قراءة نقدية في سيرة ( وتبقى أشجار الكرز تزهر في قلبي دوما ) لـ” سمير الناعوري “

رائد محمد الحواري | ناقد فلسطيني

نحن العرب نحب السيرة ونميل إليها، لأنها جزءا من الثقافة التي شربناها، لقد قرأنا سيرة عنترة وأصبحت جزءا من تركيبتنا الثقافية، فهي الدافع لنا ولمحفز لنكون بتلك الشجاعة، كما أن طريقة تقديم الأحداث ـ خاصة التي تأتي على لسان السارد/الراوي ـ تستهوي العقل العربي، ” فالقصص والحكايات “الشاطر حسن، ونص مصيص” التي روتها الأمهات والجدات، ما زال سردها الجميل حاضرا فينا، من هنا، تجدنا نحب الحكايات/القصص، ويضاف (الأحداث/القصص) التي يرويها لنا الآباء والأمهات، والتي تتناول ماضهم الذي عاشوه، زادت من تعلقنا (بالماضي)، فأصبح العربي مسكون بالماضي، وإذا أضفنا الأمجاد والعظمة التي كانوا فيها، أيام الخلافة العربية الإسلامية، يصبح تعاطي العربي مع السيرة/الماضي كحال اللغة التي يتعلمها الطفل، الذي يجد فيها فها ذاته التي يبحث عنها، ذاته التي يريد أن تكون الآن، فيتعاطى مع السيرة/الماضي كشيء مقدس، وهذا انعكس على كُتاب السير وقراءها.

بتجرد، أجد كتب السير أمتع أنواع الأدب التي تقدم لنا، واعتقد، أن هذا يعود إل أن كاتب السيرة يكتبها بقلبه وعقله، فنجدها سيرة حميمة على كاتبها، ومن ثم ستنعكس على قارئها.

اللافت في هذه السير أن كاتبها رجل دبلوماسي، عمل في السفارات ومنظمات الأمم المتحدة، ومع هذا، ـ ورغم أن موضوع الدبلوماسي والسياسي غير المرغوب فيه ـ نجدها سيرة ممتعة وشيقة، فنجد ميل الكاتب إلى الدولة التي أحبها أكثر “اليابان” من خلال اللغة التي استخدمها، ومن خلال طريقة حديثه، فنجده تحديدا، عندما يتحدث عن اليابان، تزداد المتعة وسهولة التقديم.

إذن هناك متعة في قراءة “وتبقى أشجار الكرز تزهر في قلبي دوما”، وسنحاول تناول شذرات من سيرة “سمير عيسى الناعوري” يتحدث عن مولده: “لقد ولت في القدس حيث كان والدي يعمل” ص20، أهمية هذا الذكر أنه يشير إلى أن فلسطين/القدس كانت عربية، وكانت مفتوحة لكل العرب، ويذكرنا بأنها جزء من المملكة الأردنية الهاشمية، بمعنى أنها عربية.

وإذا عرفنا أن “عيسى الناعوري” من أهم الكتاب والأدباء العرب في ذلك الزمن، الأربعينيات والخمسينيات، والذي اسس مجلة “القلم الجديد” فقد تأثر الأبن “سمير” بأبيه، وحاول أن يكتب الشعر والقصة مقلدا مثله الأعلى، إلا أنه لم ينجح: “وأود أو أشير هنا إلى أنني كطفل تأثرت بجهود والدي الأدبية، وأصبحت أول أحلامي وأمنياتي أن أكون أديبا وكاتبا مثله،…كان أول ما لفت نظري القصائد الشعرية وطريقة رصفها بشكل التصنيف، واعتقدت أن المطلوب لعمل قصيدة هو طريقة تصنيف الكلمات، وعليه قمت بكتابة ما اعتقدت أنه قصيدة، …وجئت إلى والدي طالبا أن ينشر لي هذه القصيدة في المجلة، ولكن والدي ابتسم ابتسامة عطوفة وربت على كتفي قائلا إن القصيدة لا تصلح للنشر، .. وقد حاول والدي حينها شرح الأمر لي” ص21و22، وهذا الذكر لوالد الكاتب يشير إلى المكانة التي يُجلها له، ولمكانته الأدبية.

بعدها يتحدث عن دراسته وكيف استطاع أن يتفوق في امتحان الثانوية العامة (التوجيهي)، ودراسته للتاريخ، وكيف أصبح مدرس للغة الإنجليزية، وتقديمه للعمل في السلك الدبلوماسي، إلى أن تم تعينه في السفارة الأردن في اليابان، من هناك يقدم تأثره بهذا البلد فيقدم مجموعة مشاهد/انطباعات عنه بقوله: “…إضافة إلى التنظيم الجميل، هو النظافة التامة التي تجدها في كل مكان، واهتمام سكان كل منطق بالمساهمة في نظافة منطقتهم، وتجميل منازلهم الصغيرة بالنباتات والورود.

ولعل أول انطباع تكون لدي من النظر إلى هذا الأمر، أن حب الوطن قد يستطيع الناس التعبير عنه بأفضل صورة بزرع ورود أو نبتة، أو الحرص على نظافة المكان، لكي نستمتع بع معا، أنت ومن يجاورك ومن يمر بالمكان، وقد يكون ذلك أفضل من ألف قصيدة أو مغناة حب للوطن فقط” ص40، أن هذا الكلام الحميم والصادر من قلب وعقل الكاتب، يؤكد على أن الفعل/العمل أفضل مليون مرة من التنظير والكلام، فقد وجد فكرة حب الوطن بالعمل/بالنظافة/ بالتجميل، وليس في المهرجانات والخطب الرنانة، وكأنه يريد علينا الآن في المنطقة العربية، التي نجد التغني بالوطن ونحن من ينحره ويدمره ويسرقه.

وعن التقدم العلمي في اليابان يخلص لنا التجربة اليابانية، بقول لأحد الأشخاص: “إنك إذا لم تكن متقدما بخطوة في عملك، فإنك ستضطر لاحقا إلى الرجوع خطوتين حتى تلحق بالتطورات في حقل عملك” ص84، وهذا الخطوة المتقدمة هي التي جعلت اليابان تنتج ما هو جديد كل اسبوع.

وعندما يتحدث عن الادارة اليابانية يقول: “فقد كنا نلاحظ عندما نقوم بالاتصالات حول أمر ما مع دوائر مختلفة، أننا نجد أن المعلومات عند كل الجهات واحدة، لا بل أن أي جهة نذهب إليها تكون قد حصلت على معلومات عن أحاديثنا مع الإدارات الأخرى، بحيث لا يكون هناك اختلاف فيما نحصل عليه من معلومات واجابات” ص87، قد يفكر/يعتقد القارئ ان هذا “الأمر” متعلق بالأمن أو بملاحقة افراد أمنيا، كما يجدها في المنطقة العربية، لا، بل بأمور الخبرات والمشاريع والتبادل التجاري.

فعندما قامت شركة “أيشيكوا هاريما ايجيما” بقبول مشروع اقامة أرصفة عامة في ميناء العقبة في الأردن، وكان مبلغ الصفقة يعد خسارة مؤكدة للشركة، سأل كاتب السيرة مدير الشركة عن هذا الأمر وعن سبب قبوله لهذا المشروع الخاسر، أجاب: “أننا نعلم على تقديم فكرة جديدة للمنطقة وأن نجاحها لديكم سيكون ولا شك دافعا لكم ولغيركم من دول المنطقة لطلب المزيد وحينئذ سيأتي ربحنا” ص93، من هنا، أقول وبتجرد أن سيرة “سمير عيسى الناعوري” تعد من أهم الكتب في (الوطنية) ـ رغم انها تتحدث عن (اليابان) ـ لما فيها من دروس ومشاهد، نحن بأمس الحاجة إليها في المنطقة العربية.

الكتاب من منشورات دار فضاءات للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، الطبعة الأولى 2012.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى