فكر

المثقف الطليعي بين الفكر والمنهج والسلوك

بقلم : عماد خالد رحمة|برلين

لم يتوقَّف دور المثقفين عن القيام بدورهم الكبير، بتحريك المجتمعات التي تعاني من الركود والسكون، فقد سعى المثقفون عبر سيرورة تاريخية طويلة لتحقيق دورهم الطليعي في التأكيد على ثوابت القيم الاخلاقية السامية، والأفكار والمفاهيم الإنسانية، كما أثبت التاريخ بما للا يدع مجالاً للشكّ في أنَّهم واكبوا التحوّلات السياسيّة والثقافية والاجتماعية العالمية، أو التبشير بها والدعوة لها. وهذا ما زاد الحياة العامة تقدماً وتطوراً. هذا الدور استمر بشكلٍ أكثر سرعةً وقوةً بعد انتشار وسائل الإعلام بكافة تفرعاتها، فكان العمل في الصميم على تأطير الوعي، والدفع به نحو معرفة وإدراك التحوّلات الفكرية والفلسفية والمعرفية الحافزة على التغيير، ومواجهتها لأشكال العطالة الكبيرة وأساليب اجترار الماضي التي باتت ممجوجة. لذا نجد أنفسنا أمام تحدٍ كبير يتمثَّل في إبداع وخلق نموذج فكري للتطوير والتحديث، ومواكبة التبدلات والتغيرات في جميع الأطر والمفاهيم الثقافية وأساليب وطرق التعامل معها آنياً ولحظياً.
إنَّ التطلَّع إلى المشاركة الحضارية الفاعلة في هذا العالم، لن تتحقق إلّا بخروج هذه الثقافة التي نملك من جمودها وتقوقعها وعزلتها الكثير، وأن يتم ذلك في سياق الوعي بحقيقة الحقبة التي تمرُّ بها منطقتنا، وهذا يتطلَّب التوقف قليلاً عند أشكال ونماذج التفاعل مع أشكال الثقافات العالمية الآخرى ومتغيراتها الفاعلة، بخاصة في المجالاتِ الفكريّة. ولا سيما العلمانية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وأن تكون على وعيِّ تام بالتجمعات وتكتلات المجتمع من مثقفين وقوى سياسية وأحزاب وما ينضوي عليهم من تيارات دينية وإثنية وقومية لهذه الأشكال والتبدلات والمتغيرات. إنَّ جملة الطرق والأساليب في المساهمة بشكلٍ عملي في بناء الحضارة التي قد تم طرقها،تدفع بالتخلّص من كل رواسب التاريخ الثقافي السابق، لكن الخلاص النهائي بقي مستعصياً على الحل، والدّاء ما زال متأصّلاً بسبب القواعد والثوابت التي تنطلق أفكارنا ومفاهيمنا ورؤانا من خلالها. وهذا ما جعلنا نضيع عن السبب المباشر المؤدي إلى واقع التخلّف الذي نحن فيه، والضياع في ازدواجيات وثنائيات لامتناهية من (أصالة ـ معاصرة)، و(تراث ـ حداثة)، و(الهوية ـ الآخر) إلخ. مبتعدين في ذلك عن إشكالية الإزدواجيات والثنائيات التي من شأنها تقييم ما يقع من تناقض بين (سلوك ـ فكر) وبين (ذاتي ـ موضوعي) لذا، فإنَّ الجهود المطلوبة للخروج من هذا الضياع، وذلك التيه،هو الجهد الذي تقوم به الذات على ذاتها، والخروج عن خط اليسر والسهولة في المجابهة في سبيل التعامل مع اللحظة والانتماء إليها بشكلٍ متطابق. فجميع النكسات والهزائم التي حلّت بنا في تاريخنا العربي الحديث منذ (وعد بلفور، ونكسة حزيرانعام 1967، وصولاً إلى الطغيان والاستبداد السياسي جميعها جاءت نتيجة عدم يقظتنا، وعدم الاكتراث بما يُخطَّط لبُلدانِنا العربية، حتى انفجرت كالبركان في حياتنا ثم تم الإقرار بالتعامل مع جميع تلك الهزائم والنكسات على ضوء النتائج، وليس على البحث في الأسباب. فقد كان من نتائج تلك الآلية في التفكير آليات أخرى لا تقل سوءاً عنها، كالسلفية المحكومة والمرتبطة بالماضي، أو الحداثيون كنموذج تقليدي لا تجديدي نقلاً عن الغرب دون دراسة مطابقته لواقع مجتمعاتنا وثقافتنا السائدة . وقد اتضح أنَّ هذا السلوك وهذا النهج بآلياته ووسائله التقليدية لم يتعدى إشكالية وضع العراقيل في وجه التقدم. بل جاء كتعبير صريح وواضح عن حالة البحث عن ملاذ بدلاً من الوقوف على جذور ونواة ذاك الموروث بكل حمولاته ومحاكاته عقلانياً. وهذا ما يحدِّد دور المثقف الكبير والهام في إنقاذ ما يمكن إنقاذه من حالة التهاوي والانهيار الثقافي الموجودة، وصولاً إلى تفادي ما سيتم دفعه من أثمان باهظة ضريبةً لثقافتنا السائدة. والتحوّل بتفاعلاتنا وتعاملاتنا مع القضايا والإشكالات المطروحة بمواقف أكثر جدّية عن طريق رفض التعامل بطريقة الأحكام البسيطة بدلاً من التعامي عن التاريخ والواقع المُعاش. وإنَّ ما تم ذكره هو الكفيل في مختلف المتغيرات والظروف العالمية بإيجاد طرق وأساليب وأفق أخرى لحل الإشكالية التي نبحث فيها. كون الثقافة أمانة في عنق أصحابها، ومسؤوليةً كبيرةً حمّلتها الجماهير للمثقف مقابل الامتياز الثقافي الذي يضفي على المثقف التقدير والاحترام، ولأنّ الجماهير تُدرك بحسِّها الفطري أنّ المثقف هو واحدٌ من تكوينها وبنيتها المجتمعية، واتته الفرصة والظروف المناسبة ليأخذ أكثر مما أخذت هي من حقوق بقيت مشاعاً ردحاً من الزمن تتساوى فيه حقوق الجميع، لذا فالجماهير لا تفتأ أبداً بمطالبة المثقف بالعطاء الخصب والغزير الذي يتناسب طرداً مع ما أخذه، ذلك الكثير .
في هذا السياق ومن ذلك المنظور نتساءل من هو المثقف الذي يمكنه الولوج إلى عمق تلك الإشكاليات، ووضع حلول وتوجيهات وإرشادات لحلّها، وهو بالتأكيد ليس ذو مهنةٍ تقليديةٍ بل هو الشخص الذي يكرِّس كل جهودِهِ ووقتِهِ لــ (مهنةِ الثقافةِ) وبهذا المدلول الواضح، فهو الإنسان الذي يعمل جاهداً ليؤثِّر حداثياً في مجرى الأمور ومسارها. وعندما نحاول الولوج في العمق، نعمل على إسقاط ذلك المعنى على طبقة المثقفين على اختلاف مستوياتهم الموجودة في ساحة الفعل في المجتمع،من هنا فإننا نجد تفاوتاً كبيراً بين الواقع وذاك المعنى. إنَّ التناقض والتفاوت الحاصل يأتي نتيجة غياب ركائز وآليات عمل ذلك المثقف وفي ذاته. والتي تتمحور حول آراء ومفاهيم سهلة وممتنعة في الوقت نفسه، كوضوح الهدف والشفافية والمصداقية وامتلاك آلياته وأدواته. إضافةً إلى إعفاء الذاتي من التحليل والنقض، إلى ما هنالك من حواجز ومعيقات ذاتية تؤدي إلى فشل أو شلل أو حتى العقم في الكثير من الأحيان في جميع ما يتم طرحه من مشاريع نهضوية حداثية. في هذا الإطار يأتي التركيز الشديد على الجانب الذاتي لحالة المثقف ووضعه لأنَّه أساس ديمومة واستمرار الفعل وجوهر انتاجيته ونجاحه، فإن لم يختلف الذاتي عند المثقف عما يدور في دائرة الثقافة الخارجية وهي الجانب الموضوعي، فإنَّ حالة التفاعل ستكون معدومة هنا. وهذا ما من شأنه إبطال وإلغاء فعل النهضة المنشودة وتفريغ المفاهيم الحداثية ومدلولاتها العميقة من أبعادها الاجتماعية، وهنا تنقلب تلك الآراء وتلك المفاهيم إلى مصيبة على المفاهيم نفسها، مما يؤدي إلى إبقاء حالة الجمود والركود والسكون بشكلٍ دائم.
الجدير بالذكر أنَّ ثمة مفاهيم لا يمكن تجاهلها أو إغفال أهميتها في إطلاق أي عملية جادّة تهدف إلى النهوض، أو على الأقل إلى إدخال أفكار حداثية إلى السلسة الوراثية الركودية والسكونية التي تتميز بها ثقافتنا الحالية السائدة. ومن بين تلك المفاهيم: (المواطنة، والديمقراطية ، وحقوق الإنسان، والمجتمع المدني إلخ).. والتي يمكنها أن تخلخل وتزعزع الركائز والقواعد المتخلفة للبنية الثقافية في مجتمعنا العربي إن لم نقل انتقالها إلى مستوى ثقافة العديد من المجتمعات المتطورة في العالم المتمدِّن. على ألّا تؤخذ تلك الآراء وتلك المفاهيم على أنّها تملك المزيد من الحلول التي تؤدي إلى الخروج من حالات التأخّر والتأزّم الذي نعيشه. فالديمقراطية ضمن هذا السياق تأتي كمصطلح ينضوي على المعاني الثقافية الحياتية المُعاشة. أي أنَّها ثقافة القبول بالآخر والاعتراف به، وبالتالي فهي عبارة لا تغني عن الممارسة العملية ولا تقتصر على معنى محدّد يهدف إلى التوجه إلى الانتخابات عبر صناديق الاقتراع .
في هذا الإطار يبدو أنَّ البعض يؤكِّد على أنَّ العلمانية تأتي كإبن شرعي للديمقراطية، وهذا يتنافى مع مفاهيم التطرف السياسي والديني وتتمحور حول الفكر وحريته المطلقة، وآليات ووسائل انتقاله. وبامتزاج هذين المفهومين سيكون احترام الإنسان وتأصيله في المجتمع العربي مكملاً ونتيجة في آنٍ معاً . عندما نقرّ بتلك المفاهيم الحداثية ونسلِّم بها كونها جاءت مصفوفةً فكريّة ومنظومة واحدة ممتزجة، فإنّ وجودها في مجتمعنا سيكون أيضاً من ذلك النسق النابعة منه وإليه، فإنَّ التفسيرات السهلة والشروح البسيطة التي تم تقديم تلك المفاهيم الصعبة والمعقّدة عليها لكي تنتج ثقافيا وتثمر بشكلٍ ناضج، عليها أن تتأصَّل أولاً في نفس المثقف وذاته. كونه يحمل عبء ومسؤولية نشر ثقافة تلك المفاهيم والآراء وتثبيتها في البنية الثقافية لتلك المجتمعات. هنا يصبح أمر القطيعة بين المثقف من جهة، والمفاهيم والآراء المتناقضة مع المفاهيم الحداثية من جهة آخرى أمر بديهي للغاية. على أننا سنقوم بتقييم تلك القطيعة من الناحية السلوكية، وليس من الناحية الفكرية. هذا السلوك الذي تأصّل في ذات المثقف بتلك المفاهيم وتلك الآراء من أجل امتلاكه القدرة على الشروع في تقديم مشاريعه النهضوية الحداثية .
إنَّ المثقَّف الحقيقي المائز الذي يملك وعياً نقدياً جريئاً وكبيراً في آن معاً، يستطيع من خلال سلوكه أن يتجاوز أيّ حالة تناقض في المجتمع والسلطة الحاكمة المستبدَّة من خلال رفض كل ما يتنافى ويتعارض مع الآراء والمفاهيم الحداثية التي تشكِّل جوهر عملية التغيير الاجتماعي، وجوهر المثقف ذاته. كونه يسعى إلى تقليص كل حالات التشوه أو بعضها حسب استطاعته، تلك التشةهات هي التي هيمنت على الثقافة السائدة وساحات اعتمالاتها وتفاعلاتها. فالمثقف الجاد المائز يبقى على يقين مستمر بأنَّ الثقافة بكل حمولاتها ليست شيئاً جامداً متكلِّساً. بل هي مفهوم يتغيَّر وينمو ويتطوَّر، وهذا ما يساعد المثقف على أن يكون أكثر حرّية ليتمكَّن من إنتاج الحرية من خلال المفاهيم الغنية بالأفكار الإيجابية، وليس بالأوهام والتخيلات. وهو بهذه الوضعية سيصبح قادراً على انتاج الحداثة وحمايتها. والتطلُّع إلى قضايا أخرى تفيد المجتمع تكون أرقى وأكثر حضارةً وتمدناً من المنتجات الثقافية التي سادت طويلاً والمتمثلة بالأيديولوجيات والعادات والتقاليد، وعلاقات ما قبل الدولة، وسلوكيات ممنهجة خارج السياق الإنساني. وهذا ما يدفع المثقف الجاد المائز إلى تبني كل من يدفع باتجاه تسليط سلاح النقد في وجه البديهيات والمسلمات المتخلفة في المجتمع. وهذا النقد الجريئ يقترن باستمرار بالفعل وبالسلوك العملي. فالنقد الجاد لا يسمية نقداً إلّا إذا حمل بداخله فكراً ناضجاً وهّاجاً نابعاً من عقلٍ نضِر. وإنَّ ما يقدّمه هذا النموذج من المثقفين هو بمثابة تعرية وفضح لما يقدّمه (المتثاقفون، والمتعالمون، والمتفيقهون) المبتعدون عن جوهر المهنة. كونهم يقومون بدور قذر جوهرة تبرئة الذاتي وتجريم الموضوعي. محاولين الحفاظ على مكاسبهم الشخصية والأنانية على حساب العامة .
في الختام يمكننا أن نقول كلمة حق وهي ليست جلداً للذات بقدر ما هي محاولة للدفع نحو الأفضل والأسمى، مدركين أن ما نعانيه فيه جزء كبير من صنيعنا، فانعدام الحريات في مجتمعاتنا العربية ليست بمؤامرة خارجية باستمرار، لكن بقاء السلطات الطاغية الاستبدادية القائمة على الاستحواذ على السلطة، وعلى انتهاج العنف المنظم المقونن في النظم والتشريعات والدستورالذي يسمح للقوى الأمنية ممارسة كل أشكال العنف والإرهاب، وتكميم الأفواه والقتل والسحل، كما أنَّ تلك السلطات الاستبدادية تعارض جميع القيم التي تؤكد على التعددية. لذا على المثقفين العرب الأحرار الذين يعملون خارج نطاق السلطات السياسية الاستبدادية أن يناضلوا ضد كل أشكال المراوغة والخداع التي تنتهجا تلك السلطات والعمل الجاد على تقويم سلوكنا وإنضاج منظومة تفكيرنا، وتحليل ذواتنا، والنهوض من جديد لبناء الإنسان والأرض، وإعادة حقنا في المشاركة الحضارية والإنسانية في العالم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى