نقدُ النَّقدِ

الشيخ طاهر العلواني | مصر

كتب الأديب البارع، والناقد المتمكن، والشاعر ذو المعاني الواضحة القريبة إلى الأفهام البعيدة عن أن تقع في القرائح محمد بركات- أطال الله بقاءه، ووالى عليه نعماءه، وأدام كريمَ عهده، وزاد صميم ودّه، وشاد عظيمَ مجده – ما يغمر الصدر، ويبهر الفكر في بيت المتنبي:

وما انتفاع أخي الدنيا بناظره**إذا استوت عنده الأنوار والظلم.

ودفع عن صاحبه معرّة جمع الأنوار بحجج العارفِ بأغراض المتنبي ومقاصده، العالم بمصادره وموارده. ثم تلاه الدكتور عزمي عبد البديع، فكتب ما فيه جلاء الأفهام، فكان كلامه كلامَ العارف بما في ذلك الواقف على ما هنالك، حتى التهب الإبريز من إغراب التطريز، فخشيت أن يفوتهما أمر البيت، من المحاماة للرجل، وامتطاء الكلفة في إزالة العيب عنه؛ ففي البواطن ما تخفيه الظواهر، وما يدفع من الأوائل إلى المعاني الأواخر.

فأول الأمر أن القرءان كلام شأنه في معناه شأن كلام العرب، فليس في مخترعاته إلا معان شرعية، فلا يقال: هذا انفرد به القرءان. فالنور واحد إذا ذهبت به مذهب الاستعارة، وهذا البيت في الأصل مأخوذ من قول معقل العجلي:

إذا لم أميّز بين نور وظلمة**بعينيّ، فالعينان زور وباطل.

وما يدل على أنه أراد نفسه لا القصائد قولُه قبل هذا البيت:

أعيذها نظرات منك صادقة**أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم.

أي أنا الشحم وسائر الشعراء ورم، فما انتفاع أخي الدنيا بناظره إذا استويت أنا وهؤلاء عنده؟ فهو حقيق بأن يقول: إذا استوى عنده النور والظلم.

ثم إن في البيت شنعة أخرى تنعي بالبيت وصاحبه، هي أن في قوله هذا تعريضا بالممدوح، يقول له: إذا لم تميز بيني وبين هؤلاء فأنت كالأعمى؛ لأنه في جميع ذلك يخاطب سيف الدولة، فهو أيضا مأخوذ من قول محمد بن أبي مرة المكي:

إذا المرء لم يدرك بعينيه ما يرى**فما الفرق بين العُمي والبُصراء؟!

وهذا الذي ذكره شراح ديوانه؛ كشيخ المعرّة والواحدي وغيرهما. أعني أنه يخاطب سيف الدولة لا كل سامع شعرَه.

ولقائل أن يقول: إنه أراد أن ينفث شيئا كان في صدره عليه؛ لما ظلمه ونصر غيره عليه، كما قال الأستاذ محمود شاكر في كلمة (شيء) من قوله أيضا:

لو الفلك الدوار أبغضتَ سعيه**لعوّقه شيء عن الدوران.

والجواب: أن من الكلام ما لا يدرك معناه إلا الخاصة، أما هذا البيت فصريح في التعريض بالرجل، ولو أنه قال: إذا لم تميّز بيني وبينهم فأنت أعمى، لم يكن ثم فرق، بخلاف كلمة (شيء)؛ فإنها مما خفي معناه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى