جداريات لمدينة كنعانية.. قراءة كاشفة في رواية (دورا) لـ” بشرى أبو شرار “

وليدة محمد عنتابي | سوريا

على أوراق متطايرة في مدى أوسع من بياضها، تخط الأديبة بدائعها المستلة من معاناة شعب تشظى بفعل غادر أثيم … لتسلسلها تحت مسمى جداريات، يجمعها عنوان يأخذ اسم مدينة دورا بابا مفتوحا على أحداث تتالت ترصد مجموعة من الشخصيات المعروفة بأسمائها الحقيقية وأعمالها الموثقة.

ما إن ندلف إلى عالم الرواية حتى تطالعنا الجدارية الأولى بعد الإهداء الذي تضمن أسماء شخصياتها  ،  وبجانب كل اسم جملة ترمز له وتشير إلى مضمونه .

كيف يعيش لاجئ في  وطنه ومهاجر في مدنها وقراها ، يحمل وطنه في أعماقه  ؟

أسماء ما إن ننطقها حتى تحدث دويا هائلا في حيز يحكمه الظلم والظلام

  : ماجد ابو شرار ..روما كانت حكاية ..

محمود درويش ..صباح الخير يا ماجد …

باجس أبو عطوان ..ومن ينسى “أبوشنار” وكيف سقط واقفا  ..

ناجي العلي ..وريشة تطال السماء ..

خليل العواودة …عانق الجيل قبل رحيله …

وائل أبو عرقوب ..تحدثي أيتها الذاكرة  …

عبد الفتاح الربعي … يتجذر كل يوم في أعماق الأرض. ..

د مغازي المصري ..قبل أن يرحل وهب لوائل الحياة …

نائلة عطية ..حتى تنطفئ الشمس ويشرق القمر  ..تبقى حيفا هناك …

نجاة فواز ..ناصرية الهوى والهوية ..

ندى ..من دمع زهرات اللوز ..

نجوى المالكي ..ظل في لون ..مالك مغربي .. زهرة بنفسجية ..

غازي الربعي رجل وصار ريحا باردة …

شادي مخاطرة ..يطأ جنة السماء .

عذاب الركابي .. عاشق جربح ، غريب سرمدي ، يقطع كل صباح زهرة لامنية موءودة …

فايز الحسني .. لا تضيعوا ريشات ” رماح” ولا تنزلوا اللوحات من مطارحها ..

احمد تمساح ..قلب جنوبي له الشمس المتكئة على ضفاف الروح

جليانو الفلسطيني …صوت وضمير صار ظلا له ميلاد جديد

يوسف كتلو …ظل … ولون

بين سارية وشمس يتسع الكون وتتوالد مجرات وتتشظى شهب ومذنبات …

وبين دورا المدينة الوادعة بأناسها الطيبين وبين ماجد الذي يسبح بروحه محلقا في سمائها وهي مستلقية على كتف جبل يتوشح بخضرته اليانعة ذكريات لطفولة ويفاعة ترتع بين الحقول المفروشة بقمحها المكتظ بذهبه المتمايل مع كل نسمة وجد  .

بريشة سارية يرخم الوطن على جداريات تشهق بالأزرق وتلهج بانفتاح الجهات وكسر الحصار معلنة ميلاد الكون .

 إنها أوراق من ذاكرة  وأحاسيس ومشاعر  وأحداث ، شتتها هجران قاحل وبعثرها فضاء نازف يبكي من رحلوا  .

باجس  ذلك النجم الأزلي  المتشكل من طين بلاد أنجبته لتعيد تشكيله كل يوم في ميلاد جديد .

وجوه مضيئة في ليل بلاد غادرها الأمان واستوطن فيها السؤال :

كيف عاشوا وكيف رحلوا  ؟!

وبين الميلاد والموت ملحمة  زمن لا يغادر الذاكرة  .

لوحات بلون كنعان ونكهة حضارة الشمس ابنة الكون وربيبة حكايات غابرة  …( رجل وامراة وما بينهما حكايات  قديمة ، المرأة ابنة الأسطورة ، تحرس بوابة العبور إلى بحر لن يموت  ) …

مدينة بطعم البرتقال ونكهة أزهاره مازالت تحتفظ بلمسات يدها الصغيرة على معالمها الراخمة في الوجدان   .

(يتهاوى باب دارها أمام سطوة قنابلهم ، وهي الجاثية أمام فتحة النور ، أصوات تثقب الجدران :

_انهضي يا امرأة  .. أين زوجك ؟ .)

يفتشون عن باجس في كل خرم لا يعلمون أنه مدى من نور ونيران .

و(من صبح دورا العفي .. تهمس وضحة من برعمة النهار :

طولت غيبتك هذه المرة … ) .

وحين طالته يد الغدر والعدوان  خرج جسده  ملفوفا بشال وضحة معانقا لوعة الغياب .

وفي غمرة أحداث ذاهلة  يعانق خليل العواودة الجبل قبل رحيله (مات البطل فعاش الجبل ) .

 وتتوالى الحكاية وتتساقط أجساد الأبطال الواحد تلو الآخر ،  وكل شيء يتغير حيث ( تموت الأشجار مستلقية ، وحيث يفزع الوطن وتنزع أعشاش العصافير وتقطع الأشجار  ) .

( كل شيء مبرر ..أصدقاؤك يا ماجد وجميع من كانوا معك في الجبل اليوم هم شهداء  ) .

تعتلي الرواية متن السرد بلغة توشحت برد الشعر ، تسرد لنا الأديبة  احداثها  من خلال حوار بين بطلي الواجهة  سارية وشمس وما بينهما  لترسم لنا جدارياتها الأخاذة بريشة مبدعة لذاكرة  شاهدة  ؛ وقد حبسنا معها أنفاسنا في متعة المتابعة .

رواية بحجم وطن وبعد معاناة ، رواية استقت أحداثها من واقع بلد غارق بدمه مكفكفا دموعه ناهضا بعزيمته لمواصلة  المقاومة  .

ثلاث وأربعون جدارية  ملونة بآلام وآمال ، استطاعت الأديبة بتقنية بارعة أن تمنح روايتها هذه سرمدية لا تغيب عنها الشمس .

متخذة مدينة دور رمزا لوطن  ينهص من أتراحه إلى مطهر جراحه  .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى