبئ عن أن الشعر العربي لم يكن بعيداً عن فكرة العلاج بالشعر‏، وإنما كان شعراؤنا منذ امريء القيس على وعي بالنظرية التي تكلم عنها أرسطو حين تحدث عن “التطهير” بالشعر ومايحدثه الشعر التراجيديالحزين والمأساوي، من أثر مريح في نفس المتلقي‏.‏

    فامرؤ القيس الذي يشار إليه دائماً بأنه أول من وقف واستوقف وبكى واستبكى هو أيضاً أول من أشار إلى فكرة الشفاء عن طريق البكاء أو الشفاء بالدموع‏.‏ هذا الشفاء هو عينه التطهر وما يحدثه من راحة في النفس وهي تواجه موقفا تراجيدياً مأساوياً حزيناً‏ حين تقف على الأطلال وتتذكر الأحباء الراحلين، والأيام التي تقضت برحيلهم والأماكن التي كادت تزول هيئتها وصورتها بزوالهم، والشعر الذي ارتبط بهذا المخزون من الذكرياتاستعادته تدفع بالدمع الحار إلى العيون، وإنشاده وترديده هما بداية الإحساس بالتطهر والشعور بما يعقبه من راحة‏.‏

يقول امرؤ القيس‏:‏
وإن شفائي عبرة مهراقة
فهل عند رسم دارس من معول؟

   فالإشارة الصريحة إلى فكرة الشفاء‏وإلى الدموع التي جاشت بالتذكر والحنين ولوعة الفقد، وترديد الأشعار المرتبطة بالمكان والزمان والمحبوب، كل ذلك من شأنه أن يضع أيدينا على بداية مبكرة لفكرة العلاج بالشعر في تراثنا الشعري‏.‏ هذه الفكرة التي ستصبح أكثر نضجاً واكتمالاً عند قيس بن الملوح مجنون ليلى الذي يصرح بمعنى العلاج أو التداوي بالشعرفي بيت قاطع الدلالة يقول فيه‏:‏
فما أُشرِفُ الأيفاع إلا صبابةً
ولا أنشد الأشعار إلا تداويا

وكأن قوله الشعر وسماعهدواء لنفسه الجريحة، وقلبه الموجوع بآلام العشق.

    ومن هنا يتضح أن الشعر وسيلة من وسائل الاستشفاء، فالشعراء حين يفضون ويبوحون بلواعجهم ويفرغون شجنهم يتخلصونمن تراكمات وأدواء أقلقتهم، وبعد النفث تسكن النفس ويستقر الخاطر ، ولكن يبقى لكلماتهم الوقع البالغ على المتلقي، وذلك حين تمس الجرح، وعندها يكون الشاعرقد نجح في كسب تعاطف المتلقي معه واجتذابه إلى عالمه الخاص واستثارته نفسياً عاطفياً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى