ما هي الدولة العربية التي سأحرقُ عَلَمَها؟
سهيل كيوان | فلسطين
يقوم بعض هواة ألعاب الكاميرا الخفية بالطَلَب من مواطن فلسطيني في قطاع غزة بأن يحرقَ ورقةً رُسم عليها علم دولة عربية، مقابل جائزة مالية بقيمة مئة دولار، ولكن الشّاب يستنكر الطلب ويرفضه، وعندما يلحُّ مقدِّمُ البرنامج عليه، يزداد الشّابُ تمسُّكاً بموقفه، ثم ينقضُّ عليه لصفعه ولا يتوقّف حتى يُعلموه وهم يضحكون، بأنها مزحة وكاميرا خفية، فيتعانق الجميع على خلفية موسيقى موطني موطني ببطء شديدٍ يصيب المستمع المشاهد بقشعريرة، وقد تنزلق دمعته رغماً عنه، خصوصاً إذا كان من المتقدّمين في السِّن، فهذا يثير لديهم مشاعر كثيرة مختلطة، لا تُعبِّر عنها سوى دمعةٍ ساخنة تتدحرج بصمت، تليها ابتسامة لضبط المشاعر وإعادتها إلى حالتها المتوازنة، فالمشهد يحمل في طيّاته تداعيات كثيرة لا مجال لحصرها، وكلّما كان المُشاهد أكثر تورّطاً في القضايا السياسية وعلى اطلاع أوسع بحركة التاريخ وتقلّباته ومجرى أحداثه، كان وقع المشهد أشدّ على نفسه.
يقصد مقدّمو هذه الفيديوهات إبراز مشاعر الفلسطينيين تجاه الشعوب العربية ورموزها، وهذا رغم الحاجة الملحّة، والأوضاع الاقتصادية الصعبة في قطاع غزة المحاصر بشكل خاص.
عندما يُسأل أحدهم لماذا يرفض حرق الورقة التي رُسِم عليها العلَمُ وأنه بالإمكان رسم العلم على ورقة غيرها بعد حرقها، يردّ بأن هذا العلم يمثل شعباً عزيزاً غالياً.
في الوقت ذاته، هناك كاميرات خفيّة تسأل بعض المواطنين من مختلف الدول العربية إذا ما كانوا يعترفون بأن القدس عاصمة إسرائيل! ويكون الرّدُ حاسماً، وأحياناً بعدوانية تجاه مُجري اللقاء وحتى محاولة كسر هاتفه، ويصرُّ جميعهم على أن القدس عاصمة فلسطين، ويعتبرون إسرائيل كياناً معادياً للعرب وللمسلمين.
في مشاهد أخرى، يدّعي صاحب الكاميرا الخفيّة بأنه يعمل لصالح فضائية إسرائيلية، وذلك في شارع أو في سيارة أجرة في القاهرة، ويكون الرّد بازدرائه وبكلمات فيها استنكار ورفض للتعامل معه.
ليس كل الناس على مستوى واحد من الاستعداد النفسي أو الوعي السياسي، وليس لجميعهم نفس المشاعر تجاه هذه القضية أو تلك من قضايا العرب والعالم، وليس لجميعهم نفس التّجربة الحياتية، وأستطيع أن أتوقع بأن عشرات ملايين العرب لا يعرفون من هو رئيس الحكومة أو رئيس مجلس الشعب أو وزير التربية والتعليم في بلادهم، فالقمع يدفع الناس إلى النأي عن السياسة، ويجعلهم غير مبالين في الشأن العام، واللهاث وراء لقمة العيش يرغمهم على الانشغال بأنفسهم، وعادة لا يتحرّكون إلا عندما تصل وقاحة السّياسة إلى قضم رغيف خبزهم، وسرقة دفء بيوتهم وصحة أبنائهم، حينئذ يصرخون أو ينتفضون لمعاقبة المسؤول الذي أوصلهم إلى ما هو أقسى من الفقر، بينما ينغمس الناس في السياسة ويتابعون تطوّراتها عندما يكون لهم دور في التأثير على مجرياتها، وعندما يكون هناك أملٌ في التغيير إلى الأفضل أو منع التدهور إلى أسوأ، أما عندما يُفقد الأمل ولا يجد الناس لهم دوراً ولا تُؤخذ آراؤهم وأفكارهم ومصالحهم على محمل الجد، حينئذ يصبح الأمر سيّان؛ لأن النتيجة واحدة.
أتوقّع أن هناك مقاطع من فيديوهات الكاميرا الخفية لا ينشرها معدّو هذه البرامج، يَقبل فيها مواطن عربيٌ أن يشتم فلسطين وقادتها، وممكن لفلسطيني مُفلس منذ أشهر في قطاع غزة، أن يحرق علم أي دولة عربية مقابل مئة دولار، بما في ذلك علم فلسطين نفسه وصور قادتها، قد يفعل هذا بشعور من الألم وبامتهان لكبريائه، ولكن لا أستبعد أن يفعل البعض.
لو كنت يَمنِياً تتعرّضُ أسرتي إلى الجوع مثلاً، ومررتُ في هذا الامتحان، لطلبت أعلام الدول العربية وإيران والدول الإسلامية كلها والدول دائمة العضوية في مجلس الأمن ودول الاتحاد الأوروبي، لإحراقها.
لو كنت لبنانياً عاجزاً عن إطعام أسرتي وتدفئتها وعلاج مرضاها، فأي علَم هذا الذي سأقدِّسه أكثر من إنسانيتي؟! سأطلب أعلام جميع الدول المتورّطة في الشأن اللبناني، وأحرقها.
وماذا لو كنت سورياً مشرّداً اضطراراً، فأي راية في الدنيا ستجعلني أحترمها أكثر من احترام ألمي ووجعي وكرامتي التي أهدرت على طرقات الغُربة وعلى أسيجة الحدود بين مختلف الدول!
وماذا لو كنت من المغرب العربي؟! فكيف سأتصرّف بينما الفساد أصبح كابوساً رابضاً على صدري.
وماذا لو كنت صومالياً أو موريتانياً أو من جزر القمر، أعرف كيف وأين تهدر أموال العرب وثرواتهم، بينما تقف أسرتي على حافة الجوع؟!
وماذا سيكون موقف المصري الذي يرى رُزم الدراهم والجنيهات والريالات تُمطر على راقصة في كابريه، بينما هو يصل الليل بالنهار لضمان رغيف العيش والفول.
الحقيقة التي يعرفها كل فلسطيني تشرّد في بلاد العرب ومن خلال تجربته، أن الشعوب العربية بلا استثناءات، تعاملت معه باحترام ومنحته فرصاً للعمل وللعيش، واعتبرته من واجباتها القومية والدينية والإنسانية، هذا ظهر جلياً في العقود الأولى من النكبة.
إلا أن الصراعات العربية-العربية، والصراعات الداخلية على السُّلطة وتورُّط الفلسطينيين في بعضها، والصراع على لقمة العيش لأجل مجرد البقاء نتيجة إفقار الشعوب ونهبها، جعل من التضامن مع الفلسطينيين قضيّة أكثر تعقيداً مع مرور الزمن، فترى من يستغل شعار حق العودة وعدم التوطين لأجنداته السياسية وقهر الفلسطينيين، وآخر يستغل القضية لتثبيت حكمه وعرشه، ويفعل البعض العكس في السنوات الأخيرة، إذ يُظهر مودّته لدولة الاحتلال ويطبّع معها كي تربّت أمريكا على كتفه.
الحقيقة أن الشعوب العربية متقدّمة بخطوات واسعة عن أنظمتها بما يخصُّ القضية الفلسطينية.
الشعوب العربية تطمح إلى السّلام مثل أية شعوب أخرى في العالم، وهي تتعرّض للتشويه على مدار سنين وعقود وقرون، وهي ليست معادية لليهود ولا لغيرهم كبشر، فهذا في صُلب الثقافة العربية ومن أساسياتها التي لا تميّز بين عربي وأعجمي أو أسود وأصفر إلا بالتقوى، والتّقوى تشمل كل عمل صالح وخيّر، ولا تخصُّ معتقداً بذاته «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائلَ لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم».
إضافة إلى هذا، فإن تراكُم الخِبرة من خلال الاحتكاك بالشعوب الأخرى العربية والأجنبية على نطاق واسع، وتحوّل العالم إلى مدينة واحدة كبيرة، وضع الحقيقة جليّة أمام الجميع وبدون أوهام أو أفكار مسبقة، فجعل من القِيَم الإنسانية قاسماً مشتركاً بين الطيبين والخيّرين من الأمم كافة، وجعل العنصريين ودعاة العدوان في الجهة الأخرى من المتراس، بغض النظر عن الانتماءات الدينية والقومية وغيرها من الانتماءات.