قراءة انطباعية لنص ( ذهبت إلى هناك ) للشاعر د. مسلم الطعان

أحمد إسماعيل | سورية

أولا النص:

ذهبتَ إلى هناكَ بكاملِ أناقَتِكَ

تسحبُكَ حبالُ أحلامِكَ الحارّة

كرغيفِ خبزٍ ساخنٍ خرَجَ للتوّ:

من أحشاءِ تنّورِ أمِكَ الطينيِّ

أحلامُكَ تفرُّ كالعصافير

من نوافذ بيتِها:

في الشجرةِ التي تغرسُ

جذورَ وجودِها خلفَكَ

ذهبتَ إلى هناكَ:

أيُّها الجنوبيُّ المسكونُ:

بسكاكين الوجع

ذهبتَ إلى هناكَ:

لتطلقَ أحلامَكَ من أقفاصِ حزنِكَ

أم لتخبرَهم عن ملاحم النزيفِ العراقيِّ؟!

في جنوبِكَ البعيد:

ثمَّةَ شجرةٌ كبيرةٌ تنتظرُ قدومَكَ

محمَّلاً بسلالِ أحلامِكَ المشتهاة

ومكلّلاً بأكاليل الورد

الورد الذي لم يمارسْ طقوسَ الذبولْ

وعندما عدتَ عودتَكَ الأولى:

وجدتَ شجرتَكَ القديمةَ

قد نزَعَت ثوبَها القديمَ

ومن كلِّ حدبٍ وصوب:

أحاطت بها ذئابُ الحطّابينْ…!

ذهبتَ إلى هناكَ بكاملِ عدتِكَ:

المواويلُ جاهزةٌ للبوح ِ الجنوبيِّ

متى ما شرَّعتْ لها حنجرتُكَ:

نوافذَ الغناء

والحزنُ رفيقُ خطاكَ العتيد:

مستعدٌ للعملِ كمترجمٍ فوريّ

للغةٍ تفورُ قهوتُها في داخلِك

ربما لا تستسيغُها شفاهُ الآخرين

ربما لأنَّ لديهم قهوة بطعمٍ آخر…!

ذهبتَ إلى هناكَ بكاملِ أناقتِكَ

ذهبتَ إلى هناك َ بكاملِ عدّتِكَ

ذهبتَ إلى هناكَ بعصافير حنجرتِكَ

وعدتَ إلى هنا:

بلا أناقَةٍ

بلا عدّةٍ

بلا حنجرَةٍ

وبلا شَجَرةٍ:

تعرفُ كيفَ تحاورُ العصافيرَ:

بلغةِ المواويل

لتنتجَ الأحلامَ والجَمالَ والمعنى…!

 

ثانيا: القراءة الانطباعية

يقول جبران خليل جبران: يقولون لي إذا رأيت عبدا نائما فلا تنبهه لعله يحلم بالحرية، و أنا أقول لهم إذا رأيت عبدا نائما نبهته و حدثته عن الحرية.

هاتان الفكرتان تمثلان معنى الحياة و عدمها من خلال رؤية فلسفية للواقع. وهذا ما أراد الشاعر رسم ملامحه من خلال هذا النص. فالعتبة العنوانية تطرح الفكرة بأسلوب تعجبي عميق… لتترك المتأمل مع فرصة للذة المغامرة؛ فالذهاب: هو السفر و الانطلاق صوب مكان مكان ما…

وحين تكون الرحلة غير موفقة تقوم بتعتيم الجهة التي سافرت إليها حتى لا يحس أحد بمدى خيبتك

وهنا دل الشاعر على عدم النجاح باستخدام الظرفية المكانية هناك.. للإشارة للبعيد واضعا بعدها نقاطا و إشارة تعجب. كل هذا ليدخل المتلقي النص و هو يتمتم بالأسئلة: ما نوع الرحلة؟ ما مدتها؟ كم مقدار الخيبة فيها؟ وحتى يمنح الشاعر الشغف والفضول للمتلقي و هو يقبل على النص جعل كوميديا الموقف تتحدث عن الواقع بلغة مجاز مبهرة

عادة لا يفضل الشعراء جعل العنوان جزءا من مطلع النص حتى لا يحرم المتلقي من من متابعة النص؛ لكن مبدعنا جعلها جزءا لا يتجزأ من كل مقطع للدلالة و التأكيد على عمق الخيبة.

لاحظوا مدى الاستثارة في المجاز الذي استخدمه في تسليط الضوء على تلك الرحلة (ذهبت إلى هناك بكامل أناقتك)

الأناقة: المظهر الحضاري الذي يفرض على الطرف الآخر الانجذاب و الانبهار بمدى زينتك جسدا و فكرا وهنا كان لابد من إظهار مدى ما تتمتع به تلك الذات.

لاحظوا كيف تابع الشاعر المشهد بانزياحات ساحرة

تسحبك حبال أحلامك الحارة

كرغيف خبز ساخن خرج للتو

من أحشاء أمك الطيني

هنا نشاهد اكتمال خيوط الرحلة؛ فالرحلة كانت للتغير والتغير هنا لا يقتصر على الأنا بل على الأنا الأعلى ” هو ” وبمعنى أدق على الشعب؛ فالشاعر هنا لايتكلم فقط عن نفسه بل يتكلم عن خيبة شعب بأكمله.. لم تعجبه أساليب السلطة الحاكمة فخرج بكل أناقته يطالب بالتغير و لغة الأناقة تتطلب الاشتعال والتحدي.

لاحظوا عمق مجاز الشاعر و هو يصور تلك الذات الجمعية (كرغيف ساخن خرج للتو)، وحتى يجعله نابضا بالإيقاع جعله متصلا بأحشاء تنور أمه فالأم هنا الوطن الذي يشتعل به نبضه، فمن يخرج للتغير يكون من غيرته و حرصه على الوطن الذي يحبه…

في المقطع الثاني يصور الشاعر سبب فشل رحلة التغير وهنا نلاحظ كيف استخدم معجما دلاليا خاصا لذلك

مثال

تفر العصافير…

نوافذ بيتها..

وجودها خلفك.

فهنا يبين لنا أن الرحلة كانت حلم لأنها لم تدرك معنى الثبات؛ فالخوف بالنسبة لها وحش جبار..

لاحظوا كيف ان الشاعر صور تلك الذات الجمعية بالعصافير التي تفر مع أول حركة و لو كانت في الفراغ.

وهنا نلاحظ أيضا عمق مجاز الشاعر بمشهد سينمائي ثلاثي الأبعاد؛ مشهد فرار العصافير من نوافذ البيت و البيت هنا الوطن.  وفي ذلك دلالة على عدم تحمل تلك الذات الجمعية مسؤولية الوطن و هجرتها و ترك نوافذ الوطن في مهب الريح. ثم ينتقل الشاعر ليصور عمق الفشل في تلك الرحلة؛ فالشجرة هنا مجاز استخدمه ليشير إلى الأصالة، فحين نفر و نهاجر و لا نتحمل المسؤولية فنحن نرمي جذورنا خلفنا و كأنها لا تمت لما بصلة، وهذا يذكرنا بقول نيتشه: الحرية هي الرغبة بأن نكون مسؤولين عن أنفسنا. و مسؤولية النفس تبدأ بعد إدراكها مسؤولية الوطن.

في المقطع الثالث يصنع الشاعر سخرية و مفارقة من طريقة تفكير تلك الذات من خلال معجم دلالي ساحر المجاز

الجنوبي المسكون…

سكاكين الوجع…

أقفاص حزنك..

ملاحم النزيف

وهنا نلاحظ عمق الألم الذي حصدته تلك الذات الجمعية و المفارقة ساخرة جدا في نهاية المقطع كمن يهمس في أذن من خرج للتغير

هل خرجتم للتغير….؟

أم لزيادة عدد خيبات العراق…

فالطين زاد بلة و الكل عاد بخفي حنين

 

في المقطع الرابع يرسم الشاعر حالة الوطن بوجهين:

الوجه الأول: يسلط الضوء على الأمل الكبير الذي شبهه الشاعر بالشجرة الكبيرة التي تنتظر قدومك و قدوم انتصارك و الورد يكلل خطاك. ذلك الورد هو من يحب الوطن بإخلاص لذلك شبهه مبدعنا بالورد العاطر. و هو موجود في كل زمان و مكان ولذلك شبهه الشاعر بالورد الذي لم يمارس طقوس الذبول

الوجه الثاني: هو مشهد الوطن بعد التغير حين يرمي أوجاعه خلفه و يظهر بكامل زينته والمستعمر والنفوس المريضة الجشعة تتربص به من كل حدب وصوب

 

في المقطع الخامس يتابع الشاعر وصف رحلة التغير التي تقوم بها تلك الذات الجمعية من خلال بيان أساليبها و طريقتها في الحوار. لاحظوا جمالية المعجم الدلالي المأخوذ من من قلب الحدث

المواويل…

نوافذ الغناء..

الحزن..

مترجم فوري..

لغة تفور قهوتها داخلك

لكن هل الجميع يستسيغ هذه الأطروحات. طبعا لأنها ليس على مقاس أهل الجشع. كان هناك ردة فعل صاخبة من السلطة، وهنا لامس مبدعنا موقفهم بسخرية يدين فيها تصرفاتهم بقوله:

ربما لأن لديهم قهوة بطعم آخر

 

في المقطع الأخير يستجمع مبدعنا مفاصل النص ليظهر. كيف كانت نتائج هذا الرحلة؟ و ما طعم ثمارها؟. لاحظوا التراجيديا المؤلمة الساخرة

عدت إلى هنا

بلا أناقة

بلا عدة

بلا حنجرة

بلا شجرة

اكتشفت

أنك لا تتقن لغة الحوار ولا المواويل ولا الأحلام و لا الجمال و لا المعنى بقيت بلا ذات، و بلا وطن، و بلا صوت و بلا أرضية تفكر بها

نثرية ساحرة عميقة مذهلة باسقاطاتها و نبل مضمونها وهنا نلاحظ كيف منح مبدعنا الصورة إيقاعا يحرك فيك الإحساس بمدى ضعف الإرادة و الحرية في مجتمعاتنا العربية إضافة إلى جمالية و دهشة المجاز الذي يستخدمه الشاعر بالبعد عن الضبابية و استخدام التراكيب السهلة البسيطة التي تصنع الفارق بانزياحاتها

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى