فكر

أخلاق الصفقة

د. طارق حامد

        كظاهرة اجتماعية وسلوكية في المجتمع العربي يستدعي تحليلًا متعدد الأبعاد، يرتبط بآليات التغيير في القيم وعلاقة النخب الدينية بالمال والسلطة، وفقًا للسياق الذي أشارت إليه الآية الكريمة في سورة الجمعة. {وَإِذا رَأَوا تِجارَةً أَو لَهوًا انفَضّوا إِلَيها وَتَرَكوكَ قائِمًا قُل ما عِندَ اللَّهِ خَيرٌ مِنَ اللَّهوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيرُ الرّازِقينَ} [الجمعة: 11]

نقول والله المستعان

1. مفهوم “أخلاق الصفقة” كقانون تغيير اجتماعي:
– التعريف: تشير “أخلاق الصفقة” إلى تحوُّل المبادئ والقيم الأخلاقية والدينية إلى سلع قابلة للمساومة أو التبادل المادي، حيث تُستبدَل القيم العليا (كالحق والعدل والتقوى) بقيم دونية (مثل المصلحة المادية والمنفعة الشخصية)، في إطار علاقة تبادلية بين الأفراد أو النخب ومصادر القوة (السياسية أو المالية).
-السياق القرآني: تُظهر الآية (الجمعة: 11) موقفًا نقديًّا تجاه انجذاب بعض الصحابة نحو التجارة واللهو وتركهم النبي(ﷺ)أثناء الخطبة، مما يعكس صراعًا بين القيم الروحية والانشغالات المادية، وهو ما يُحاكي واقعًا معاصرًا قد يتكرر بصور مختلفة.

2. آليات تحويل القيم العليا إلى دونية:
أ. استغلال المال كأداة ضغط:
– تُوجَّه الإغراءات المادية (من خلال التمويل أو المناصب أو الدعم الإعلامي) إلى العلماء والدعاة لتحقيق أهداف سياسية أو اقتصادية، فيتحوَّل الخطاب الديني من “مرجعية أخلاقية” إلى “أداة تبرير” لمصالح النخب.
– مثال: تبرير سياسات حكومية أو اقتصادية غير عادلة عبر فتاوى مُسَيَّسة، أو الصمت عن انتهاكات مقابل دعم مالي للمؤسسات الدينية.

ب. تحويل الدين إلى “خدمة استهلاكية”:
– تحوُّل الخطاب الديني إلى سلعة تُلبِّي رغبات الجمهور أو السلطة بدلًا من تغييرها، عبر التركيز على فتاوى تبرر الرغبات المادية (كالتساهل في قضايا الربا أو الاستهلاك المفرط)، أو توجيه الخطاب نحو طقوس فردية بعيدًا عن قضايا العدالة الاجتماعية.

ج. الخوف على المركز الاجتماعي:
– يخشى بعض العلماء فقدان نفوذهم أو مكانتهم إن خالفوا تيار السلطة أو الرأي العام، فيلجؤون إلى “التسويق الديني” الذي يُرضي الجمهور أو النخب الحاكمة، مما يُضعف استقلالية الفتوى.

3. نتائج ترسيخ “أخلاق الصفقة” في المجتمع:
– أزمة الثقة في المؤسسة الدينية: عندما يُدرك الناس تحوُّل بعض العلماء إلى “وكلاء” للسلطة أو المال، يتراجع تأثير الخطاب الديني كمرجعية أخلاقية.
– تغيير القناعات الجماعية: عبر تكرار خطاب ديني مُسيَّس، تُعاد صياغة وعي الناس لقبول ممارسات كانت مرفوضة دينيًّا (كالتطبيع مع الفساد أو التمييز الطبقي).
– تآكل القيم الروحية: تتحوَّل العبادات والشعائر إلى طقوس شكلية دون تأثير أخلاقي، بينما تُعظَّم قيم الاستهلاك والتفاخر المادي.

4. كيف يصبح العالٍم “مصرفًا دينيًّا”؟
– الوظيفة التبريرية: يُستخدَم الخطاب الديني لتبرير سياسات النخب، كإصدار فتاوى تُشرعِن قروض الربا لصالح البنوك، أو تعمل علي تمييع قضايا شرعية مستقرة وثابتة في وجدان الأمة كمسلمات مثل فرضية الحجاب أو تحريم الخمور و نسب تقسيم الميراث أو الفرائض كما عرفها القرآن أو تُهوِّن من الاحتجاجات ضد الظلم الاجتماعي.
– التوظيف الإعلامي: تحوُّل بعض العلماء إلى “نجوم إعلاميين” يتبارون في جذب الجمهور عبر فتاوى مُثيرة أو مخالفة للسائد، ليس بحثًا عن الحق، بل بحثًا عن الشهرة التي تُدرّ المال.
– التبعية للممولين: تلجأ بعض المؤسسات الدينية إلى تقديم تنازلات فقهية أو أخلاقية لضمان تدفق التبرعات من أصحاب رؤوس الأموال أو الدول.

5. موقف الإسلام من “أخلاق الصفقة”:
– النقد القرآني الصريح: تُعتبر الآية المذكورة (وإذا رأوا تجارة أو لهوًا…) تحذيرًا من انقلاب الأولويات، حيث يُفضِّل البعض اللهو والتجارة على التزام القيم العليا، وهو ما ينتج مجتمعًا ضعيف الروابط الأخلاقية.
– التأكيد على الاستقلالية: ذمَّ القرآن انحراف العلماء عن الحق طمعًا في المال أو الجاه، كما في قوله تعالى: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا﴾* (البقرة: 41)، وقوله: *﴿اتَّبِعُوا مَن لَّا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا} (يس: 21).
– المساءلة الأخلاقية: يحمِّل الإسلام العلماء مسؤولية عظيمة، كما في الحديث: *«من أُفتي بغير علم كان إثمه على من أفتاه»* (أبو داود)، مما يجعل بيْع الفتوى بالمال خيانة للدين والأمة.

6. الحلول المقترحة لمواجهة الظاهرة:
– استعادة استقلالية العلم الشرعي: بفصل المؤسسات الدينية عن تمويل النخب السياسية أو التجارية، ودعمها عبر وقفيات شعبية خالية من الشروط.
-تربية الضمير الديني: تعزيز ثقافة النقد الذاتي لدى العلماء، وتذكيرهم بسير السلف الذين فضَّلوا الفقر على مداهنة السلطة.
– تمكين المجتمع المدني: عبر مؤسسات رقابية مستقلة تُقيِّم أداء النخب الدينية وتكشف التناقضات بين أقوالهم ومصادر تمويلهم.
– إحياء الفقه المقاصدي: التركيز على مقاصد الشريعة العليا (كالحفاظ على العدل والكرامة) بدلًا من الفتاوى الفردية المُجتزأة.

الخاتمة:
ظاهرة “أخلاق الصفقة” ليست جديدة، لكنها تتجدد بأشكال تتناسب مع طبيعة العصر، وهي تُذكِّر بضرورة التمسك بالمنهج النبوي في التعامل مع المال والسلطة، حيث كان النبي(ﷺ) يقول: {(تعِسَ عبد الدينار وعبد الدرهم)[صحيح البخاري]}، محذرًا من جعل المال غاية تُضحَّى من أجلها المبادئ. فبقدر ما تكون النخب الدينية حارسة للقيم، يكون المجتمع منيعًا ضد اختراق الماديِّين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى