فراشات بديلة

خالد جمعة | فلسطين

ولأنّك أمي، فقط لأنكِ أمي، أحاطت بي جوقةٌ من العازفين في خروجي إلى المدرسة وسرب من الكناري في عودتي منها…

لأنك أمي، أشعر أن هناك من يحمي ظهري في حروبي مع الحياة…

لأنّك أمي، ولِدتُ أسمعُ ما تقوله الأشجار، وأكلمها…

ولأنّكِ أمي

عرفتُ الله

كأيّ طفلٍ، كانت العتمة تخيفني، ليس فقط لأنني لم أكن أتمكن من الرؤية في ظلام المخيم، بل لأن خيالاتٍ بأشكال غريبة تبدأ في التشكل، لونها أسود تسبح في سواد، لم أكن أعرف كيف يمكن لشكل أسود أن يظهر في قلب مجال أسود كذلك، لم يكن يطمئنني إلا صوت أمي حين تقول: يا ربي ينام يا ربي ينام، وادبحلو جوز الحمام، فيختفي الخوف من العتمة، ولكني أبدأ في التفكير في إنقاذ “جوز الحمام” من الذبح…

وكنتُ، كلّما طارت الفراشةُ المطرّزةُ على ذيل الثوبِ أبكي، فتطرّز لي أمي فراشةً أجمل، فأضحكُ، كانت تُجلسُني في حِجرِها، وتداعب شعري القصير، وتقول: لا شيءَ يستحق حزنَكَ هذا، خبئ حزنَكَ لأيامٍ آتية، وكنتُ أسألُ بسذاجة الصغار: إذا حزنتُ الآن، هل سأفقدُ قدرتي على الحزن في الأيام الآتية؟ كانت تبتسم وتقول: كلُّ عمرٍ وله حزنه، الآن، وفيما أنت ما زلت طفلاً، عبئ قلبك بالفرح قدر ما تستطيع، لأنك كلما كبرتَ دقيقةً صرتَ شيئاً آخر، لم أكن أفهم بالطبع، وهي تتركني أغزو غابات النوم، وتطرّزُ مزيداً من الفراشات وتخبئها في ثنايا ثوبِها تحسّباً لفراشاتٍ ستطيرُ وأبكي عليها، كانت دائماً جاهزة بفراشاتها البديلة.

وكلّما مرَّ العمرُ يزدادُ الأولادُ في قلبي، يتفرّعونَ إلى أنهارٍ وضحِكات، أحياناً لا يعودون بريئين مثلما تكذبُ الكتبُ بشأنهم، لكنّهم يظلّونَ كما هم، لا يتشقّقون على الأقل، نحنُ نكبُرُ ونجفُّ ونتشقَّقُ وننقسمُ إلى كائناتٍ خارجَ التصنيف، محظوظٌ أنا لأنّ الله استجابَ دعوةَ أمي، فأصبحَ كلُّ شقٍّ في روحي يرمِّمُهُ طفلٌ يولدُ من نكبةٍ ما، مرةً يأتي كقصيدةٍ ومرةً كأغنية، ومرةً يسيلُ كأولِ حكايةِ لا أعرفُ إلى أين ستأخذني، هؤلاء الأطفال الذين يولدون فيَّ، لا يكبرون مثلما أكبرُ أنا، لذلك فهم لا يموتون، بل يتكاثرونَ كميرمية متروكة على الجبل لم يقطفها أحد، ومع ذلك فهي لم تفقد رائحتها إلى اليوم.

ولأني لا أشبه الأحجارَ التي وضعوها للزينة على مدخل البلاد، فقد تحوّلتُ مليون مرةٍ من شجرةٍ إلى غرابٍ إلى بئر ماءٍ إلى عاصفةٍ إلى توازن مفقود بين فصلين، إلى علاماتٍ مدرسيّة لطفلة في السادسة، إلى تهليلة أم لا تحفظ غيرها، إلى عروقٍ في يد سيّدةٍ حرثت حقول العالم، إلى لثغة في فم ولدٍ في عامه الأول، إلى رائحة قهوة في مساء صيفي على سطح بيت طيني، إلى كلمات رقية على جبين امرأة تهذي، تحوّلتُ حتى صرتُ فرقاً بين حالتين، وما زلت لا أعرف أيهما أنا…

ولأني لست وقتاً، فلم أنضبط على ولادة طفل، أو وفاة عجوز، لا على شروق ولا على غروب، ولأني كذلك لست مكاناً، فلم يسكنّي أحد، وخارج الوقت والمكان، كنت دائماً أمنية معلقة في الهواء، لم يتمنّ أحد تحقيقها، وبالتالي، لم يستجب لها أحد…

ناديتُ، لم يبقَ لديّ نداءٌ إلا وأطلقتُهُ، طرقتُ أبوابَ البيوتِ كذلكَ، حتى تلك التي يبدو أنّ أحداً لم يسكنها منذ ألف سنة، درتُ حول الحدائق التي جفّت، بحثتُ عن أعشاشِ عصافير افترضتُ وجودَها، أو نقطةَ ماءٍ تدلُّ على أية حياة ممكنة، سربَ نمل، بقايا جمرة، لم يكن هناك شيء بالمطلق، وحينَ أردتُ أن أغادر، أطلّت من تحت جذعٍ جاف، يداها تشبهان تجاعيد الجبل، صلبتان وعتيقتان، ووجهها حكاية معقّدة وطويلة، ونظرةُ عينيها بقايا معركة لم يؤرّخها أحد، ابتسمت لي، بأسنانٍ كاملة، وأخرجت من عبّ ثوبها المحروس بالآلهة عقداً من النحاس والفضّة، ومدّت يدها فخرخش العقد كآلاف العصافير الهابطة إلى نبع ماء، وأفقتُ من كلّ هذا، وكان العقد في يدي، ولم يكن أحد أو شيء هناك، هل يمكن أن يخرج عقد من نحاس وفضة من حلم؟

ذكَّرتُكَ قبلَ أن تحضرَ إلى الحفلِ مشنشلاً بأزهارٍ بنفسجيّةٍ وبعطرٍ من النعناعِ البرّي، أن الموتَ لن يعطيكَ جمالاً أكثرَ مما أنتَ عليه، خدعتَني وقلتَ إنّكَ ذاهبٌ لتصيُّدِ زهرِ البرتقالِ قبلَ أن تفطنَ إليه النحلاتُ، لم تعرف، ولم أعرف، أن الجنود يختبئون تحت الأشجار، وأنّهم كانوا يحاولون أن يعبّئوا ذكرياتٍ ألّفوها داخل زهرَ البرتقالِ، ولأنها ما كانت معركةً واضحةً مثل تلك التي تحدثُ كلَّ يوم، لم يفطن أحد إلى اليوم، ورغم مرور شلالاتٍ من الوقت، أنّ موتَكَ كان، وما يزال، السبب الوحيد في أن برتقالَنا ما زال يحتفظ بذاكرته وذاكرتنا، أعذرهم فهم لم يعرفوك، أعذرهم، ولا تغضب، فأنا أعرف غضب الميتين الذين لا يذكرهم أحد…

شهِدتُ طقسَكَ وأنت تتركُ المصطبةَ أمام البيت، وتذهبُ إلى حقلِ ألغامِكَ الذي لا يُعيدُ أحداً، تنسى أثراً في الهواء، وبحزنٍ تردِّدُ:

سيروا إلى حتفكم، وابتسموا، بدّلوا أمهاتِكم بلبؤات جائعات، واحفظوا كل حكايات الغولة…

اشتموا من يضيء لكم عتمة القلب، وقولوا إن ضوءه يعمي أعينكم فلا تبصرون…

اذبحوا الأشجار والعصافير، واحرقوا أعشاش القبّرات على الأرض…

لا تنصتوا إلى الموسيقى فهي تهدئ الروحَ، وأنتم بحاجة إلى الثورةِ، حتى لو على أنفسكم، صِموا آذانكم كي لا تدخلها الموسيقى مصادفةً…

بيعوا ممتلكاتِكم، أو تبرعوا بها لكافرٍ ما زال يؤمن بالحياة، ولا تخشوا شيئاً فمملكة الربِّ فيها كلّ شيء…

يا أبي: أَخرج عصافيرَكَ من رأسي، أردتُ أن أطلقها منذ أعوامٍ مضت، لكنّكَ تطعمُها حَبَّ روحِكَ فترفض أن تغادر، كفّ عن التمليس على ريشها بيدٍ من ضوء، وتوقف عن تعليمِها الغناء، فرأسي لم تعد تحتمل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى