ذرّة في رحِم العاصفة

نهى الطرانيسي | القاهرة

على الرصيف المحاذي للطريق العام الذي اكتظ بالسائرين أكثر من مرور المركبات، جلست متكورًا في محاولة جاهدة لبث الدفء الفقير داخلي لكن هيهات … فالجو مليء برياح غاضبة تحمل كل ما خف وزنه وتطاير في حلقات لا تعلم مصيرها، أخذتُ أتأملها وأنا ضمن الذرات الطوافة بها.

طال انتظاري، لا أحد يعيرني انتباهًا، فالجميع ذاهبين كانوا أم آيبين ينجون بأنفاسهم الباردة، وما كسبت منهم سوى نظرات عطف خاطفة لطفل يلتمس القليل ليكفي رمق جوفه وتعود الحياة لأضلاعه … لكن تعود كف يدي فارغة والأخرى تحمل بضائع مهملة لم تنقص منها شيئا.

علمت بفراغ حظي اليوم فانزويت إلى أحد الشوارع الضيقة وأخذت أنفث في كفي ثم بسطتها، فصار الجلد المبطن لأناملي مشدودا منكمشا، ولا تزال آثار قبضتي عليها بخطوط زرقاء شاحبة …فازداد تأملي … برزت وجوها بعيون وفم من الأصابع ورُسم لكل واحد منها ملامح تختلف عن الآخر.

فإصبع الإشارة ينظر إلي بحزن وقد رسمت أحد الجروح القديمة دموعا .. فالجوع يخنق معدته ولا يقوى على التفوه ،وألم السوط والعقاب أخاف اللسان أن ينطق بدلا من أن يشبع غريزته بالمرور فوق طبق أرز ساخن طيب الرائحة.

والآخران يتكئ كل منهما على الآخر لاتقاء البرد، وكلاهما اتخذ وضع الحنق، كيف بجمالنا وحيويتنا وصغرنا أن نُرمى تحت عجلات الظلم ونعمل ونحمل الأوساخ والبضائع المهملة ونُجرح ثم ندمى لنعود للكرة ثانية، ومازلنا غضين … نحب حمل الحلوى والزهور والألعاب ناعمة الملمس وتحسسها. وحين نسري على وجهك بالماء يشمئز منا لخشونتنا، متى نتخلص من هذا الشقاء؟! وهل له نهاية أم هو خط يسري على هذا الكف وقد جُبلنا على السير عليه؟!

أما الإبهام والإصبع الضئيل المقابل له فقد ساد الصمت والحياد والاستسلام على وجوههما، فغابت وجوههما المرئية، وثنوا أنفسهما وعادا إلى ما كانا عليه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى