هل صُفيت قضية فلسطين بموت عرفات؟

 

زهير الخويلدي | كاتب فلسفي – تونس

“ليس الموت هو الذي يفتتح المستقبل الأصيل بل المستقبل الأصيل هو الذي يجعل الموت أمرا مفهوما” أرنست بلوخ مبدأ الأمل.
الموت هو حدث يعصف جذريا بقدرة الإنسان على توجيه وجوده والإنسان يصبح أمام الموت كائنا ضعيفا ومخلوقا معزولا دون أسلحة وعقبة الموت تصبح غير قابلة للاجتياز وحدث غير مفهوم وغير قابل للعلاج والإنسان المعاصر مستمر في وجوده ومهتم بضمان وسائل حياته وتوفير شروط بقائه ما لم يفسد عليه الموت ويسقطه في العدم. من هذا المنطلق يصيب الموت الأفراد مثلما تصيب الشيخوخة الدول والثقافات رغم أن الكائنات تفنى والإنسان فقط هو الذي يموت ومعنى ذلك أن الحي يهرم وأن الهرم حركة طبيعية تذهب من الولادة إلى الفساد من أجل إثراء الأرض والعودة إلى دورة الحياة.وإذا كان بعض الزعماء يخافون من الموت ويخفون أيام مرضهم وأزماتهم الصحية عن شعوبهم ويؤمنون بالرئاسة مدى الحياة والجلوس السرمدي على الكراسي والعروش والتوريث فان الموت لا يهابهم ويأتيهم على حين غرة ليضع حد لوجودهم في العالم وليثبت لهم أنهم أحياء من أجل الموت وأن الاهتمام بحدث النهاية غير مفصول عن الاهتمام بأخذ الوجود على العاتق.
الحقيقة القطعية أن الرؤساء والزعماء يموتون في النهاية رغم تشبثهم بحلم البقاء ورغم مطاردتهم أسطورة الخلود تشبها بملحمة جلجامش والحق أيضا أن الشعوب تهتف لهم بالحياة في الظاهر وتتمنى رحيلهم ومحاسبتهم في الباطن وأن القلة منهم فقط يؤسف على ترجلهم عن فرسهم وانخلاعهم عن عروشهم والزعيم الفلسطيني ياسر عرفات ربما يكون واحد من هؤلاء القلة الذين تمنى الجميع استمرارهم في الحياة لا لكون الموت جاءه على حين غفلة وفي لحظة غير مناسبة وفي وقت مازال شعبه متعلق به وقضيته تحتاجه فحسب بل لكون من يريد رحيله هو الذي استقدم له الفناء وبرمج له الإزاحة وجعله يتجرع سم النهاية بشكل فظيع وبطريقة غير إنسانية.
لكن لو عاد بنا الزمان إلى الوراء خاصة في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات من القرن الماضي وبعد إعلان الدولة الفلسطينية في نزل الصنوبر بالجزائر والتخلي عن شعار فلسطين من النهر إلى البحر والدخول في مفاوضات سلام من أجل الفوز بسلطة على ما تبقى من بعض الأرض بعد ابتلاع الاستيطان للوطن أثناء حرب67 وكان التعاطف مع فتح آنذاك تهمة والاتصاف بلقب عرافاتي يرمز إلى الانبطاح والاستسلام والخيانة وكان الأصح هو مساندة المنظمات الفلسطينية الراديكالية غير المساهمة في الحوار والتفاوض مع الكيان الغاصب وخاصة الحركات اليسارية والقومية والوطنية،لكن مع صعود أسهم التيار الإسلامي السياسي وخصوصا ظهور حركتي الجهاد وحماس وأخذها مشعل قيادة المشروع التحرري الفلسطيني وتفجر الانتفاضة الثانية المباركة وبروز زعمات جديدة مثل الشيخ ياسين والرنتيسي وصلاح شحاتة والشقاقي ورمضان شلح لم يضعف من الحضور الكارزماتي لأبو عمار بل زاد إشعاعه عندما رفض المشروع الاستيطاني الصهيوني وتمسك بحق العودة لفلسطيني المهجر والشتات وأصر على ألا تسقط القدس كعاصمة لدولة فلسطين من المفاوضات وطالب بتدخل أممي لحماية الشعب الفلسطيني من جميع الانتهاكات والتحرشات وأحرج سلطة الاحتلال الإسرائيلي في المحافل الدولية لما يلقاه من مساندة شبه مطلقة من جميع الدول والأنظمة الرسمية ومن كل الهيئات والمنظمات غير الحكومية فصار رمزا لحركات للتحرر الوطني في العالم وصار العلم الفلسطيني يرمز إلى مناهضة العولمة والاحتلال ومن أجل ذلك زاد عدد الداعين له بالمزيد من الحياة وطول العمر ولكن أعداءه التقليديون في الداخل من الخط الانتهازي غير الوطني من تجار الحقائب ومبيضي الأموال أصحاب القلوب الضعيفة وأعدائه في الخارج من رجال المخابرات الأجنبية وبعض الزعماء الذين لا يطيقون وجوده كان لهم ر أي آخر وسارعوا بالتعجيل بموته للتخلص منه وتصفية القضية الفلسطينية التي تلبست به وتلبس بها ولذلك شجعوا التيار الانقلابي داخل فتح ووقعت محاصرته في مقر المقاطعة في راما لله وقطعوا عنها المدد والمال ومنعوا عنه مقابلة الرجال والشخصيات المهمة وقد عاش الرجل وضعية صعبة ومحرجة عانق فيها قمة الصبر والمجاهدة وفضل الموت والتمسك بالمبدأ على عقد الصفقة والتنازل على الثوابت وأثناء الحصار كسب أبو عامر شعبية كبيرة غفرت له حسب رأي البعض الهفوات التي اقترفها أثناء مسيرته النضالية فوقع تسميمه وبدأت علامات الإعياء تظهر عليه واستفحل المرض ورفضت سلطة العدو وبعض الجهات الغربية تمكينه من بعض الحقنات المضادة ورحل إلى فرنسا في الهزيع الأخير من عمره.
إن رحيل عرفات ترك الكثير من الحسرة واللوعة في قلوب جميع محبيه ومناصري القضية الفلسطينية في العالم وساد تخوف بأن فلسطين خسرت فارس من أهم رجالها وأن القضية يمكن أن تصفى وتقبر باستشهاد رمزها التاريخي وما عزز هذا الموقف هو حالة الفوضى والانفلات السائدة في الساحة السياسية الفلسطينية ودخول جميع الرفاق والأخوة في صراع محموم من أجل الريادة والزعامة وتكالب كل الفصائل على السلطة والانتهاء إلى حالة من الانقسام والصراع الدموي وكأن العلامات الأولى توحي بأن فلسطين ضاعت وأن ما ناضل من أجله عرفات ورفاقه وقع التفويت فيه بجرة قلم وفي برهة من الزمن.
لا ينبغي أن ننسى أن فلسطين قدمت العديد من الشهداء وزفت خيرة شبابها وكوادرها في جميع المجالات ورغم ذلك فان عطاءها لم ينقطع وأرضها ما تزال تنجب،العطاء امتد من الشعر والقصة إلى الفكر والعلم مرورا بالاقتصاد والسياسة وشهرة رجالها عانقت الكونية من معين بسيسو وغسان كنفاني إلى ادوارد سعيد وهشام شرابي مرورا بناجي العلي ومحمد الدرة والقافلة طويلة وكلهم عيبهم الموت في لحظة عابرة وسرقهم منا. فلسطين لم تمت بموت عرفات على الرغم من غياب زعامة كاريزماتية فاعلة تحظي بالإجماع الأهلي والدولي وعلى الرغم من حالة الحصار التي تعاني منها عزة وحماس وحالة التشرذم التي تبدو عليها فتح وانعدام الأمن التي تعاني منها الضفة الغربية ولكن من المؤسف أن شخصية أبي عمار المرحة والمحببة للنفوس رمز الكفاح الفلسطيني والعقل المدبر لرحلة التحرر الوطني من نير الزحف الاستيطاني قد تحول بين عشية وضحاها إلى صورة كاريكاتورية ينبغي أن تحفظ في أرشيف بعض الجرائد وأن تعرض سيرته في بعض المتاحف ومن المؤلم كذلك أن نعود ثانيا إلى التحليل باستخدام نظرية المؤامرة المطلقة بعد أن تخلينا عليها وأقسمنا بأغلظ الأيمان بأنها نظرية بالية ولكن واقع الأمور ترجم عكس ذلك إذ ازداد مسلسل التصفيات والتنازلات وأغلقت الأبواب العربية أمام اللاجئين الفلسطينيين ليجدون في البرازيل خير ملاذ وارتفع إيقاع الهرولة نحو التطبيع والانبطاح وخسر المشروع النهضوي العربي العديد من النقاط لصالح أعدائه. وثمة دلائل قاطعة على تربص اللوبي الصهيوني بكل من يتناقض مع مشروعهم ولعل التحريض الذي تشنه القيادات الإسرائيلية على بعض الدول والمنظمات والشخصيات مثل سوريا وإيران ولبنان والسودان وحماس وحزب الله والبرادعي واعتبارها المقاومة إرهابا والعروبة شوفينية والإسلام يعني الظلام ومطالبتها بإشعال حرب عالمية ثالثة من أجل القضاء على ما تبقى من مشروع الممانعة يندرج في هذا السياق. بيد أن الأمل مازال قائما ومن الموت تولد حياة جديدة والإنسان ينبغي أن يتعود على الحياة بغض النظر عن إمكانية حتفه ومضي المقاومة في غزة والضفة في مشروعها على الرغم من الأخطاء والنزاعات والانقسامات ونجاح حزب الله في تنظيم أكبر مناورات عسكرية منذ انبعاثه وتمسك بعض الشخصيات الفتحاوية بخيار الحوار والتنسيق مع حماس مثل جبريل الرجوب وفاروق القدومي كلها أمارات على وجود بارقة أمل لأن “الإنسان مدعو على طول وجوده إلى وضع إمكانياته في العالم الذي قذف فيه قيد التنفيذ” ورحلة الإنسان العربي الفلسطيني لست من أجل استعادة أرضا أفتكت عنوة بل هي من أجل تحرير قيمة الإنسانية من أسر النزعات الهمجية لذلك تظل كوفية عرفات منارة تضيء لنا طريق الحرية ويظل غصن الزيتون الذي رفعه في المنتظم الأممي دليل تحضر هذه الأمة وعزمها الصادق على تحقيق السلام العادل مع بقية الشعوب في العالم. صحيح أن القضية الفلسطينية الآن هي في مفترق طرق وأن بوصلة القيادة قد فقدت وأن الصراع على السلطة والتمثيل بلغ أروقة الأمم المتحدة أين اعتبر ممثل الحكومة حماس ميليشيا تنشط خارج القانون ولكن الأمل يظل قائما والمشروع الوطني التحرري ماضي قدما خصوصا أمام فشل المشروع الأمريكي في العراق وفشل التوسع الصهيوني في لبنان وغزة والضفة. ومن هنا فان غياب عرفات ترك فراغ رمزي في دفة القيادة وقلل من الوزن الاستراتيجي للحقوق الفلسطينية ولكنه لم يشطب هذه الحقوق ولم يؤدي إلى إلغاء القضية الفلسطينية.
من هذا المنطلق يمكن أن نقول أن أبا عمار حي يرزق في قلوب من يناصر قضيته وأن الموت لا يغيب إلا الذين حرضوا على الكراهية والبغضاء وفرقوا بين الإنسانية الواحدة وهددوا الحياة على الأرض أما من حرص على الإصلاح والفلاح ونادي بالمؤاخاة بين الناس فهو من طينة الإنسان الكامل الذي لا يلفه النسيان ولا يطمر في العدم لا لشيء إلا كون سعيه هو الذي جعل منه إنسانا كاملا. عرفات استشهد ولم يركع وقاوم ولم يستسلم وفاوض ولم يوقع ولا ينبغي أن يسقط خلفه غصن الزيتون بل يجب أن يغرسه في تراب فلسطين لأن هذه أرضه وهذه هويته ووطنه والوطن ليس معدا للتحويل والاستبدال، فما قيمة وطن دون دولة وما قيمة سلام دون أرض؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى