فكر

الحضارة الإسلامية في العصر العباسي (1)

الجزء الأول: أسباب وعوامل النهوض

محمد أسامة | الولايات المتحدة

يُعتبر العصر العباسي هو العصر الذهبي للحضارة الإسلامية الذي بلغت فيه أقصى درجاتها من العلوم والابتكار، والتطوُّر والإزدهار، في شتَّى العلوم، وجميع أنواع المعارف، فكثر العلماء، وكثر طلاب العلم، ونشطت الترجمة، وازدهر التأليف، وشاع التدوين، وانتشرت الكُتب، وبُنيت المكتبات العامة والخاصة.
وقد انقسمت العلوم والمعارف في العصر العباسي إلى صنفين: العلوم الأصيلة: وهي العلوم النابعة من داخل المجتمع المسلم، وهي في معظمها العلوم الشرعية واللسانية. والعلوم الدَّخيلة: وهي التي اقتبسها المسلمون من الأمم المجاورة عن طريق النقل والترجمة، ومن أبرزها علوم المنطق والفلسفة وما أضافه العرب إلى علومهم في الفلك والطب والهندسة والجغرافيا.
وقد شيَّد أبو جعفر المنصور مدينة بغداد وأتمَّ بناءها عام 146ه/763م وكان طموحه ليس في مجرد أن تصبح بغداد عاصمته السياسية، بل كان يريد أن يجعلها حاضرة ثقافية، فجعلها آية العلم، ومنارة للفن، وعاصمة المعارف، وقبلة للعلماء وطلبة العلم، وموئلا للإزدهار العلمي، والتطور الفكري، فصارت لها من الناحية الثقافية منزلة عليا، ومكانة سامية.
وترجع أسباب النهصة العلمية في العصر العباسي إلى عدة أسباب: أولها: اهتمام الخلفاء بالعلم والمعرفة، حيث شجعوا الفكر، ودعموا الحركة الثقافية، فساندوا العلماء، وقربوا الأدباء، وأجزلوا لهم العطاء، وأجروا عليهم الرواتب، والحق أن رائد تلك النهضة كان الخليفة أبو جعفر المنصور ثاني خلفاء الدولة العباسية، والذي عرف عنه شغفه بالعلم، ودعمه لحركة الفكر، وسار من بعده أولاه وأحفاده على نهجه، وأخذوا بالمضي على سيرته، حتى بلغت تلك النهضة أوج مجدها في عهد حفيده هارون الرشيد، ثم في عهد ولده المأمون الذي تعمَّق في العلم تعمُّقًا، فأطلق الفكر، وسمح بالجدل، وشجع المناظرات الكلامية، وكان يقرِّب العلماء، ويجزل لهم العطاء.
ولم يكن ذلك قاصرا على الخلفاء فحسب، بل تبعهم في ذلك وزراؤهم ورجالهم، وكتَّابهم وأعلام حاشيتهم، والجدير بالذكر أن حتى مع اضطراب أحوال الخلافة السياسية، وكثرة الفتن والقلاقل الداخلية، استمرت الحركة الثقافية في أعلى درجاتها، وقمة نشاطها، بحيث لم تتأثر على الإطلاق بما حل ببغداد من ضعف سياسي مع أواسط القرن الثالث الهجري، واستمر الخلفاء على نهجهم في إكرام العلماء وصلتهم. بل حتى أن حكام الدويلات والإمارات المستقلة، رغم ما كان بينها من حروب ونزاع، وما اشتعل بنهما من خلاف وصراع، اهتم حكامها أيضا بالمعرفة والفنون كوجه للتنافس فيما بينها، فكان منهم من يدعو العلماء والأدباء ليملأ بهم بلاطه، ويزيِّن بهم حاشيته، ومنهم من كان لا يستوزر إلا كاتبا أو أديبا، فنشط العلم نشاطا واسعا غير متأثِّرٍ باضطراب الأحوال السياسية.
والسبب الثاني كان كثرة أماكن التعلم، حيث كثرت الأماكن التي كانت تُقدِّمُ العلم، ويفد عليها العلماء والطلبة، وتشهد ما تشهده من حلقات العلم، وما فيها من الدروس والمناظرات والجدل. وكان أوَّلها المساجد لاسيما جامع المنصور الذي شُيِّد مع بناء بغداد وجامع الرصافة الذي يُنسب إلى الخليفة المهدي في بغداد. وهو ما يشير إلى أن المساجد لم تكن دُورًا للعبادة والصلاة فقط، بل لعبت دورها في إثراء المعرفة وتدريس مختلف أنواع العلوم، وكذلك كانت منازل العلماء منارات للعلم والنَّقل والرواية وكذلك انتشرت مجالس العلم في الضواحي والطرقات والأسواق التي يلتقي فيها العامة والخاصة مثل سوق المربد من ضواحي البصرة وكانت مجالس الرشيد وكذلك ولده المأمون مليئة بالعلم والعُلماء وأصحاب المناظرات والجدل، وانتشرت الكتاتيب التي كانت تُعلِّم الناشئ مبادئ القراءة والكتابة والدِّين واللغة والتي هي بمنزلة المدارس اليوم.
والسبب الثالث هو الازدهار العلمي في هذا العصر وما كان من اختلاط الثقافة العربيةـ بالثقافات الأجنبية، سواء كان هذا الاختلاط اختلاطًا اجتماعيًّا ومباشرًا مثل ما حدث مع الفرس والسريان والقبط أو عن طريق الترجمة ونقل العلوم والمعارف كما حدث مع الإغريق واليونانيين، ومن المعروف أن الدولة الأموية كانت عربية العصب، بدوية الطبع، فلمَّا جاء العباسيون بسطوا يدهم للموالي من الفرس والترك والقبط والسريان، فامتزجت تلك الشعوب مع بعضها، وانصهرت في قالب واحد، ورغم ما رافق هذا الامتزاج من بعض المفاسد الاجتماعية مثل الشعوبية والمجون والزندقة، إلا أنه على جانب آخر كانت له آثار ثقافية وعلمية رائعة، حيث اطَّلع العرب على علوم ومعارف وثقافات هذه الأمم لاسيَّما الفرس، فاستفادوا وأضافوا من علمها إلى علمهم لاسيَّما في العلوم التطبيقية وتخطيط المدن والزراعة وضبط الدواوين.
وكان للحضارة الإغريقية والرومية أثر في الحضارة الإسلامية، صحيح أنهم لم يختلطوا بالعرب اختلاطًا كما حدث مع الفرس، ولكن اتصال وامتزاج الثقافات هنا تمَّ عن طريق النقل والترجمة إذ نقل العرب من تلك الحضارات علومًا ومعارفَ شتى.
أما السبب الرابع فكان نشاط حركة التدوين والترجمة، إذ اعتمد العرب من قبل على النقل الشفوي والرواية، ولم يكن هناك تدوين بشكل منتظم قبل العصر العباسي، وكان العرب يستعملون الورق الصيني أو القراطيس المصنوعة من البُردي، وكان قليلا نادرا حتى جاءت الدولة العباسية، وقام خالد بن برمك وزير الخليفة أبي العباس السفَّاح بتغيير لفائف الجلد إلى الكُتب ثم أنشأ حفيده الفضل بن يحيى البرمكي مصنعًا للورق في بغداد فشاعت الكتابة في بغداد وسائر البلاد الأسلامية واتَّخذ الناس من ذلك الصحف والكُتب بعدما اتَّفقت لهم وسائل التأليف والكتابة من الأقلام والأحبار والأوراق والقراطيس ونشط التدوين في سائر المعارف منذ هذا الحين وانتشرت الكُتب حتى امتلأت بها المكتبات والدور، وحفلت بما حفلت به من كنوز العلم والمعرفة. كما أكبَّ المسلمون على الترجمة، فنقلوا إلى العربية ما في الثقافات الأجنبية من معارف وعلوم.
ووصلت حركة الترجمة ذورتها في عصر هارون الرشيد حيث أولى بالترجمة عناية خاصة، وأبدى اهتماما بنقل علوم الروم واليونان، وكان يجزل العطاء للمترجمين. وكان للبرامكة وزراؤه دور كبير في العناية بالترجمة، وسار ولده المأمون على نهجه فخصَّص لعملهم مالا وفيرا، وبلغت الترجمة ذُروة نشاطها في عهده حتى أنه أرسل إلى ملك الروم يطلب نقل ما لديه من كتب ومعرفة، وسار على نهج الخلفاء عدد من وزرائهم ورجالهم وكتَّابهم.
وكان ممَّا نُقِل كتاب “كليلة ودمنة” للأديب عبد الله بن المقفع وكتاب السندهند في الفَلَك، وأرسططاليس في المنطق، وتُرجمت كتب سقراط وأفلاطون وأرسطو وأبقراط وأرخميدس وبطليموس، ونقل العرب والمسلمون علوم الفلسفة والطب والموسيقى والمنطق والفلك النجوم والسير والآداب والحكم والتاريخ والطب والأقاصيص والكيمياء ومن أشهر من عُرفوا بالترجمة في العصر العباسي: الطبيب الشهير يوحنا بن ماسويه وقسطا بن لوقا البعلبكي ويحيى بن البطريق وحنين بن إسحاق العبادي وأبناء موسى بن شاكر.
وكان من الطبيعي مع اتساع نطاق التدوين والترجمة أن تنتشر المكتباب العامة والخاصة لتكون العامل الخامس في ازدهار الحضارة الإسلامية، حيث احتاج الناس إلى عمل خزائن للكتب، وقام هارون الرشيد بانشاء بيت الحكمة أو دار الحكمة في بغداد، والتي أصبحت خزانة لنفائس الكتب وكنوز المعرفة، وضمَّت ما لا يُحصى منها، وكان لها دور واسع في انتشار العلم وتشجيع المعرفة، وواصلت ذروة نشاطها في عهد الخليفة المأمون الذي زاد عليها وأنشأ فيها قسمًا لترجمة العلوم والإشراف على البحث العلمي، وتعاقب عليها عددٌ كبير من العلماء والمؤلفين على مر العصور للعمل فيها حتى دمَّرها المغول أثناء اجتياحهم بغداد وألقوا كتبها في نهر دجلة، فكانت خسارة فادحة وضياعا لعلم كثير.
وبِخلاف بيت الحكمة نجد العديد من المكتبات العامة التي انتشرت في ربوع العالم الإسلامي مثل دار العلم التي أنشأها الحاكم بأمر الله الفاطمي في القاهرة بمصر ودار كتب عضد الدولة البويهي في شيراز، ودار علم سابور نسبة إلى مؤسسها سابور بن أزدشير، فضلا عن ظهور ما عُرف بالمكتبات الخاصة حيث اهتم بعض الوزراء والعلماء بجمع واقتناء الكتب ومن بينها مكتبة إسحاق بن سليمان العباسي، ومكتبة يحيى بن خالد البرمكي وزير الرشيد، ومكتبة الواقدي المؤرخ المشهور، ومكتبة علي بن يحيى المنجِّم ومكتبة جعفر بن محمد بن حمدان الموصلي، ومكتبة الفتح بن خاقان، وظهرت في ذلك الإطار وظيفة الوِرَاقة، حيث احترف تلك المهنة عدد كبير كان اهتمامهم في نقل الكتب ونسخها، وكانوا يعرفون بالورَّاقين، فأُتيح لأولئك الإطلاع على العلوم والمعارف لكثرة ما كان يقومون به من النَّقل والنسخ. فصار العصر العباسي بحق هو العصر الذهبي للحضارة الإسلامية.

يتبع……

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى