رقصة تانجو أخيرة ( قصة قصيرة)

فتحي إسماعيل | أديب مصري

كنتُ أجلس على حافة البحرِ أمدّ قدمي لأسماكه الطفلة، تتقافز فتقضم.. وأبتسم، لم أكن أجيد الضحك حتّى، وكان على البحر كرسيٌ وحيد يعطي ظهره للعالم..

العالم يفترش الرمل يشاهد العرض المسرحي لبطل وحيد يلقم الأسماك أصابعه…

بعد أن استدرت لتصفيق المشاهدين.. انجرفتُ نحوهم.

بعيدًا عن البحر

تاركًا بحري وأسماكه بلا رفيق.

كفّت أيادي العالم عن التصفيق وعيونهم عن الدهشة…

ألفيتني وحيدًا أسير في شارع طويل.. لا أشعر ببرد ولا حر، القمر مكتمل، يختفي وراء البنايات ثم يعاود الظهور ثم يختفي..

يتساقط مطر تحركه رياح خفيفة، أوراق شجر وزهور ما زالت نضرة تفترش شارعًا يمتد بلا نهاية.

أشاهد على فضاء الشارع في صورة هيموغرافية ( Holography) لحظة ميلادي… وأنا أنبثق من بين فخذي أمي وصراخها المكتوم.

كم كانت خجِلة.. مثلي، تكتم آلامها حياءً، تنهمر دموعي، ويختلط نحيبي بصراخ الطفل الممدد على أسفلت الشارع.

تتبدل الصورة مع ظهور واختفاء وجوه كثيرة لا أتبين ملامحها،

ثم تثبت…

أراني ممددًا على الأرض ورنين هاتف محمول مُلقى بجوار ذراعي المفرودة بجانبي، ورجل غريب كان مارًا بالصدفة يمسك بالهاتف: “من تريدونه قد مات”..

لا صوت يجيبه…

أكتم بكائي؛ أخجل من موتي… بينما تنهمر دموعي بغزارة… تختلط بدماء الجثة الممدة بلا حراك… مفتوحة العينين عن دهشة لم تكتمل.

يختلط ماء المطر بدموعي؟

تضيء بقعة ضوئية أخري على يمين الشارع.. يطل الطفل الوليد.. يبكي بحرقة ولا أحد يهدهده.

أحزان كثيرة ما بين موتي ومولدي تطل وتختفي من الأزقة على جانبي الشارع، وهمس يشبه الفحيح يصدر منها..

رغم ذلك كانت سعادة خفية، كبساط من ريش نعام تحملني.. لا أسير، بل أحلّق على ارتفاعٍ منخفض، قدماي تكاد تلامس أرض الشارع المبلل بماء المطر.

لا تشغلني المسافات،

الماضي والمستقبل يسيران جنبًا إلى جنب، عقارب الساعة في يدي واقفة على الواحدة..

أسير طويلا ولكن المعالم لا تتغير..

أفاجأ بها في مواجهتي، لا أدري هل ظهرت الآن فقط؟ أم أنها كانت في الصورة معي منذ لحظة الميلاد؟

تقبل نحوى..

يتعلق بكل ذراع من ذراعيها طفلٌ لا يشبهني.. وهي لا تشبه أمي.. ولا تشبه أي من حبيباتي السابقات اللاتي تصدر أصواتهن من فوق الشرفات، وبالأسماء التي كانوا يختصونني وينادونني بها، يدلّين أنصافهن العليا.. ينادين رجالًا آخرين، يظهرون تباعًا.. يصعدون واحدًا تلو الآخر.. يخلو الشارع إلا مني ومنها وأصوات نقرات المطر على الأرض، بصورة رتيبة… ولكنها منسجمة مع هدوء الشارع.

ابتسامتها تضيء عتمات الأزقة، فترتعب أحزاني وتتواري، وكذلك ثنائيات الرجال ونساءهم.. ينزوون بعيدًا منشغلين في أحاديث بصوت خافت.

أخذت بيدها كف يدي، تخللت أصابعها النحيلة أصابعي.. أجلستني على مقعد حجري مبلل بماء المطر…

نظرت في عيني بعد أن أمسكت بوجهي وأدارته نحوها…

ابتسمت ابتسامة ساحرة.. خفضَت جفنيها وفتحتهما.. طارت منهما فراشتان.. همستا لي فضحِكت بجذل طفولي، عيونها راقبت الفراشات تحلق حولنا في دوائر .. كلما ازدادت سرعة الفراشات، كانت عيونها تتسع.. وتتسع.. وتبتلع البنايات والذكريات المجسمة في الأركان، والحبيبات والأحزان والأفراح والموت والميلاد، ولا يبقى إلا العتمة حولنا وضيّ عيونها الذي أرى من خلاله المطر والشارع خالٍ تتراص على جانبيه أشجار، متفاوتة الطول، تتحرك بجذوعها.. تهتز.. ترقص التانجو..

يشملني شعور بالانتشاء بينما أفتش عن الدهشة، تضحك هي حين تقرأ سؤالي، تقبض على يدي، وتشير إلى قضمة القمر الباقية بعد أن نحلته الليالي، يقترب منا.. تجلسني فوقه، وتجلس بجانبي، تخرج نهديها برشاقة، ورغم أن صغرهما وتماسكهما يوحي ببكارة ثديين لبكر لم يقربها بدن رجل، ولا حلبهما ينتج عنه غذاء.. تلقم كل حلمة لطفل، يمتصان في رغبة ومتعة حقيقية، تتركهما للحلمات وتجذب رأسي برفق، تضعه على كتفها تمسّد شعري… وأبكي مستسلمًا لهاـ أتأمل الشارع الخالي وأشجاره المتراقصات، وأصفق بجذل لرقصة التانجو الصاخبة، والتي يبدو أنها لن تنتهي أبدًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى