الميثولوجيا.. أنساقٌ فكرية في الشعر
د. موج يوسف| ناقدة وأكاديمية من العراق
جاء توظيف التراث في الشعر الحديث وتحديداً عن شعراء التيار اليساري بمثابة الثورة على المؤسسات القمعية التي عملت على اقصاء المثقفين وأصحاب الأقلام الحرة وتكميم أفواههم؛
كونها تعلم خطورة الكلمة الحرة والقيمة الشعرية عند المتلقي ولاسيما نحن العرب أمة شاعرة. وكانت الميثولوجيا عند الشعراء أشبه بالمتنفس الذي يلجأ إليه المبدع ضد الأنظمة التي احكمت اطواقها عليه فأصبح عن طريقها يطرح رؤاه وأفكاره يخفيها النسق المضمر، وقد رأى أكثر النقاد العرب أن توظيف الأسطورة والتراث يعدّ مرجعية ثقافية تبين التراكم الثقافي عند الشاعر وخاصة شعراء الستينيات إذ شكلت الميثولوجياعندهم ظاهرة فنية وثقافية التفت إليها أكثر الباحثين في النقد الأدبي دون أن ينظروا إلى جوهرها الفكري لما فيها من استشراف لما سيكون عليه المستقبل ولا سيما الشاعر المتمرد والثائر حيث ارتبطت توظيفاته الاسطورية بايديولوجيته التي اخفاها في انساق فكرية مضمرة وأعلن الصورة الفنية عبر استعمال التراث والاساطير القديمة ممّا جعل النقاد يرون أن الشاعر قد أحيا التراث القديم والعودة إليه، وأنا لا اتفق مع هذا الرأي لأن التمسك بالتراث ليس العودة إلى القديم لأنه صفة للقدامة ولا تعني بالضرورة التناقض مع الحديث بل إنها مجرد وصف، فالحداثة هي سمة فرق لا سمة في القيمة، وهذا ما اوقع أكثر الباحثين في أشكال بفهم الحداثة العربية التي انطلقت من العودة إلى المعلوم عكس الحداثة الغربية التي تخوض في مغامرة في المجهول واحدثت انفجارا معرفيا هُمّشت فيه الرؤية الدينية بينما الحداثة العربية هامش صغير في متن قد سيطرت عليه الرؤية، لكن استطاع شعراء مرحلة الستينيات من توظيفهم للأسطورة توظيفاً يتلاءم مع صيرورة الحداثة بسبب تأثير المرحلة الملتهبة والفكر التنويري الذي تحرر من الدين وقد انبرى لهذه المهمة الثورية في الشعر شعراء اليسار في محاولة لإعلان الرفض والتمرد على الأنظمة القمعية فمنهم من كانت له المباشرة في الخطاب ومنهم من حمل شعره رؤيا ميتافزيقية وانساقاً مضمرة كشفها النقد الثقافي حين اغفل عنها النقد الأدبي، وهذا يعني أن النص منتج للمعنى ويحمل ديمومة متجددة ويقودنا إلى تأويل كثير. وعند بحثنا عن الميثولوجيا في الشعر وجدنا اكثر من استعملها السياب والبياتي وصلاح عبدالصبور وادونيس وأمل دنقل وسنسلط الضوء عليها عند الاخير الذي عرف بأمير الرفض الذي طالما ارعب السلطات السياسية المصرية، واثار جدل الباحثين والنقاد فبالرغم من الدراسات الكثيرة في شعره اذ نظروا إليه على أنه ظاهرة فنية وثقافية وتاريخية ولم يسلطوا الضوء على الفكرة التي حارب الشاعر من أجلها وقد بينها النقد الثقافي حين كشف المستور بغطاء الجمال والصورة. ونستطيع أن ندخل الميثولوجيا ضمن التأويل الما بعد الحداثي ورصد النسق الفكري لها في قصيدته (اخناتون فوق الكرنك).. الشاعر لجأ إلى الاسطورة القديمة وهي (آمون واخناتون) والصراع الذي حدث بينهما فالأول رب الارباب في الديانة القديمة وسيد معبد الكرنك اذ انتشرت عبادته في مصر كلها حتى أصبح يعدّ نفسه الإله العظيم والذي فرض طغيانه على الشعب بينما الآخر (اخناتون) هو ابنحوتب الرابع صاحب الثورة والانقلاب الديني والاصلاح الاجتماعي ضد آمون لكنه مات ومحيت اخباره من سجلات الملوك، وبمعنى ادق كان آمون ممثلاً عن المؤسسة السياسية والدينية اذ استعمل الأخيرة لتقوية سلطته المركزية لأنها تعد أفيون الشعب كما في مقولة ماركس المشهورة، لكنّ الذي يهمنا في النص أن الشاعر قد وظف تلك الاسطورة بعد أن ضيقت عليه السلطة القومية وعلى المثقفين اليساريين الذين ثاروا ضد المؤسسات الحاكمة اذ جعل اخناتون رمزاً للمصلح والثائر ضد الدين والسياسة ولاسيما بعد أن خاب ظنهم بمشروع الوحدة القومية بقيادة جمال عبد الناصر حين قامت سلطته بإقصاء اليساريين والشيوعيين فانفجرت رؤاه الاستشرافية بزوال تلك الانظمة (فلسوف تكل إيادٍ حجبت قرص الشمس.. الى نهاية النص) اذ تعد لفظة سوف دالة على المستقبل البعيد وقرص الشمس هو دلالة رمزية للشيوعيين (الشمس في الاعلام) واخناتون الثوري. وهذا يعني أن الشاعر يرى عودة الحرية والثورة على الانظمة القمعية وزوالها، وهذا ما حدث في ثورات الربيع العربي التي رفضت الانظمة الشمولية والاسلام السياسي وفي مصر حين تم اسقاط حسني مبارك الذي يعد مكملاً لسلسلة انور السادات وجمال عبد الناصر. بينما نراه يوظف اسطورة اخرى كانت من المرويات الشعبية القديمة في مصر وهي ( اوزوروس) الذي قتله شقيقه (سباب) إله الخير والشر عند دعوته إلى العشاء في قصيدته ( العشاء الاخير).. الشاعر يشير إلى حادثة صلب اليسوع في العشاء الاخير مع تلاميذه وحديثه معهم في المقطع الاخير اذ اعاد الشاعر الاسطورة إلى اصلها القديم في الديانة المصرية، وكانت رؤيته لهذه الاسطورة نابعة من نسق فكري يعود إلى نظرية البطل المأساوي الذي يعد فعله فعلاً ثورياً لأجل تغيير القديم إلى حديث يغير النظام المؤسساتي، فالشاعر جرد الاسطورة من الدين لأن صلب اليسوع كان لأجل اغراض سياسية ولا سيما الطبقة الحاكمة من اليهود التي كانت تخشى التمرد والعصيان الذي يحطم كامل عنفوان السلطة الرومانية وتأويل صلب اليسوع يعدّ جريمة قتل سياسية. فالأسطورة في النص ونسقها الذي يعود كما اسفلنا الى نظرية البطل المأسوي حاول امل دنقل أن يؤسس لفكر تنويري يبعد فيه السلطة الدينية عن شؤون الدولة وهذا لا يأتي الا عبر التضحية الذاتية الراديكالية فكل ثائر هو يسوع آخر. ويمكن القول إن الاساطير والميثولوجيا في الشعر العربي كانت تحمل انساقاً فكرية ولا سيما عند الشاعر اليساري؛ لأن قمع السلطات جعله يلجأ إلى هذه الاساطير والتحدث بمونولج داخلي في داخل الاسطورة وهذا ما كشفته الانساق الثقافية ومنه يدخلنا في عمق الهوية التي اسسها الشاعر عبر ذلك الموروث الحضاري.