جاسم الصحيّح وتساؤلات القصيدة

د. موج يوسف | ناقدة وأكاديمية – العراق

المتابعُ لحركةِ الأدب العربيّ والشّعر خاصة يلحظُ أن الشاعرَ صارَ يرسمُ ألفاظاً من دون أن يكتب، فتبدو القصيدة في حالة عسيرة من الركود، فهل هذا يعني أنها أصيبت بالشيخوخة؟، وماذا نعني بهذه الأخيرة؟، إنَّ ارتماء الشاعر في أحضان الماضي والحاضر حرم نفسه من لذة إثارة التساؤل في القصيدة، فاقتصرت نشوتها على لحظة معينة وهي لحظة ولادتها ثم تصاب بشيخوخة وترهم؛ لذلك أغلب شعر اليوم هو غير صالح للمستقبل البعيد، وقد يصلح للدراسات البحثية لا لتأملات الحياة. وهذا لا يشمل الكلّ فالشاعر جاسم الصحيح جعل لشعره بُعْداً تخطى حدود الحاضر، والقصيدة الأكثر بُعداً هي الأكثر قرباً. وقبل رحلة البحث عن الذات قام الشاعرُ بخلع عباءة الماضي عنه، والثورة عليه، وقتل الأصل، فيقول في قصيدة بعنوان «ماوراء حنجرة المغني»: (مضى أبي وتبقّت لي وصيّته/ كن كامرئ القيس واخلد في معلقته/ كن صورة (السيّاب) منطفئاً/ كالليل يبكي على (عمياء مومسة)/ لا تشقني يا أبي.. لا تُعطيني شفة/ أشدو بها لا تلدني عبر أغنيتي/ لا تستعد لي مشاويراً وأرصفة / إنّي ابتكرتُ مشاويري وأرصفتي).

الشاعرُ يضعنا في قلب الرؤية الفرويدية التي ترى أن الابن لا يستطيع أن يكتسب حريته ويحقق شخصيته الّا إذا قتل أباه. وتبدو الأبيات السابقة هي ثورة على الأب، لكن أي أب هل نأخذه بمعناه الحقيقي؟، الأبيات ذات نسق مضمر يمرر الشاعر عبره ثورته وقتل الماضي المتمثل بصورة الأدب، لكي يشكل صورة الابن وفق ما يريد وبهذه الحالة يخلقُ أفكاراً جديدة وقصيدة تساؤلية تضمن الخلود. الرفض والثورة شكلت كلّ شيء حتى الحقائق المطلقة فيقول: (في خارجي ألف حربٍ قادها بشرٌ/ وداخلي ألفُ حربٍ بين آلهة).

صراع الوجود والعدم أثار الشاعر وجعله يسأل: كيف أميّز بين حياتي، وكينونتي (وجودي)، وهل أن وجودي سرٌّ ملغز بالنسبة لي؟، تبدو هذه التساؤلات ميتافزقيا، وهذا ما جعله يكتشف نفسه ويتجاوز مستوى الذات والموضوع ويتمتع بواقعية ميتافزيقية.ففي قصيدة بعنوان (حصانة) يقول: (إذا ما نمتُ نام معي سُعالي/ ولكن لا ينامُ معي سؤالي/ لماذا جئت من نبعٍ خفيّ/ لماذا سلت في عصب الليالي/ وأي مشيئة خبزت مصيري/ بكفّ الغيب في فرن الأعالي).

البحث عما قبل الحياة وما بعد فنائها سؤال تردد عند الشاعر، بل نلحظُ انفتاح الذات على عوالم أخرى، فالشعرُ هو الأكثر عمقاً والأكثر وجوداً وهذا ما أشار إليه نيتشه بإن إرداة الفن هي الأكثر ميتافيزقيا من إرادة الحقيقة والواقع والوجود، والغرض الأساس من الفن والشعر هو خلق كمال الحياة وامتلائها بالجمال وتمجيد وتأكيد الوجود. والأنا الواعية والمفكرة ترى أن الروح هي العدو الأكبر للحياة ايضاً وهذا الصراع هو محنة الإنسان في البحث عن ذاته، وعن التطهير من ذنوب الشر، والشاعر جاسم يقول في ذلك: (نحتاج (بوذا) من جديد/ كي يدلّك ما تشنج من عناصرنا بحكمته/ ويوقف رحلة الأرواح في التيه الملوّن ها هنا).

استعان الشاعر بفلسفة بوذا التي لها نهج خاص في الكون، والشاعر يحاول الخلاص من آلامه الوجودية، والمعاناة من الحياة التي صارت عدوة لروحه، لجأ إلى بوذا الحكيم الذي ذكر في انجيله قائلاً: (تلك أيها الرهبان هي الحقيقة السامية عن الألم: الولادة مؤلمة والمرض مؤلم والشيخوخة مؤلمة والحزن والبكاء والخيبة كلها مؤلمة)، الروح تخلق من الألم والحياة تزيد من فعاليته، والشاعر يريد التطهر من الآلام التي لاحقت ذاته ولا يتمّ إلّا عبر الحكمة وترويض الحزن والعذاب وفق ما تشتهيه الذات. قصيدة الشاعر الصحيح تزاحمت فيها التساؤلات فصار شعره امتداداً لتمرّده، وثورته، وصراعه، وقلقه وبهذا ينفتح على اللانهاية.

الشعر أو الفن السؤول يعلمنا نعيش الحياة بشكلها الأعمق، والأخلاقية الجمالية هي التي توجهنا كيف نمارس هذه الحياة، والمجتمع الذي يستمر برسم الإبداع هو مجتمع لا يعرف الشيخوخة. الشاعر جاسم الصحيح نقل حاضره إلى المستقبل ودخل في كل منطقة مظلمة من الغيب والحياة، ونلحظ أن القصيدة انفتحت على كلّ العوالم فحتى الوزن لم يقيدها في مواصلة الإبحار في الهم الوجودي والمعرفي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى