في التأني السلامة وفي العجلة الندامة

د. عادل المراغي | القاهرة

يعد التأني من السلوكيات التي تبني جسور التواصل بين الناس ، وتزرع أشجار المودة ، وتبعث على الأمن الاجتماعي والاطمئنان النفسي بين أفراد المجتمع قاطبة بين الجار وجاره والأخ وأخيه والصديق وصديقه والرجل وزوجته وأولاده والرئيس وحكومته والوزير ورعيته والمدير ومسؤوليه .
وفي هذا المعني يقول ابن القيِّم رحمه الله: ” إذا انحرفت عن خُلُق الأناة والرِّفق انحرفت: إمَّا إلى عَجَلة وطيش وعنف، وإمَّا إلى تفريط وإضاعة، والرِّفق والأناة بينهما ”
والتأني والتريث خلق محبب إلي الله تعالى ،حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم لأشجِّ عبد القيس: ” إنَّ فيك خصلتين يحبُّهما الله: الحِلْم، والأناة ” .
قال الغزالي : ( الأعمال ينبغي أن تكون بعد التَّبصرة والمعرفة، والتَّبصرة تحتاج إلى تأمُّل وتمهُّل، والعَجَلَة تمنع مِن ذلك، وعند الاستعجال يروِّج الشَّيطان شرَّه على الإنسان مِن حيث لا يدري) .

ومن صور التأني التَّريُّث عند الحكم علي الناس :
قال تعالى: ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِين ” .

أقوال العلماء في التأني والتريث:

– كتب عمرو بن العاص إلى معاوية يعاتبه في التَّأنِّي، فكتب إليه معاوية: ” أما بعد، فإنَّ التَّفهُّم في الخبر زيادة ورشد، وإنَّ الرَّاشد مَن رشد عن العَجَلَة، وإنَّ الخائب مَن خاب عن الأناة، وإنَّ المتثبِّت مصيب، أو كاد أن يكون مصيبًا، وإنَّ العَجِل مخطئٌ أو كاد أن يكون مخطئًا ” .
– وقال مالك: ” كان يُقَال: التَّأنِّي مِن الله، والعَجَلَة مِن الشَّيطان، وما عَجِل امرؤٌ فأصاب، وتأني آخر فأخطأ، إلَّا كان الذي تأني أصوب رأيًا، ولا عَجِل امرؤٌ فأخطأ، وتأني آخر فأخطأ، إلَّا كان الذي تأني أيسر خطأ ” .
– وقال أبو عثمان بن الحداد:
” مَن تأنَّى وتثبَّت تهيَّأ له مِن الصَّواب ما لا يتهيَّأ لصاحب البديهة ” .
– وأوصى مالك بن المنذر بن مالك بنيه، فقال: ” يا بنيَّ! الزموا الأناة، واغتنموا الفرصة تظفروا ” .
– وقال أبو حاتم: ” الخائب مَن خاب عن الأناة، والعَجِل مخطئٌ أبدًا كما أن المتثبِّت مصيبٌ أبدًا ” .
– وقال أيضًا: ” إنَّ العاجل لا يكاد يلحق، كما أنَّ الرَّافق لا يكاد يُسْبَق، والسَّاكت لا يكاد يندم، ومَن نطق لا يكاد يسلم، وإن العَجِل يقول قبل أن يعلم، ويجيب قبل أن يفهم، ويحمد قبل أن يجرِّب ” .
ولله در شوقي حيث قال:

من تأني نالَ ما تمنَّـي
وعاشَ طولَ عُمرِهِ مُهَنَّـا

– ويقول أيضا :
لكلِّ شيءٍ في الحياه وقتـهُ وغايه ُ المستعجلين فـوته!

– ومن الحكم البالغة التي سارت بها الركبان قولهم : “من استعجل شيئا قبل أوانه عوقب بحرمانه”.

وقد يتعجل الإنسان في حكمه على الأشياء، وفي تقييمه للأفكار والأشخاص، ولا يتانَّى ولا يتبين الصواب أويتثبت من الأمر، وتلك العجلة طبع في كثير من الناس، قال تعالي : ﴿خُلِقَ الْاِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ﴾ يعني طبعه العجلة في الأمر ، حتى إنه ليستعجل الهلاك ﴿وَيَدْعُ الْاِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْاِنْسَانُ عَجُولًا﴾ ولكن من رحمة الله به أنه لا يعجل له الشر الذي يريده، بل يمهله ويريه الآيات ، ويعطيه الفرصة بعد الفرصة ﴿وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِي اِلَيْهِمْ اَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾.

والعَجُول كثيرُ الوقوع في الخطأ ، قليلُ التقدير لعواقب الأمور ، ومن كلام الحكماء: «اياك والعجلة ، فإنها تكنّى أم الندامة ، لأن صاحبها يقول قبل أن يعلم، ويجيب قبل أن يفهم، ويعزم قبل أن يفكر، ويحمد قبل أن يجرب “

وقد رأينا كيف أن استعجال سيدنا موسي عليه السلام فوَّت عليه وعلينا معرفه المزيد مما أراد أن يفعله الخضِر عليه السلام ، حتي إن النبي -صلي الله عليه وسلم- قال فيما أخرجه البخاري: «وَدِدْنَا اَنَّ مُوسَي صَبَرَ حَتَّي يُقَصَّ عَلَيْنَا مِنْ اَمْرِهِمَا».

لهذا فقد دعا النبي – صلي الله عليه وسلم – إلى التأني، وذم العجلة، فقد أخرج أبو يعلى أنه صلي الله عليه وسلم قَالَ: «التَّاَنِّي مِنَ اللهِ، وَالْعَجَلَهُ مِنَ الشَّيْطَانِ». وفي روايه الترمذي: «الاَنَاهُ مِنَ اللهِ، وَالْعَجَلَهُ مِنَ الشَّيْطَانِ». وأخرج أبو داود عَنِ النَّبِي صلي الله عليه وسلم قَالَ: «التُّؤَدَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ خَيْرٌ، اِلاَّ فِي عَمَلِ الاخِرَهِ».
– قال الشاعر:
قد يدرك المتانّي بعض حاجته
وقد يكون مع المستعجل الزلل

ومن أسوأ صور العجلة : التسرع في الحكم على الأمور من غير وقوف على حقيقتها وظروفها، ولا مراجعة لما وراءها، بل يحمل حبُّ الشهرة والظهورِ لبعض طلبة العلم على التعليق على ما لا علم له به ، وانتقاد ما لا وقوف له على حقيقته وأبعاده وهو لا يعرف الشحمة من اللحمة ولا أنفه من أذنه ولا كوعه من بوعه، فإذا ما اتضحت الأمور وبانت الحقائق وجدته كمن امتلأ فمه ماء لا يكاد ينطق مثله، كمثل الضفدع.

قالت الضفدع قولا فسرته الحكماء :
في فمي ماء وهل ينطق من في فيه ماء .

والأعجب أن يتكرر هذا من الشخص مرات عديدة ولا يفكر في مراجعة هذه الطريقة في النظر إلى الأمور وتقييم الوقائع والأشخاص.

ومن صور العجلة أيضا : مسارعة البعض إلى الرد على الكلام قبل أن يتمه قائله، بل قبل أن يفهم ما يقصده قائله، فيفترض أن المتكلم يقصد شيئا ما ويأخذ في انتقاده، وهو بعيد كل البعد عما قصده المتكلم .
وقد أنصت النبي صلي الله عليه وسلم لعتبة بن ربيعة ولم يقاطعه وتأني حتي فرغ عتبة من كلامه ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم( أفرغت يا أبا الوليد؟)
ولله در يحيى بن خالد البرمكي الذي أوصى ابنه جعفراً فقال: «لا تَرُدَّ على أحدٍ جواباً حتى تفهم كلامَه؛ فإن ذلك يصرفك عن جواب كلامه إلى غيره، ويؤكد الجهلَ عليك، ولكن افهم عنه، فإذا فهمتَه فاَجِبْه، ولا تتعجلْ بالجواب قبل الاستفهام، ولا تَسْتَحِ أن تستفهمَ إذا لم تفهم؛ فإن الجواب قبل الفهم حمقٌ».

– وفي هذا المعني يقول دعبل الخزاعي :
تأن ولا تعجل بلومك صاحبا
لعل له عذرا وأنت تلوم

وأكثر العلاقات التي ساءت بين الناس إما بسبب مفهوم لم يقصد أو مقصود لم يفهم وكل ذلك بسبب التسرع في الحكم.

والتَّأنِّي جزءٌ من النُّبوَّة، فالتَّأنِّي: خُلقٌ ملازمٌ للنَّبيِّ، فلا يمكن أن يستقيم الحال إلَّا به، وقد مدح النَّبيُّ ﷺ الأشج بن عبد قيس بهذا السلوك فقال: (يا أشج إنَّك فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة )رواه مسلم .
ولقد علق بن القيم رحمه الله على حديث النبي – صلى الله عليه وسلم – الذي رواه البيهقي (العجلة من الشيطان) فقال كلاما يكتب بماء الذهب .
يقول رحمه الله:- ” إنَّما كانت العجلة من الشَّيطان؛ لأنَّها خفَّة وطيشٌ وحدَّةٌ في العبد تمنعه من التَّثبُّت والوقار والحلم، وتُوجب له وضع الأشياء في غير مواضعها، وتجلب عليه أنواعا من الشُّرور وتمنعه أنواعا من الخيرات ، وهى قرين النَّدامة فقلَّ من استعجل إلَّا ندم، وهي متولِّدةٌ بين خلقين مذمومين: التَّفريط والاستعجال قبل الوقت، يتولَّد منهما العجلة” [الروح1/258]

صور التأني والتريث في حياة النبي صلى الله عليه وسلم

من أهم صور التأني التريث في اتخاذ القرارات : فقد جاء عن عائشة رضي الله عنها زوج النَّبيِّ ﷺ ما أخبرته أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم جاءها حين أمره الله أن يخير أزواجه، فبدأ بي رسول الله ﷺ، فقال: إنِّي ذاكرٌ لك أمراً فلا عليك ألَّا تستعجلي حتى تستأمري أبويك أي: تأنِّي واستشيري، وقد علم أن أبويها لم يكونا يأمران بفراقه، قالت: “ثُمَّ قال: إنَّ الله قال: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا………. ) فالشَّاهد منه: قوله: فلا عليك ألا تستعجلي حتى تستأمري أبويك .

ومن صور الاستعجال عدم التَّأنِّي في الإنكار على الآخرين، فإنَّ بعض النَّاس رُبَّما يستعجل في الإنكار على الشَّيء، ثُمَّ يتبيَّن له أنَّه حقٌّ فيكون استعجاله غير صحيح، وهذا مما يوقعه في الحرج وقد حصل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه أن استعجل مرَّةً ثم تبيَّن له أنَّ الحقَّ بخلاف ما أنكره، فجاء في الحديث الصَّحيح الذي رواه البخاري عن عمر أنَّه قال: (سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأها، وكان رسول الله ﷺ أقرأنيها، يقول عمر: وكدت أن أعجل عليه يعني فأقطع الصَّلاة ثُمَّ أمهلته حتى انصرف، ثُمَّ لببته بردائه فجئت به رسول الله ﷺ فقال: إني سمعت هذا يقرأ على غير ما
أقرأتنيها، قال لي: أرسله ثُمَّ قال له: اقرأ، فقرأها قال: هكذا أنزلت ثم قال لي: اقرأ فقرأت فقال: هكذا أنزلت إنَّ القرآن نزل على سبعة أحرف فاقرأ منه ما تيَّسر) رواه البخاري .
وإذا كان الله – تعالى – قد قال لنبيه – صلى الله عليه وسلم : –
(وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) وهذا في تلقي القرآن فإن التأني يكون مطلوباً من الإنسان في أمور حياته كلها .
وقد ضرب سليمان عليه السلام مثلاً رائعا في التأني والتريث والتثبت وعدم التسرع في الحكم في قصة الهدهد قال تعالى حاكيا عن سليمان لما خاطب الهدهد :(قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذبين)

ولو أننا طبقنا قاعدة (سننظر) في كل كلام يصل إلينا لصفت النفوس واستقرت الأمور ونزلت السكينة وحلت السعادة.
– قال الشاعر:
لا تعجـلن فربمـا عجل
الفتى فيما يضره
ولربما كره الفتى
أمــراً عـواقـبـه تسـره
ومما يمزق عروى الصداقة ويهدم جسور الحب بين الناس التسرع في الحكم عند سماع خبر ما ، فعليك أن تسمع من الشخص وطبق ما قاله القائل :

‏أتتْك وشايةٌ عني
تريّث قبل أن ترمي
إذا لم تستمعْ مني
فما ذنبي وما جُرْمي؟!
فصارِحني ولا تُنْصت
لواشٍ قائلٍ باسمي
تعال إلى واسألْني
أنا المُتحدّث الرّسْمي!

واعلموا أنَّه من صبر وتأنى نال ما تمنى وعاشَ طول عمره مُهنَّا
فتأنوا في أموركم وتفكيركم وأحكامكم وأحلامكم وتقييمكم للأشخاص والأفكار.
وإياكم والعَجَلة فإنما سماها أسلافنا بأم الندامة , كما في التأني السلامة.
قال الشاعر:
لا تعجلنَّ لأمرٍ أنت طالبُه
فقلَّما يُدرَكُ المطلوبَ ذو العَجلِ.
فذو التَّأنِّي مصيبٌ في مقاصدِه
وذو التَّعجلِ لا يخلو عن الزَّللِ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى