دليلة واستير.. جواسيس أسفار العهد القديم

د. محمد السيد السّكي

استشاري تحاليل طبية وكاتب وروائي مصري

سيظل الجاسوس خائناً وبطلاً شأنه شأن المتحاربين مادام الصراع بين الشعوب قائماً، ولقد تجلى هذا المفهوم في قصتين لاثنتين من الجاسوسات اللاتي كانتا لهما حكاية مسطورة لازمت التاريخ اليهودي بل وإن دورهما في الجاسوسية وقصتهما كتبتا في أسفار التوراة “العهد القديم” ..
لقد خرج بنو إسرائيل من مصر برفقة نبي الله موسى – عليه السلام – ورفضوا أن يقاتلوا الكنعانين ويدخلوا أرض فلسطين فتاهوا أربعين سنة، ثم استنهضهم – فتى موسى ووصيه – نبي الله يوشع بن نون للقتال وتم فتح أريحا وبعد موت يوشع تجبّر بنو إسرائيل وظلموا أنفسهم وعبدوا الأصنام وخالفوا أوامر الله ليعيشوا فترة زمنية تسمى عصر القضاة والتي دامت حوالي ثلاثة قرون.
وأثناء تلك الفترة تعاقب على بني إسرائيل قيادات منهم يسموا القضاة وهم من عشائرهم كما أن تلك الفترة شهدت مذلة وانكسار لليهود وغلبتهم من العماليق وغيرهم حتى ولد في بني إسرائيل رجل قوي ذو بأس شديد يسمى “شمسون”..
ولقد تحدث سفر القضاة – أحد أسفار التوراة – عن شمسون وزواجه من إحدى الفلسطينيات ثم نفوره منها لأنها كانت تفشي أسراره وتخبر أهلها بها.
وتحدثنا إصحاحات السفر عن تزويج والد زوجة شمسون ابنته لأحد أصدقائه مما جعل شمسون يستشيط غضباً ويعلن العداوة ضد الفلسطينين ويقتل منهم الكثير في مسيرة دامت حوالي عشرين سنة.
ولقد لجأ الفلسطينيون لامرأة تسمى” دليلة” وهي بارعة الجمال والتي عشقها شمسون واحتالت عليه لتعرف سبب قوته وما إن أخبرها بعد محاولات يائسة منها فإنها أخبرت أهلها بسر قوته والتي كانت كامنة في شعره فتمكن الفلسطينيون منه وخلعوا عينيه وصار ذليلاً وأضحوكة لهم..
وأثناء إذلالهم له في إحدى المرات وبعدما نبت شعره ورجع وأناب إلى ربه هدم عليهم البنيان الكبير ليموت هو ومن معه..
انه من الحكمة ان تحرص دائماً على أن تترك لعدوك شيئاً يخاف عليه، لأنه إن جردته من كل شيء فلا تأمنه حتى وإن كان أعمى.
لقد كانت دليلة بالنسبة لليهود الخائنة والتي تسببت في مقتل رجلهم القوي الذي أعاد مجدهم بعد ثلاثة قرون من المذلة والاستعباد.
جدير بالذكر أنه ينتهي عصر القضاة بموت شمسون إذ تعاقب على قيادة بني إسرائيل حوالي خمسة عشر قاضٍ ثم يبعث الله فيهم نبي الله صموئيل والذي يوجد سفر في التوراة باسمه ويقال إنه هو كاتب سفر القضاة.
لقد أخبرهم نبيهم بأن الله بعث لهم طالوت ملكاً “شاؤول” ثم تم استعادة مفهوم الدولة في عهد نبي الله داوود وابنه النبي سليمان- عليهما السلام- في عام ١٠٠٠ ق. م تقريباً..
وبموت النبي سليمان عليه السلام تراجع نفوذ اليهود وبدأ الوهن يطرق مفهوم الدولة القوية و تعرض اليهود للسبي البابلي عام ٥٨٦ ق. م علي يد نبوخذ نصر ثم يتغلب ملوك الدولة الخمينية الفارسية على البابليين في عهد ملك فارس كورش العظيم عام ٥٣٩ ق. م ..
تمجّد أسفار العهد القديم الدور التاريخي لكورش إذ خلصهم من طغيان نبوخذ نصر ويذكر سفر أشعياء حسن معاملة كورش لليهود ..
وبعد موت كورش تعاقب على حكم فارس قمبيز وداريوس الأول واحشويرش الأول وابنه ارتحشستا الأول..
وعندما تغيرت معاملة الفرس لليهود وذلك بعد موت كورش وتولية ابنه قمبيز الطاغية الذي احتل مصر فإنه يبدو أن اليهود تعلموا من فكرة دليلة ولجأ أحدهم وهو موردخاي لفكرة المرأة الجاسوسة حيث استخدم ابنة عمه “استير” لذلك الغرض كما يحكي لنا سفر استير الابوكريفا..
وعندما لعبت الأقدار دورها وأراد الملك احشويرش الانتقام من زوجته”وتشي” التي عصته من قبل بأن يتزوج من غيرها وهنا تزوج الملك من “استير” وهو لايعلم أنها يهودية.. وتقوم استير بدور كبير في تجنب تسلط الملك على اليهود والبطش بهم بل وزيادة نفوذهم لدرجة تولي ابن عمها موردخاي الوزارة..
َلم يقتصر دور استير أثناء حياة زوجها بل إن النفوذ الذي بفضلها حققه اليهود جعل من الملك ارتحشستا الأول – ابن الملك احشيورش – يسمح للنبي عذرا الكاتب “عزير” ومن بعده “نحميا” من التوجه للقدس وبناء هيكل الرب..
جدير بالذكر ان عذرا الكاتب هو من قام بتدوين أسفار العهد القديم في عهد حاكم القدس الملك نحميا عام ٤٤٥ ق. م ..
استدعاء فكرة سنوات المجد والسيادة لكل أمة حتى وإن كانت بالجوء الي حيل موجودة دائماً ويذكرنا بها التاريخ..
وهكذا كانت لدليلة واستير حكاية مقدسة سطرتها أسفار العهد القديم وستظل الجاسوسية إحدى مرتكزات الحروب الحديثة كما كانت وستكون في المستقبل..
ولا يمكن للذاكرة العربية ان تنسى قصة الجاسوس الاسرائيلي “إيلياهو كوهين” الذي عاش بسوريا تحت اسم “كامل امين ثابت” والذي كان مستشاراً لوزير الدفاع السوري وهو في الحقيقة كان جاسوساً اسرائيلياً وتمكن من تقلد اعلى المناصب في سوريا حتى تم كشفه بفضل المخابرات المصرية وتم اعدامه في دمشق سنة ١٩٦٥..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى