فكر

الحقائق الجلية في نتائج وآثار الحروب الصليبية

إعداد: د..طارق محمد حامد

توطئة
يوم في 11 أيلول / سبتمبر 2001، وفي هجوم غير وجه العالم إلى الأبد، دمر متشدّدون إسلاميون مركز التجارة الدولي في نيويورك، وتسبّبوا بانهيار جناح في مبنى البنتاغون مقر وزارة الدفاع الأميركية. وقد شرح الرئيس جورج دبليو بوش، وهو يعد العدة لإطلاق حملة جديدة ضد الإرهاب الدولي، أن ذلك لا يعني بأي حال حرباً على الإسلام. إن الرئيس يأمل في الحصول على دعم دول إسلامية كإيران ومصر وسورية فعلاً، لكن ربما كان من غير المناسب على الإطلاق أن يُسمّي إجراءه الانتقامي هذا «حملة صليبية» Crusade لأنه ما كان ليختار لفظة أدعى إلى إثارة حفيظة إن لم نقل كراهية حلفائه المحتملين من هذه اللفظة. ولكي نعي أسباب ذلك، علينا أن نفكر مجدداً في تلك الحروب الدينية التي دارت رحاها في القرون الوسطى، ذلك على الأقل لوجود إدراك يتيح لنا أن نعود بجذور النزاع الحالي إلى 25 تشرين الثاني / نوفمبر 1095 دعا البابا أوربان الثاني إلى الحملة العسكرية التي ستعرف فيما بعد بالحملة الصليبية الأولى.

نشر «الحرب المقدسة» أول ما نُشر في بريطانيا عام 1988. وقد أمضيت في الآونة الأخيرة مدة لا بأس بها في ربوع الشرق الأوسط أعمل على إخراج سلسلة من الحلقات التلفزيونية عن الصليبيين. وما أثار اهتمامي وفضولي التناظرات والتوازيات العديدة التي نلمسها ما بين تلك الحروب المقدسة القروسطية والنزاعات الراهنة في المنطقة. قد تكون الحروب الحديثة قد بدأت بروح علمانية، لكنها تكتسب على ما يظهر، زخماً دينياً متعاظماً. ومنذ ذلك الحين، وضعت كتابين آخرين حول مواضيع وثيقة الصلة بالموضوع: «القدس: مدينة واحدة ثلاث ديانات»، و «المعركة في سبيل الله».. وفيهما عملت على تطوير وتوسيع بعض الموضوعات المبحوثة في كتابي هذا إنما ما زلتُ أعتقد بأهمية أن ينظر الناس في الغرب إلى الحروب المقدسة المعاصرة على ضوء ارتباطها بالحملات الصليبية لأنها تذكرنا بزرعنا نحن، وتورّطنا نحن وتبعاتنا نحن.

لقد شهدنا منذ عام 1988 تغيرات وتحوّلات استثنائية في الشرق الأوسط ما كنتُ لأتوقع حدوث بعضها قط. فقد شُن هجومان بقيادة الغرب على نظام صدام حسين في العراق؛ وما له دلالة هنا أنه ما أن أسقطت أولى القنابل على بغداد، حتى أدين الهجوم في

العالم العربي بوصفه «حرباً صليبية» جديدة.
الحرب المقدسة

إن ذكريات الحروب المقدسة القروسطية التي شنها الغرب، عادت وأنعشتها مجدداً الاضطرابات الراهنة التي تعصف بالشرق الأوسط. إن دراسة الحملات الصليبية ليست بالتأكيد فرعاً سرياً من فروع المعرفة سواء في إسرائيل أو في العالم الإسلامي. وفي المناطق التي احتلتها إسرائيل في عام 1967 ، اندلعت هبة شعبية عُرفت بـ «الانتفاضة» عام 1987. وكان قادة الانتفاضة من الأوساط العلمانية وكذلك أيديولوجيتها. لكن ظهور الجماعة «الجهادية» الإسلامية «حماس»، أضفى ولأول مرة بُعداً دينياً على المقاومة الفلسطينية. كانت الانتفاضة بمثابة حد فاصل فقد أقنعت إسحاق رابين رئيس وزراء إسرائيل، بأن السلام هو الخيار الوحيد المتاح أمامه. وأشاع توقيع اتفاقيات أوسلو عام 1993 الأمل بإيجاد حل للنزاع العربي – الإسرائيلي. غير أن اغتيال رابين على يد أصولي يهودي شاب عام 1995، أظهر أن الدين بدل أن يكون قوة مسالمة في سلاحاً فعالاً الصراع. فالمتطرفون الدينيون يُناهضون السلم مثلما فعلوا عام 1981 حين أقدم أصولي مسلم شاب على اغتيال الرئيس أنور السادات لتوقيعه «اتفاقية كامب المنطقة، يعمل في ديفيد».

وفيما أنا أدوّن هذه التوطئة الجديدة لكتابي في خريف 2001، تبدو عملية السلام في الشرق الأوسط سائرة حثيثاً نحو الفشل، ويقف الإسرائيليون والفلسطينيون فيما يظهر على شفا حرب شاملة محتملة ستكون لها عواقب كارثية حتماً.

إن القادة على الجانبين علمانيون، لكنهم يواجهون معارضة مميتة محتملة من طرف المتعصبين الدينيين كلّ داخل معسكره بالذات. فانتحاريو «حماس» يعتقدون بأنهم إنما يخوضون «جهاداً» دفاعاً عن النفس وبروح صلاح الدين، التي تناولتها بالبحث المستفيض في هذا الكتاب. وعلى الجانب الإسرائيلي، تُحرِّك المستوطنين اليهود في الضفة الغربية، والعديد منهم قدموا من الولايات المتحدة الأمريكية صهيونية دينية تُذكِّرنا، لجهة التصاقها العاطفي الشديد بالأراضي المقدسة، بالروح الصليبية. والجدير بالملاحظة أيضاً، أن الأماكن المقدسة، سواء أكانت السور الغربي (حائط المبكى أوالحرم القدسي الشريف، غالباً ما تُشكّل. الأخرى نقاط اشتعال في الصراع.

فقد اندلعت انتفاضة ثانية في خريف عام 2000 عندما اقتحم الجنرال الإسرائيلي السابق أرييل شارون الحرم القدسي بصحبة بطانة ضخمة من المؤيدين اليمينيين، وعلى نحو بدا للفلسطينيين وللعالم الإسلامي بأسره اقتحاماً عدوانياً واستفزازياً. وفي صيف عام 2001،

أقدم الفلسطينيون على رشق المصلين الإسرائيليين عند السور الغربي (حائط المبكى)بالحجارة، بعدما حاول أصولي يهودي وضع حجر الأساس للهيكل اليهودي الثالث ليحلتوطئة 11

من قبل أن يصل الصليبيون إلى القدس في تموز / يوليو 1099 ويذبحوا بوحشية وهمجية قرابة 40 ألفاً من سكانها اليهود والمسلمين، كان المسيحيون والمسلمون يعيشون معاً في انسجام وتألف نسبيين في ظل الحكم الإسلامي لمدة 460 سنة، أي لنصف الفية تقريباً. وقد فتح صلاح الدين مدينة القدس ثانية وأعادها إلى حظيرة الإسلام عام 1187ء إلا أن العلاقات بين الديانات الإبراهيمة الثلاث في المدينة لم تعد إلى سابق عهدها . قط الطيبة والوئام. ومنذ ذلك الحين فصاعداً، دأب أبناء كل ديانة من هذه الديانات الثلاث ينظر إلى الآخرين بحذر وارتياب تنتابهم باستمرار الخشية من أن تتعرض مزاراتهم أو منازلهم للاعتداء أو للمصادرة . لقد تسبب الصليبيون بإحداث تبدّل مأساوي هائل في القدس، حيث التعايش الذي ساد ذات يوم، يبدو الآن أشبه ما يكون بالحلم المستحيل محل المزارات والمعابد الإسلامية القائمة ضمن الحرم ثالث أقدس موقع عند المسلمين أجمعين.

كثيراً ما يُخيّل إلينا أننا قد هجرنا إلى الأبد، في عالمنا العلمي والعلماني السائد حماسات وعصبيات دينية غابرة، من قبيل التعلّق الشديد بالفضاء المقدس. لكن يبدو أن الولع الملتهب بالأماكن المقدسة ما زال بوسعه أن يحمل الناس على ممارسة العدوان والعنف، تماماً مثلما كان يفعل فيهم زمن الحملات الصليبية.

كذلك كانت الحملات الصليبية حدثاً فاصلاً في الغرب أيضاً. فقد جعلت من كراهية اليهود داء لا دواء له في أوروبا. وسيُنظر منذئذ إلى الإسلام على أنه العدو اللدود للحضارة الغربية وما من شك في أن هذه التحاملات الغربية على الإسلام قد لعبت وما زالت تلعب دوراً لا يُستهان به في النزاع الحالي، وهي برحت تؤثر في الطريقة التي يرى فيها الغربيون الشرق الأوسط اليوم، وبأشكال غاية في التعقيد. ما هي الحرب المقدسة»، الذي بين أيديكم، حاولت أن أبين أن الحملات الصليبية لم تكن مجرد حركة هامشية في العصور الوسطى، بل كانت حركة محورية بالنسبة للهوية الغربية التي كانت قيد التبلور في ذلك الحين، وهي ما فتئت مستمرة إلى يومنا هذا، ناهيك عن أنها أظهرت الدين في أشنع صوره

بعد صدور كتابي الحرب المقدسة هذا استبد بي الغم الشديد لما أراه من نزاع وتطاحن بين الديانات الإبراهيمية الثلاث، حتى إنني قررت الشروع فوراً في إجراء الأبحاث التمهيدية اللازمة لكتابي الآخر: تاريخ الأديان السماوية A History of God. كنت أود أن أعرض للمثل العليا والرؤى القوية والإيجابية التي يتشارك فيها اليهود والمسيحيون والمسلمون. لقد انصرمت الآن ما يربو على ألف سنة منذ أن دعا البابا أوربان الثاني إلى12 الحرب المقدسة

الحملة الصليبية الأولى عام 1095. بيد أن مشاعر الريبة والضغينة التي أطلقتها تلك الحملة من عقالها ما فتئت تعتمل في النفوس وبأصداء مدوّية، ربما لم تكن أشدّ دويّاً منها في 11 أيلول / سبتمبر 2001، والأيام المروّعة التي تلته إنه لأمر مفجع حقاً أن تتواصل حروبنا المقدسة. لكن لهذا السبب، ولهذا السبب بالذات، يتعين علينا أن نسعى جاهدين إلى تفاهم متبادل فيما بيننا، وإلى ما دعوته أنا على متن هذه الصفحات بـ «الرؤية الثلاثية».

مقدمة:

احتدم الصراع بين المسلمين والنصارى أو بين الشرق والغرب بشكل جلي إبان الحروب الصليبية ، التي أطلق عليها المؤرخون المسلمون اسم الحملات الصليبية، وهذا الإسم: الحملات الصليبية على المشرق الإسلامي في العصور الوسطى عنوانا مناسبا لهذا الإحتلال الصليبي لبلاد الإسلام في المشرق العربي ، بينما يدعوها المؤرخون الغربيون (الحركة الصليبية أو الدينية ) . وهي في واقع الأمر لا تعدو كونها شكلا من أشكال الاستعمار البغيض آنذاك اتبعت فيه القوة والغزو العسكري، وامتدت زهاء قرنين من الزمان وأنتجت موجات من الكراهية والعنف والعدوان والخراب، سادت العلاقات الدولية طوال القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين حيث بدأت الحروب الصليبية في ربيع الثاني من سنة ٤٩١ هـ مارس من سنة ١٠٩٨م، وانتهت في شعبان من سنة ٦٩٠ هـ. أغسطس من سنة ١٢٩١م ، وتزامن خلال هذه الفترة أيضاً الاجتياح المغولي على العالم الإسلامي الذي أجهز على البقية الباقية واسقط الخلافة العباسية في بغداد سنة ٦٥٦ هـ ١٢٥٨ م؛ بل ولم تنته تلك الحروب ) الحملات الصليبية ( بخروج الصليبيين من بلاد الشام أو انحسار المد المغولي عنها وإنما استمرت على نحو منقطع طيلة قرنين آخرين من الزمان، حتى توقفت نهائياً بسقوط القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية على يد القائد التركي المسلم السلطان محمد الفاتح وبوفاة آخر البابوات المتحمسين لهذه الحرب الدينية في الغرب سنة ١٤٦٤م.
المقصود بالحملات الصليبية:
هي الحملات العسكريّة التي انطلقت من أوروبّا إلى بلاد المسلمين، بحُجّة تخليصها من المسلمين وتكفيرًا للذنوب والخطايا، وكان أول من دعا إليها البابا أوربان، وكانت أول انطلاقة لها عام 1095 م و لكنّ السبب غير المباشر في انطلاقها هو استغلال أوروبا لخيرات بلاد المسلمين، وبلغ عدد الحملات الرئيس ثماني حملات، لكلّ حملة فكرة ودافع لها، وكان سبب تسمية هذه الحملات بالصليبية لأن جنود هذه الحملات يلبسون اللباس المطرز بالصليب، وكانت الحملة الصليبية الثانية ذات طابع خاصّ؛ إذ كانت الحملة الأولى التي يقودها بعض ملوك أوروبّا.

بواعث الحملة الصليبية ضد العالم الإسلامي.
الحملات الصليبيةنستطيع بملاحظة تاريخ أوربا قبل الحملة الصليبية، وبملاحظة طرق التحميس، وبملاحظة خط سير الحملة الأولى، والمواقف التي تمت في رحلة الذهاب إلى أرض الشام، ثم بملاحظة الأحداث التي رأيناها أثناء الحروب الفعلية في آسيا الصغرى والشام وفلسطين، نستطيع بملاحظة كل هذه الأمور أن نحدِّد البواعث التي دفعت هذه الجموع المختلفة أن تجتمع للخروج في الحملات الصليبية.

بواعث الحملة الصليبية

وهذه البواعث تضم ما يلي:

أولاً: الباعث الديني

وهذا الباعث يشكِّل أحد الدعامات الرئيسية لهذه الحملة، وإن لم يكن كما ذكرنا الدافع الوحيد، ونحن نعلم من القرآن الكريم، وكذلك من السُّنَّة المطهرة أن الحرب أبدية بين الإسلام ومن يرفضه، ولن يقنع الكثير من الناس بالتعايش السلمي مع الإسلام حتى لو مدَّ الإسلام يده بالتصافح والتحابِّ؛ لذلك فليس مستغربًا أن يسعى البابا أوربان الثاني لحرب المسلمين حتى دون وجود مبررات معينة تدفع لهذه الحرب، فهم مسلمون وهذا في حدِّ ذاته يكفي أن يكون سببًا في حربهم. وقد تكررت في كلماته ألفاظ توحي بعدم اعترافه بالإسلام أصلاً، كإطلاق لفظ الكفار أو الوثنيين على المسلمين، وعلى ذلك فالدافع الديني واضح عند البابا، ولا شك أنه واضح أيضًا عند بعض القساوسة والرهبان، كما أنه واضح أيضًا عند بعض الأمراء والقوَّاد.

وفوق كل ذلك فالهدف الديني هو الهدف المعلن للحملة، وإنقاذ الدولة البيزنطية من المسلمين كان السبب المتداول بين الناس، إضافةً إلى ادِّعاء البابا أن المسلمين يضطهدون الحجاج المسيحيين، وإن كان واضحًا أن هذا الادِّعاء ما ذكر إلا للاستهلاك المحلي في أوربا فقط، ولتحميس الجيوش والشعوب النصرانية؛ لأنه لم يثبت أبدًا أن المسلمين اضطهدوا الحجاج النصارى، وقد ذكر أحد كبار المؤرخين الأوربيين وهو غيورغي فاسيلييف أن المسيحيين بوجه عام تمتعوا بقسط وافر من الحرية الدينية وغير الدينية في ظل الحكم الإسلامي، فلم يسمح لهم فقط بالاحتفاظ بكنائسهم القديمة، وإنما سمح لهم أيضًا بتشييد كنائس وأديرة جديدة، جمعوا في مكتباتها كتبًا دينية متنوعة في اللاهوت. ويقول تومبسون -وهو مؤرخ-: “إن المسيحيين الذين خضعوا لحكم السلاجقة صاروا أسعد حالاً من إخوانهم الذين عاشوا في قلب الإمبراطورية البيزنطية ذاتها”.

بل إن كلام بطريرك القدس ثيودسيوس شخصيًّا في إحدى رسائله إلى بطريرك القسطنطينية سنة (255هـ) 869م امتدح المسلمين، وأثنى على قلوبهم الرحيمة، وتسامحهم المطلق، حتى إنهم سمحوا للمسيحيين ببناء مزيد من الكنائس دون أي تدخل في شئونهم الخاصة، وقد ذكر بطريرك القدس في رسالة حقيقية مهمة حين قال: “إن المسلمين قوم عادلون، ونحن لا نلقى منهم أي أذى أو تعنت”.

هذه الكلمات والشهادات وغيرها تثبت -بما لا يدع مجالاً للشك- أن كلام البابا أوربان الثاني عن اضطهاد المسلمين للحجاج المسيحيين ما هو إلا فِرْية لا أصل لها، وتغطية مكشوفة على الدوافع الحقيقية وراء هذه الحملة العنيفة.

وفوق هذا فإننا لم نَرَ في سلوك المحاربين في هذه المعارك -سواء في رحلتهم إلى بيت المقدس أو في أثناء حروبهم- أيَّ علامات للزهد أو الورع الذي يتصف به المتدينون، بل كانوا في غاية السفاهة والحمق، وبلغوا الذروة في الشر والإجرام، بل إنهم لم يتصفوا بذلك فقط عند تعاملهم مع المسلمين، بل كذلك عند تعاملهم مع النصارى الشرقيين، وسنرى طرفًا من هذا السلوك المقيت في أكثر من موضع من مواضع هذه القصة، سواء مع نصارى المجر والنمسا وبلغاريا أو مع نصارى القسطنطينية ذاتها، التي زعموا أنهم جاءوا لإنقاذها.
إذن كان الباعث الديني موجودًا، ولكنه ليس هو الدافع الوحيد، بل لا ينبغي أن يُضخَّم كثيرًا؛ فعموم الحملة الصليبية لم يكن يعنيهم الدين لا من قريب ولا من بعيد، وإن كانوا جميعًا يضعون شارة الصليب على أكتافهم، ويدَّعون أنهم يريدون المغفرة!!

ثانيًا: الباعث الاقتصادي

وهذا الباعث أيضًا من أهم البواعث في هذه الحملة الصليبية، فالجموع الهائلة من العامة خرجت لإحباطها التام من الحصول على أي قسط من رغد الحياة في أوربا، فخرجوا يبحثون عنها في فلسطين، وهم لن يخسروا شيئًا، فحتى الموت أفضل من حالتهم البائسة تحت نير الإقطاعيين والملوك.

والأمراء الإقطاعيون ما خرجوا إلا بغية الثراء والتملك، وقد كانت الحرب في فلسطين فرصة للكثيرين من أمراء أوربا لتحقيق طموحات استحال عليهم تحقيقها في أوربا؛ لأن القانون الأوربي آنذاك كان يمنع تقسيم الميراث على كل الأبناء، بل كانت تنتقل الإقطاعية بكاملها إلى الابن الأكبر بعد وفاة الأب الأمير، وذلك حتى لا تتفتت الثروة وتقلُّ الأرض، وبالتالي تسقط الهيبة والكلمة. وهذا الوضع خلق جيلاً من الأمراء لا أمل عندهم في التملُّك، فلما فتحت أمامهم أبواب الحرب في فلسطين سارعوا جميعًا للحصول على أي ملكية؛ لينافسوا بذلك إخوانهم الكبار.

وكان هذا الباعث الاقتصادي واضحًا أيضًا عند تجَّار الموانئ الإيطالية، وأشهرها البندقية وبيزا وجنوة، وكذلك تجَّار مرسيليا الفرنسية، وغيرهم من تجار أوربا؛ فقد رأى هؤلاء التجار أن الفرصة لتحقيق المصالح الذاتية لهم، ولو على حساب البابوية والكنيسة، وكان تبادل المصالح واضحًا جدًّا بينهم وبين الكنيسة، فالصليبيون لن يستطيعوا الاستغناء أبدًا عن معونة الأساطيل البحرية، والتجار سوف يأخذون مقابلاً سخيًّا نظير هذه المعونة، وهذا المقابل كان عبارة عن امتيازات خاصة تُعطَى للجمهورية التي تساهم في هذه الحروب المتواصلة، ولم تكن الامتيازات تشمل فقط حرية التجارة في البلاد المفتوحة، بل كانوا يُعْطَون في كل مدينة تُفتح شارعًا وسوقًا وفندقًا به حمام ومخبزًا خاصًّا، وكان التنافس بين الجمهوريات الإيطالية في هذا المجال كبيرًا جدًّا، بل كان التصارع والتقاتل، وما لبثت مرسيليا أن سارت على نهجهم، وتنافست معهم، وأخذت امتيازات قوية في بيت المقدس ذاته.

ولا يخفى على أحد أن النوايا الدينية لم تشغل أبدًا أذهان هؤلاء التجار الجشعين، وكانت كنوز الشرق وأراضيه هي الباعث الأكبر لهم على بذل كل الجهد لإنجاح الحملة الصليبية.

ثالثًا: الباعث السياسي

وهذا الباعث الذي يهدف إلى توسيع النفوذ وقهر المنافسين، كان باعثًا رئيسيًّا عند البابا أوربان الثاني شخصيًّا، وكذلك عند ملوك أوربا، وهؤلاء الملوك لم يكن طموحهم يقف عند شيء، وكانت قوة كل ملك فيهم ترتبط بالمساحة التي يسيطر عليها، وهذا دفعهم بعد ذلك للمشاركة بقوة في الحملات الصليبية عندما شاهدوا النجاحات التي حققتها الحملة الأولى.

كما أن ملوك أوربا كانوا يرون أن الدولة البيزنطية دخلت طورًا واضحًا من أطوار الضعف، ولو سقطت فإن هذا يعني فتح الباب الشرقي لأوربا لقوات المسلمين العسكرية، سواء من السلاجقة أو من غيرهم، وهذا قد يضعهم بين فكي كماشة، أي المسلمين القادمين من الشرق والمسلمين في أرض الأندلس؛ لذلك رأينا أنه برغم التباطُؤ الذي رأيناه من الملوك في بداية الحملات إلا أنهم تسارعوا بعد ذلك للمشاركة، بل ذهب بعضهم بنفسه إلى أرض فلسطين أو مصر على قيادة جيوشه.

رابعًا: الباعث الاجتماعي

مرَّ بنا عند الحديث عن الحالة في أوربا قبيل الحروب الصليبية، الحالةُ المزرية التي كان يعيشها الفلاحون والعبيد في أوربا؛ ففضلاً عن قلة الأقوات وانعدام الطعام والشراب، كانت المعاملة في غاية السوء، ولم يكن لهم حقوق بالمرَّة، بل كانوا يباعون مع الأرض، ولا يسمح لهم بأي نوع من الملكية، والإنسان قد يصبر على الجوع أحيانًا لكن الامتهان النفسي والأذى المعنوي، قد يكون أشد ألمًا من الجوع والعطش؛ ولذلك رأى العوام الفلاحون في أوربا أن هذه فرصة لتغيير نظام حياتهم، والخروج المحتمل من قيود العبودية المذلَّة؛ ولذلك خرج الفلاحون بنسائهم وأولادهم، وحملوا معهم متاعهم القليل البسيط، لقد كان خروجًا بلا عودة، وتغييرًا كاملاً للأوضاع، وثورة حقيقية على حياة التعاسة والاستغلال؛ لذلك سنرى أثناء الأحداث أن هذه الجموع البائسة ما صبرت حتى تكتمل الجيوش وتنتظم، بل خرجت بمفردها مسرعة، وكأنها تهرب من أسرٍ طويل!

ولقد شارك هؤلاء البائسين فريقٌ آخر من المجرمين والخارجين على القانون الذين كانوا يعانون أحكامًا قضائية أو مهددين بذلك، وقد وجدوا الخروج ليس فرصة للنجاة من الأحكام وحسب، ولكنه فرصة أيضًا لمزاولة السلب والنهب والقتل والاغتصاب كما اعتادوا ذلك في حياتهم؛ وهذا سيعطي الحملات الصليبية صبغة إجرامية لا يمكن تجاهلها أبدًا.

كانت هذه هي البواعث التي من أجلها تحركت أوربا لغزو العالم الإسلامي، والسيطرة على أرضه ومقدراته وشعوبه.
الحملة الصليبية الثانية:
دعوة البابا للقيام بحملة صليبية جديدة ثانية
العام الهجري: 540العام الميلادي :1145
بعد أن تمكن الأتابك عماد الدين زنكي من انتزاع الرها من يد الصليبيين قام ملك القدس بتوجيه رسالة استغاثة إلى البابا أوجين الثالث، فكان لها الأثر القوي في الأوساط البابوية، فقرر البابا تأليف حملة صليبية ثانية، وكلف القديس برنارد كليرفو بالدعوة لهذه الحملة، فقام بعقد عدة مؤتمرات في مدن فرنسا وألمانيا يدعو فيها لحملة صليبية جديدة، فأثار حماس الناس فأقبلوا للتطوع في الحملة، ومنهم تألفت الحملة الصليبية الثانية.

و هي الحملة الرئيسة الثانية التي خرجت من أوروبّا إلى بلاد المسلمين عام 1146، بعد خمسين عامًا من انطلاق الحملة الصليبية الأولى التي تعدّ الحملة الوحيدة التي حقّقت بعض النجاح لأنّها باغتت المسلمين، ردًّا على سقوط مملكة الرها الأولى منذ بداية الحملات الصليبية تأسيسًا والأولى سقوطًا، والذي دعا إلى الحملة الصليبية الثانية هو البابا إيجين الثالث، وقاد الحملةَ الملك الفرنسي لويس السابع والملك الألماني كونراد الثالث، وقد شاركت فيها فرنسا وألمانيا، وتحركت الحملة الألمانية وهي تواصل النهب والقتل للمسلمين واليهود، حتى وصلت جبال طوروس فأجهز الجيش السلجوقي على تسعة أعشار الحملة، أما الجانب الفرنسي من الحملة الصليبية الثانية فكان أكثر انضباطًا، وقد اضطهدت كلّ من مرّت به، بما في ذلك بعض مسيحيّي أوروبا.

الحملة الصليبية الثانية ( 542 ـــ 544 هــ / 1147 ــ 1149م )

عندما أطلق البابا (أوربان الثاني) شرارة الحملات الصليبية في مجمع كليرمونت سنة 485 هـ, وجد اعداء الإسلام في ذلك فرصة سانحة لتفريغ مخزون الحقد والكراهية الهائل في قلوبهم ضد الإسلام والمسلمين, وكانت أولى الحملات الصليبية سنة 490 هـ,/1095م واستمرت مدة سنتين, وأسفرت عن سقوط بيت المقدس في 22 شعبان سنة 492هـ, بعد مذبحة مروعة راح ضحيتها سبعون ألف مسلم بين رجل, وامرأة, وشيخ, وطفل, وقد انتهت تلك الحملة بتكوين أربع إمارات صليبية في الشام: وهي إمارة الرها, وإمارة طرابلس, وإمارة أنطاكيا, وإمارة بيت المقدس, وبذلك ثبت الصليبيون أقدامهم بالشام, ولم يكن هناك من يصدهم عن غيهم, وذلك لانتشار العقائد الفاسدة بالشام: مثل الرفض, والتصوف, بسبب حكم الدولة الفاطمية الخبيثة لتلك البلاد سنوات طويلة, مما روج لعقيدة التشييع والرفض, وقد سهل ذلك على الصليبين مهمتهم, لأن العقيدة هي السد المنيع, وقاعدة دفاعات المؤمنين الحصينة.
ظل الوضع هكذا, وكان الصليبيون في استقرار وتمكن من البلاد – خاصة بعد تحقق هدفهم الأغلى وهو بيت المقدس – حتى قيض الله – عز وجل – للأمة الإسلامية من يجدد لها ما اندرس لها من أمر دينها خاصة جهاد الكافرين, وظهر القائد الكبير ( عماد الدين زنكي ): وكان رجلاً فذا ذا همة عالية, وغاية سامقة, عمل على توحيد الشام والجزيرة لتكوين جبهة واحدة قوية أمام العدو الصليبي, وتفرغ بعدها لقتال الصليبين, وأعاد بعدها لحظيرة الإسلام الكثير من الحصون والمدن, وحررها من قبضة الصليبين, وتوج أعماله الجهادية العظيمة بتحرير مدينة الرها سنة 539هـ, وأزال بذلك أول إمارة صليبية أنشئت بالشام, وكانت الأيدي الآثمة امتدت لتغتال الحلم الإسلامي بتحرير البلاد المحتلة, وقتل عماد الدين زنكي أثناء حصاره لقلعة جعبر, وكانت قلعة لإيواء اللصوص وقطاع الطرق, وعندها تنفس الصليبيون الصعداء, وظنوا أن الجو قد خلا لهم, وأن غياب الأسد سيجعل ميدان القتال أوسع وأرحب, ولكنهم غفلوا عن حقيقة هامة: وهي أن الأسد قد خلف لهم من ورائه أسودا أخرى, ستحمل الراية الجهادية بعده, وبالفعل ظهر كل من نور الدين محمود وسيف الدين غازي.
عندما قتل عماد الدين زنكي فرح الصليبيون بشدة لغياب أسد الشام, وحاولوا سريعا انتهاز تلك الفرصة السانحة, وكانت أول بوادر الصحوة الصليبية العصيان الذي أعلنه نصارى مدينة الرها, وحاولوا الاتصال بالصليبين لإعادة تكوين الإمارة السابقة, ولكن الأمير المجاهد نور الدين محمود وقف لهم بالمرصاد, وعندها شعر الصليبيون أنهم لن يقووا على مجابهة نور الدين أرسلوا الى أوروبا يستصرخونهم لنصرة الصليب بالشام.
الحملة الصليبية الثانية:
كان لسقوط إمارة الرها الصليبية دوي كبير في أنحاء أوروبا عموما, وفى مقر البابوية خصوصا, وارتفع صدى هذا الدوي بعد الإستغاثات المتكررة الصادرة من نصارى الشام لإخوانهم بأوروبا, وجاءت التلبية في عام 543هـ عندما تحرك اثنان من أكبر قادة أوروبا وهما ملك ألمانيا (كنراد الثالث), وملك فرنسا (لويس السابع) , وسلك كل واحد منهما طريقا يختلف عن الآخر في شبه كماشة للإنقضاض على الشام من ناحيتين: الألماني من ناحية آسيا الصغرى, والفرنسي من ناحية القسطنطينية.
كان حظ الجيش الألماني عاثرا, فعند مدينة قونية بآسيا الصغرى هجمت قوات سلاجقة الروم المسلمة على الجيش الألماني ومزقته شر تمزيق, وشتت شمله, وفر كنراد الثالث من أرض المعركة الى مدينة نيقية؛ حيث التقى بلويس السابع وهو في غاية الذلة والمهانة, ورغم أن لويس السابع قد اختار الطريق الآمن؛ فإنه لم ينج من غارات السلاجقة المسلمين, مما اضطره لتعديل مساره آخذا طريق البحر, ثم أنطاكية, فبيت المقدس متناسيا الهدف من حملته: وهو استعادة الرها, والتفكير في هدف أكبر وأخطر.
دمشق. .. حصن الشام:
ن للفشل والهزائم المخزية التي نالتها الحملة الصليبية الثانية في بدايتها على يد السلاجقة المسلمين أثر بالغ في تغيير مسار الحملة, والتفكير في هدف آخر غير استعادة الرها يحفظ لهم ماء وجوههم وكرامتهم المهانة بسيوف المسلمين, وكان التفكير قد اتجه الى مدينة دمشق التي هي درة بلاد الشام وحاضرته وعاصمته, وحصن الشام والتي فتحها المسلمون سنة 14 هـ ومن وقتها – وحتى وقتنا الحاضر – وهي في قبضة المسلمين, وهي أيضا محلة الإسلام, وبها سينزل عيسى – عليه السلام – في آخر الزمان ليقتل الدجال, ووردت عدة أحاديث ذكر فيها اسم دمشق جمعها صاحب كتاب مصابيح السنة, وعلى الرغم من ضراوة وشدة الحملة الصليبية الأولى والتي جاء فيها مليون صليبي، إلا أنهم لم يفكروا في الهجوم على دمشق رغم أهميتها.
كان الحاكم الفعلي لمدينة دمشق رجلا اسمه “معين الدين أنر” وكان رجلا حازما داهية ولكنه كان يعادي عماد الدين زنكي ويخاف من سطوته وطموحاته نحو ضم دمشق إلى مملكته التي كانت تشكل حلب وحمص وحماة والجزيرة الفراتية والموصل ، وكان معين الدين في الأصل وزيرا لأمراء دمشق من ولد شمس الملوك بوري, ثم استبد بالأمر وأصبح هو الحاكم الفعلي لدمشق، فلما وصلته أخبار استعداد الصليبين للهجوم على دمشق جمع المقاتلين, ونظم الصفوف, ووزع السلاح على أهل البلد للدفاع عن مدينتهم, ولكنه شعر بكثرة وقوة الحملة الصليبية, فقرر الاستعانة بالأسود الجديدة: نور الدين محمود, وسيف الدين غكا
ازي ولدي البطل الراحل عماد الدين زنكي , وكان نور الدين حاكما على مدينة حلب, وأخوه سيف الدين حاكما على مدينة الموصل, وبالفعل استجابا سريعا, وكونا جيشا كبيرا يقدر بسبعين ألف – هذا غير المتطوعين – وأرسل نور الدين محمود الى معين الدين أنر حاكم دمشق يقول له: ” قد حضرت ومعي كل من يحمل السلاح من بلادي؛ فأريد أن يكون نوابي بمدينة دمشق لأحضر والقى الفرنج؛ فإن انهزمت دخلت أنا وعسكري البلد واحتمينا, وإن ظفرنا فالبلد لكم لا أنازعكم فيه “.
أزعجت هذه الرسالة معين الدين انر حاكم دمشق, وخاف من قدوم نور الدين لدمشق, وذلك لميل الناس والمسلمين إليه؛ خاصة وأن معين الدين هذا لم يكن أصلا من الأسر الحاكمة, بل تغلب على البلد, وكان رجلا طماعا مؤثرا لمنصبه وكرسيه على مصالح الأمة, وتلك الصفات دعته ليقدم على خطوة في غاية السوء؛ حيث قام بإغلاق أبواب المدينة أمام الجيوش المسلمة التي جاءت أصلا للدفاع عن المدينة, ثم قام باستغلال قدوم المسلمين لنصرته أسوأ استغلال, حيث استخدم الجيوش كسكين تهديد وارهاب للصليبين؛ فأرسل لملك الألمان يقول له: ” ملك الشرق – يقصد نور الدين – قد حضر لنصرة أهل دمشق؛ فإن رحلتم عنا وإلا سلمت البلد له, وحينئذ تندمون “.
معركة دمشق العظيمة:
لم يكن هذا التهديد ليخيف حملة صليبية كبيرة مثل هذه الحملة, خاصة وأن الذي يقودها ملك من أكبر ملوك أوروبا, وبها من الغيظ والحقد على المسلمين ما لا يعلمه إلا الله – عزوجل -, وذلك بعد الضربات الموجهة عند آسيا الصغرى على يد السلاجقة المسلمين, ولكنهم ترددوا في مواصلة على دمشق خوفا من نور الدين, وأخيه سيف الدين, وهنا قام قسيس فرنسي عظيم القدر عند لويس السابع – اسمه إلياس – بافتراء منام كاذب على النبي عيسى – عليه السلام – يعده فيه بالظفر على المسلمين بفتح دمشق, وإعادتها لحكم الصليبين كما كانت أيام هرقل قائد الروم الأشهر, وعندها حميت نفوس الصليبين, وقويت عزائمهم على مواصلة الحملة.
تقدمت الحملة الجرارة حتى نزلت بالميدان الأخضر على بعد نصف فرسخ من دمشق, وخاف الناس خوفا عظيما, وأخرجوا مصحف عثمان وسط صحن الجامع الأموي, واجتمعوا حوله يدعون ويتضرعون, ويبكون طالبين النصر والعون من الله – عز وجل -, وخرج للقائهم مائة وثلاثون ألف مقاتل, وذلك يوم 6 ربيع أول سنة 543 هـ, وكان ممن خرج لجهاد الصليبين العالم الكبير حجة الدين يوسف بن ذي باس الفندلاوي شيخ المالكية بالشام, وكان في التسعين من عمره, فلما رآه معين الدين أنر قال له: ” يا شيخ إنك معذور لكبر سنك “, وطلب منه العودة؛ فقال له حجة الدين: ” قد بعت واشترى مني؛ فوالله لا أقلته ولا استقلته “. يقصد قوله عزوجل: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة) التوبة: 111
ثم تقدم فقاتل حتى سقط شهيدا في هذه المعركة الرهيبة الطاحنة, التي صمد فيها أهل دمشق صمودا عجيبا, واستماتوا في الدفاع عن مدينتهم.
وجد معين الدين نفسه في مأزق خطير, ففتح أبواب المدينة, وطلب المساعدة الفورية من أسد الدين, ونور الدين, فأقبلا كالليوث الغاضبة؛ فلما رأى الصليبيون قدوم المسلمين, وعلموا أن الدائرة ستدور عليهم حاولوا الفرار من ميدان دمشق, فأدركتهم الأسود الهادرة, وأعملت أنيابها الحادة في أجساد الغزاة الكافرين, وقتل منهم الكثيرون بعدما كادت الحملة أن تنجح في هدفها وتحتل دمشق, وعاد ملك الألمان وكذا ملك الفرنسيين كلاهما يجر أذيال الخيبة, وقد تجللا بالعار والفضيحة من هول ما لاقوه من هزائم في أول الحملة وفي آخرها: (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ).

نتائج الحملة الصليبية الثانية:
النتائج التي أسفرت عنها الحملة الصليبية الثانية هي:
فشل الحملة وهزيمة الصليبيين.
لقد اسفرت الحملة الصليبية الثانية عن هزيمة الجيوش الصليبية, في اكثر من مناسبة, حيث أن الجيوش الصليبية التي قامت بالحملة الصليبية الثانية , كانت كلا من جيوش الملك لويس السابع ملك فرنسا , و الملك كونراد الثالث ملك المانيا , قد قررت كلا منها ان تسير علي حده , عقب المرور من الدوله البيزنطية , قامت جيوش السلاجقة المسلمين بهزيمتهم , كما وقد قاموا بالفرار من جيوش السلاجقة بما تبقي معهم من جنود , و قرروا الهجوم علي دمشق واحتلالها لاعداد العدة مرة أخري في دمشق لدخول بيت المقدس, إلا أن الهزيمة كانت حليفتهم في دمشق ايضا .
كما ونتج عن الحملة الصليبية الثانية, توجه أنظار الصليبيين نحو مصر و التقدم اليها
انتصار المسلمين بقيادة نور الدين زنكي على الصليبيين.
الوحدة بين بلاد الشام ومصر لمواجهة الخطر الصليبي على البلاد الإسلامية.
انتصار الصليبيين في شبة جزيرة أيبيريا وبلاد الأندلس.
الفشل في استعادة إمارة الرها.
توقيع معاهدة سلام بين السلاجقة والبيزنطيين.
انهيار حكم المرابطين وصعود الموحدين للحكم.

نتائج الحروب الصليبية عموما:
لقد أثبت الواقع أن الحملات الصليبية لم تفلح عسكرياً رغم مكوثها هذه الفترة الطويلة بين ظهراني المسلمين، فهي لم تفلح عقائدياً أيضاً في تشكيك المسلمين برسالتهم، بل زادتهم تمسكاً بدينهم، حينما انتشر والوعي وقضي على الجهل وأدى في النهاية إلى خروج الصليبيين من أراضي المسلمين دون الفوز بما قدموا من اجله ومع هذا فلا يغفل تأثير الحملات الصليبية على المجتمع المسلم، فقد زاد عدد

الكنائس، وبالتالي زاد عدد المنصرين. ثم جاءت المرحلة التالية بعد ذلك، وهي مرحلة الحملات الصليبية المقنعة بالاستعمار الحديث كما يسمى حيث قدمت أوروبا على العالم الإسلامي وقطعته، ومزقته إرباً، وسيطرت عليه. بعد أن عاد الصليبيون بثوب مغاير عن طريق المستعمر: والذي قام بتسخير إمكانات العالم الإسلامي لخدمة اهدافه والذي سبق إليه بغزو جيوشه اللغوية في القرن السابع عشر والثامن عشر الميلاديين ، حيث تركزت هذه الجيوش في المناطق الخصبة لنموها من حيث سعة الانتشار والأبعاد السياسية، أنت جيوش اللغة إلى مصر والشام على وجه الخصوص في شكل إرساليات علمية، اتخذت صورا كثيرة منها المدارس العلمية والمعاهد الفكرية، ومنها الكنائس والأديرة والمصحات وغيرها.

ونعود لنقول: إننا نشتم رائحة الصليبية الفائحة في هذه الحملات الجديدة، فعندما وقف الجنرال القائد الصليبي اللنبي الإنجليزي على جبل الزيتون في القدس وقال: الآن انتهت الحروب الصليبية . وعندما دخل الجنرال الفرنسي فورو إلى دمشق، وسال عن قبر صلاح الدين ، ثم ذهب إليه وركله بقدمه وقال: قم يا صلاح الدينها قد عاد الصليبيون من جديد وقد كان معه المخططات التي هدفت إلى نشر الحضارة الغربية كما تسمى وإبعاد المسلمين عن دينهم، وإقصائهم عن حقيقته، وتزويد هذه الأمة الإسلامية بهذه الحضارة الغربية، ولا يخفى على أحد مؤامرات “كرومر ، ودلو “، وغيرهما ممن لايخفى ذكرهم ولا مجال للاطالة والإفاضة فيه. لقد سعى المستعمر الصليبي جاهدا إلى خلخلة بلاد المسلمين سنوات طويلة، وقد بذل في هذه السنوات من الجهود الجبارة لحرب الإسلام والمسلمين ، ما يعجز القلم عن تحبيره في مثل هذه العجالة، ومن يدقق الطرف ويجيل النظر في تاريخ الاستعمار الحديث لبلادنا يعلم أن هدف المستعمرين محاربة الإسلام وتمزيق وحدة الأمة الإسلامية.

ويسرف في الخطأ من يعتقد أن عداوة الغرب وسائر أعداء الإسلام ، وحروبهم ضدنا ستتوقف إذا وجدت الأمم المتحدة حلاً لقضية فلسطين أو العراق أو أفغانستان أو الصومال أو غيرها، ولا يُزَالُونَ بِمَا تَلُونَكُمْ حتى يردُّوكُمْ عَن دينكم إن استطاعوا به الفر1999) إن الحرب المقدسة مع الاستعمار اليوم تقتضي تخليص ضمائر الشعوب اولا من الاستعمار الروحي والفكري، وتحطيم الاجهزة التي تقوم بعملية التخدير، والحذر من كل لسان ومن كل قلم ، ومن كل جمعية أو جماعة تهادن معسكراً من معسكرات الاستعمار التي ترتبط جميعها بمصلحة واحدة، ومبادئ واحدة. مبادئ العالم الغربي القائم على التعالي على الآخر ! لقد لمسنا في تاريخنا المعاصر إن الروح الإسلامية باقية وإن ظنوا أنها قد أخمدت عندما هدمت الخلافة، ومزق الاستعمار أراضينا إلى دول شتى، ومخطط الاستعمار الغربي ينفذ اليوم على أيدي العلمانيين والمجرمين الذين يروجون لفكر المستعمر الصليبي . واليوم يريد النصارى ان ينسى المسلمون الحروب الصليبية حتى تزول الحواجز النفسية التي يظنون أنها هي التي تحول بينهم وبيننا، ومن أجل ذلك انطلقت من أوروبا. مسيرة مصالحة نصرانية للاعتذار للمسلمين عن الحملات الصليبية، وقد بدأت هذه المسيرة عام ١٩٩٦م في فرنسا ، ثم تبعها في المانيا حوالي ١٠٠٠ شخص عام ۱۹۹۷م معظمهم من سلالة الصليبين، وقد زارت هذه المسيرة تركيا ولبنان والتقت ببعض المسؤولين وببعض المارة وقدم لهم بعض الهدايا مع اعتذار شفهي عن جرائم اجدادهم الصليبيين الذين غزوا المنطقة قبل تسعمائة سنة وارتكبوا فيها المجازر والحقوا بالبلاد الدمار.
لكن أحداث الحادي عشر من سبتمبر والتي لا تزال اسبابها غامضة حتى الساعة اعاد الغرب سياسته الخاطئة وراح يتحالف على الإسلام والمسلمين، ويلصق بهم الإرهاب، ليحتل بعد ذلك بلدين عزيزين هما (افغانستان والعراق ) في خطوة اعلن فيها الرئيس الأمريكي بأنها حرب صليبية ؟! . هناك مصادر متعددة تتحدث عن بوش المتدين ، حتى إن النيوزويك الأمريكية (۲۰۰۳/۳/۱۱) خصصت عدداً بعنوان بوش والرب. فبوش يتمتع بالسمات الشخصية التالية، التي تجعل من المقبول الاعتقاد بان حملاته “صليبية”. – بوش كما وصفه ديفيد فرام يحكم بعقيدته الدينية، وهو أكثر تقليدية بطريقة تفكيره”. ووصف إدارته بـ “نظام عسكري” و ثقافة التنصير – بوش أعمته معتقداته الدينية عن رؤية العالم المحيط به أو قراءة أحداثه بصورة متوازنة”، وقد قال لمستمعيه مرة: “إن وجد أمريكي في العمر الولايات المتحدة مدعوة إلى إيصال هدية الحرية التي منحها الرب لكل إنسان على وجه المعمورة (نيوزويك (۲۰۰۳/۳/۱۱). – بوش أخذ بالحمية الدينية” كما وصفه الكاتب النيجيري وول سوينكا .
نتائج الحروب الصليبية على العالمين العربي والإسلامي.

النتيجة الأولى والأهم على الإطلاق فى تصورى هى انه قد تم اختبارنا فى ملكيتنا لهذه الارض واختصاصنا بها دونا عن باقى شعوب الارض، بعد ان نجحنا فى تحريرها واسترداد كل الاراضى والمدن التى تم احتلالها بعدما يقرب من مائتى عاما من القتال والمقاومة. ليثبت ويتأكد لدى الغرب الأوروبى ولكل أمم العالم، ان هذه الأرض هى ارض عربية، وأن هناك بالفعل أمة عربية وليدة ومكتملة التكوين قد خرجت للوجود منذ الفتوحات الاسلامية، أمة لم يعد من الممكن افنائها أو اندثارها أو انتزاع أوطانها او طرد شعوبها، على غرار ما حدث لعديد من الاقوام والجماعات والقبائل والشعوب التى كانت تعيش فى هذه المنطقة فى العصور القديمة ولكنها اندثرت او انصهرت فى كيانات أكبر، كالفراعنة والفينيقيين والأموريين والكنعانيين والعبرانيين والبابليين والآشوريين وغيرهم.

النتيجة الثانية هى ثبوت وترسخ حقيقية تاريخية واستراتيجية وجيوسياسية لا تزال تعيش معنا حتى اليوم وهي أن الاطماع الاستعمارية الأوروبية فى بلادنا، التى لم تتوقف منذ الاسكندر الاكبر والرومان والبيزنطيين، مرورا بالحروب الصليبية وانتهاءا بالحملة الاستعمارية الثالثة على الامة 1798-2021، هى عقيدة غربية ثابتة وليست سياسات طارئة أو متغيرة، خاصة بعد ان أصبح الغرب هو معقل الامبريالية العالمية.

النتيجة الثالثة هي اكتشاف وادراك المكانة الخاصة التى أصبحت تمثلها مصر فى الدفاع عن الأمة العربية، حيث كانت هى الصخرة الرئيسية التى تكسرت عليها الحملات الصليبية وحالت دون توسع المشروع الصليبيى او بقاءه. وهى الحقيقة الجديدة التى أدركها العرب والمسلمون كما أدركها الغرب، وتم تسجيلها فى أرشيفه وذاكرته الاستعمارية التاريخية. ولذلك حين أراد نابليون بعد خمسة قرون من هزيمة الصليبيين، ان يخترق الشرق لضرب المصالح البريطانية فى الهند، فانه اختار ان يبدأ بمصر فى حملته الشهيرة 1798 ـ 1801. وهو ما تكرر بضرب دولة محمد على الوليدة للحيلولة دون وراثتها لمكانة الدولة العثمانية المريضة واجباره على توقيع معاهدة لندن 1840 التى قامت بعزل مصر عربيا واسلاميا، ثم تكرر مرة ثالثة بعد الحرب العالمية الثانية حين أراد قادة الاستعمار الغربى تثبيت الكيان الصهيونى فى فلسطين فوجهوا ضرباتهم الرئيسية والمتتالية الى مصر فى 1956 و1958 و1967، ثم استماتوا بعد حرب 1973 لانتزاعها من محيطها العربى باتفاقيات كامب ديفيد عام 1978. وهو ما نجحوا فيه بجدارة الى حين.

النتيجة الرابعة كانت هى التراجع الكبير للمذهب الشيعى لصالح المذهب السنى، الذى استرد مكانته وريادته وانتشاره فى مصر والمنطقة كلها بسبب اقترانه بقيادة حروب التحرير ضد الحملات الصليبية، التى عجزت عن صدها الدولة الفاطمية، بل سقط حكامها فى التواطؤ مع الصليبيين، وهو درس تاريخى هام، لا يجب أن يغيب عن الحكام والمفكرين والسياسيين وصناع القرار من العرب والمسلمين فى زمننا المعاصر.

النتيجة الخامسة بالغة الأهمية هى ان الانتصارات الكبرى التى حققها العرب والمسلمون على المشروع الصليبى الذى استمر لما يقرب من مائتى عاما، أصبحت مصدرا عظيما ومستمرا لالهام كل الاجيال التالية على امتداد قرون طويلة، بل وتحولت الى أحد اهم الثوابت العقائدية والحقائق التاريخية، على ان الاحتلال مهما بلغت درجة قوته وطول مدته، الى زوال لا محالة بإذن الله.

بعد استعراض هذه النتائج الرئيسية، نعود لنواصل كيف تناول الدكتور/ قاسم فى كتابه، مسألة آثار الحروب الصليبية على العالم العربى، من خلال العناوين التالية:

1) الاستجابة السياسية ونشأة الدولة العسكرية.

2) الآثار السكانية والاجتماعية.

3) الآثار الاقتصادية.

4) الآثار القيمية والأخلاقية.

5) الآثار الثقافية والفكرية.

6) الختام.

أولا ـ الاستجابة السياسية ونشأة الدولة العسكرية :

كانت حالة التفتت والتشرذم السياسى العربى هى السبب الرئيسى فى الانتصارات الكبرى والسريعة التى حققتها الحملات الصليبية الاولى وسقوط القدس وعدد كبير من المدن العربية تحت الاحتلال.
فكانت النزاعات قائمة على قدم وساق بين السنة فى بغداد والشيعة فى القاهرة واتباع كل منهما فى بلاد الشام، وبين السلاجقة والعرب، وبين زعماء البدو وامراء العرب فى المناطق الحضرية وبين الأمراء بعضهم البعض وهكذا.
ولقد احتاج العرب والمسلمون خمسة عقود قبل ان يتمكنوا من لملمة صفوفهم والشروع فى توحيد انفسهم، فظهرت دولة عماد الدين الزنكى الذي تولى حكم الموصل 1127 ثم حلب 1128 واستعاد الرها فى 1144. ثم استولى ابنه نور الدين على دمشق فى 1154 وأرسل جيش بقيادة شيركوه وصلاح الدين الى مصر، فنشأت دولته وهي تحكم “خمس” عواصم هى القاهرة ودمشق وحلب والموصل والرها. ثم دولة صلاح الدين الذي نجح حتى 1181 فى بسط سلطانه على منطقة تمتد من النيل الى الفرات، وانطلق من ان الحرب ضرورة دائمة، ودولته كانت دولة عسكرية الطابع والهدف والتنظيم، وكان ودورها التحررى التاريخى هو الذي اضفى عليها الشرعية ونزعها من دولتى الخلافة.
فلقد تراجعت الخلافة العباسية وتحولت الى مجرد واجهة لاضفاء الشرعية على القادة المتعاقبين مثلما فعل صلاح الدين وكذلك بيبرس. كما تراجعت الخلافة الفاطمية بل وسقطت في الخيانة والسعي لاقتسام النفوذ مع الصليبيين على حساب السلاجقة. وترجع بدايات ضعفها الى الاشتباكات المسلحة بين الاتراك والجنود السود، والصراعات الداخلية على الوزارة وعلى مصر، كالصراع الذى نشأ بين شاور وضرغام واستنجاد أحدهما بنور الدين والآخر بالصليبيين.
وكان تراجع وتوارى نموذج دولة الخلافة التى على رأسها خليفة لا يتمتع بأى سلطة حقيقية، لحساب ظهور نموذج الدولة العسكرية تحت قيادة ملك محارب يحكم قبضته على كل الأمور، والتى بدأت بظهور دولة عماد الدين الزنكى، ثم نور الدين فصلاح الدين الايوبى الذى لم تعمر دولته سوى سبعين عاما قبل ظهور دولة المماليك.
فلقد أدّت مهادنة الأيوبيين للصليبيين بعد وفاة صلاح الدين، الى سقوط دولتهم فى مصر وميلاد دولة المماليك، وكان آخر سلطان ايوبى هو توران شاه بن الصالح نجم الدين ايوب الذى قتل فى 28/5/ 1250 وكان ذلك معاصرا للحملة السابعة بقيادة لويس التاسع التى انتهت بانتصار بيبرس، وتم تتويج ميلاد دولة المماليك الجديدة بنصر آخر على التتار فى عين جالوت 1260 بقيادة السلطان سيف الدين قطز، وباحياء بيبرس للخلافة العباسية فى القاهرة اضفى الشرعية على دولته. وتمكنت دولة المماليك الفتية من القضاء على التتار، الذين أسلموا بعد جيلين.

ثانيا ـ الآثار السكانية :

كان من اهم آثار الحروب الصليبية على الشام هو خلق حالة من الاضطراب والسيولة السكانية الكبيرة، ادت الى مزيد من التعقيد والتفكيك لبلاد الشام التى كانت قبل الحملات الصليبية تتسم بفسيفساء سكانية تضم عناصر عربية وتركية وكردية وسوريانية فضلا عن الارمن والبيزنطيين بتنوع ديانتهم ومذاهبهم حيث كانت مسرحا لكل الهجرات والحركات التاريخية الكبرى التى عرفها العالم القديم.
فلما ضربتها الحملات الصليبية تدهورت اوضاعها تدهورا شديدا، بسبب المذابح التى ارتكبها المحتلون، ومنها المذبحة المروعة التى تعرض لها المسلمون واليهود بعد سقوط القدس، وايضا عمليات التفريغ والاحلال السكانى والتهجير الجماعى والاستيطان الصليبى وزرع المستوطنين محل السكان الاصليين واعادة توطين المهجرين والمطرودين، وتحويل السكان العرب الى عبيد يباعون ويشترون. واستمرار المعارك وتبادل النصر والهزيمة وسقوط أسري من الجانبين مع تبادل السيادة على بعض مناطق الحضر والريف بين المسلمين والصليبيين، وتحول اقليات الى أغلبيات فى بعض المناطق وبالعكس، مع تحول السكان عن ديانتهم حفاظا على حياتهم. كل ذلك وعوامل أخرى ضربت حالة الاستقرار السكانى فى الشام فى مقتل لمدة استمرت ما يقرب من مائتى عاما.
ولقد كان الأمر مختلفا تماما فى مصر، فبسبب صمودها فى مواجهة محاولات الاحتلال الصليبية المتكررة، بل وتحولها الى المعقل الاخير لقيادة معارك التحرير، فانها اصبحت الارض الأكثر استقرارا وأمانا لاستقبال هجرات اهل العراق والشام من غير المقاتلين الهاربين اليها من ويلات الحرب والاحتلال، وكذلك هجرة مسلمى الاندلس، وهو ما مثل تعويضا ايجابيا للنقص والخسارة البشرية الفادحة فى السكان نتيجة المجاعة الكبرى”الشدة المستنصرية “فى عهد الخليفة المستنصر الفاطمى.

الآثار الاجتماعية :

أما من الناحية الاجتماعية فالحروب والمنازعات السياسية أدت الى اضطراب امنى واجتماعى عميق؛ فبالاضافة الى الصراع الرئيسى والوجودى بين المسلمين والصليبيين، فان صراعات اخرى نشأت بين السنة والشيعة، وبين الامراء بعضهم البعض، وبين الحكام ووزرائهم، وبين السكان المدنيين والعساكر الوافدين، بالاضافة الى توتر العلاقات بين المسلمين والمسيحيين فى الشام، خاصة وان قطاعات من الموارنة والسوريان والارمن قد ساعدوا الصليبيين، كما قام بعض المسلمين فى الامارات الصليبية باعتناق المسيحية خوفا على حياتهم، وهو ما لم يمنع الصليبيين من اتهام الاقباط بالهرطقة.

ثالثا ـ الآثار الاقتصادية :

مثلت الحروب كارثة على الزراعة والانتاج الزراعى بسبب غياب الاستقرار والعمليات الحربية ونهب الجيوش للريف وهجرة الفلاحين ونزوحهم من مناطق القتال، وبحثهم عن الامان داخل اسوار المدن المحصنة، وبسبب ذلك تعرضت مناطق كثيرة لخطر المجاعة.
ولكن كان من أسوأ الآثار تدهور السيادة الاسلامية على التجارة العالمية، فلقد سقطت موانئ الساحل الشرقى للبحر الابيض المتوسط تحت سيطرة اوروبا حتى عام 1187 الى أن نجح صلاح الدين فى تحرير معظمها.
وخلال هذه الفترة تم تأسيس الاحياء التجارية فى المدن المحتلة واستثمر الايطاليون اموالا جمة فى التجارة البحرية.
صحيح ان مصر ظلت تتحكم طوال القرنين 12 و13 بتجارة العبور ما بين اوروبا والهند والمنطقة العربية، ولكن القوى التجارية الاوروبية النامية وجمهورياتها التجارية بدأت تسود.

رابعا ـ الآثار القيمية والأخلاقية :

لقد ادت الهزيمة القاسية امام الحملة الصليبية الاولى والفشل التام فى صدها وسقوط القدس وعدد كبير من المدن العربية والاسلامية، وانكشاف عجز الحكام، الى انتشار مشاعر الغضب والاحباط وتملك الناس شعور بالعجز واليأس، وشيوع روح من “التقوى السلبية” والتدين العاطفى الهروبى الى المجهول الذى تجسد فى انتشار الطرق الصوفية الجاهلة واتباعهم الذين اخذوا يرددون الخرافات والمزاعم عن معجزات الدراويش وكراماتهم على انها حقائق تاريخية.
ساعد على ذلك اعتماد صلاح الدين الايوبى عليهم لاذكاء حماسة الجنود ومحاربة التشيع، وهو التيار الذى استخدمه المماليك فيما بعد لتدعيم سلطة السلطان ومكانته عند جماهير العامة، وهو ما ادى الى توارى وتراجع تيار المتصوفة “الفلاسفة”.

خامسا ـ الآثار الثقافية والفكرية :

اقترنت جهود توحيد الجبهة الاسلامية ضد الصليبيين بجهود اخرى لإعادة نشر المذهب السنى، وتأسيس المدارس لدعمه فى مواجهة الدعوة الشيعية. وكان فشل الخلافة الفاطمية الشيعية فى فهم حقيقة الحركة الصليبية من جهة ثم اخفاق هذه الخلافة فى جهودها العسكرية ضد الصليبيين من جهة اخرى من اهم عوامل بروز الجهود السنية على محور الموصل/حلب. ثم جاءت نهاية الخلافة الفاطمية فى خضم الصراع الاسلامى/الصليبى تجسيدا لانتصار المذهب السنى على منافسه الشيعى.
أدى تعرض الشرق العربى الاسلامى لهجوم يهدد وجوده ويستهدف انتزاعه من ارضه والقضاء عليه، الى سيادة الاتجاه نحو المحافظة والبعد عن الاجتهاد، والى ردة فعل تجلت فى التركيز على الحفاظ على التراث الفكرى، بدلا من محاولة اثرائه. فغابت روح الابداع والتجديد وتزايد الاتجاه المحافظ فى الفكر والتأليف. ولم يشهد ذلك القرن مفكرا من الطراز المبدع الذى عرفته القرون السابقة فى تاريخ الثقافة والفكر العربى الاسلامى، ربما باستثناء الغزالى.
فلقد كانت الحضارة العربية الاسلامية فى حال الدفاع عن الذات واراد ابناؤها لم تراثها وحفظه، وفى هذا العصر تجسد السلف الصالح مفهوما اجتماعيا/ثقافيا وصار البحث فى تراث السلف من الفضائل الثقافية آنذاك، وازدهرت حركة التدوين التاريخى، استرجاعا لانتصارات الأسلاف.
وانصرف الشعراء والادباء والمفكرون الرسميون الى محاولات حفظ التراث او جمعه او شرحه او تكراراه، كما أصبحوا من ابواق الدعاية والتبرير لتعبئة الناس حول قائد بعينه او للترويج لاتجاه او لآخر.
وفى عصر المماليك تزايد اعتماد سلاطينهم على اهل العمامة من علماء الدين والفقهاء باعتبارهم واجهة شرعية للحكم، الذين تنافسوا من ناحيتهم على تملق الدولة وتبرير افعالها.
ولذلك فشل الادب الرسمى فى الاجابة على تساؤلات كثيرة طرحها عامة الناس حول عجز الحكام ونجاح الصليبيين، وعلى رأسها السؤال الأهم والأزلى : “أليس المسلمون هم اتباع الدين الحق؟ فلماذا كانت الهزيمة وانتصار الفرنج الكفرة؟.
لقد فشل الحكام ودعاتهم فى تفسير هذه التناقضات كما فشلوا فى تبرير عجزهم عن دحر الصليبيين طوال هذه السنوات الطوال. ولذلك تبلورت تيارات شعبية اخذت تعبر عن رؤيتها الوجدانية.
كانت هذه اول هزيمة كبرى للمسلمين فى تاريخهم والذى شهد خطرا استيطانيا وجوديا، فشاعت انباء الرؤى والاحلام التى ترى الرسول عليه الصلاة والسلام، وظهرت النبويات وهى قصائد مطولة تستغيث بالرسول وتتوسل اليه لرفع المعاناة، وانتشر الكلام عن القيامة وعلاماتها والجنة ونعيمها والاعتقاد فى الخوارق والمعجزات، والقصص الشعبية الذى ينقل احداث وقصص وشخصيات وابطال وملاحم من وحى الخيال تحمل للناس التعويض من واقعهم البائس فيما يعرف بالأدب التعويضي.

المراجع :
1 ـ قاسم عبده قاسم: ماهية الحروب الصليبية، كتاب عالم المعرفة مايو 1990م، ص119.
2 ـ ابن الأثير: الكامل في التاريخ، تحقيق: عمر عبد السلام تدمري، الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت – لبنان، الطبعة: الأولى، 1417هـ / 1997م ،10/69.
3 ـ أبو شامة: عيون الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية، تحقيق: إبراهيم الزيبق، الناشر: مؤسسة الرسالة – بيروت، الطبعة: الأولى، 1418هـ/ 1997م، 4/ 157- 158.
4 ـ قاسم عبده قاسم: ماهية الحروب الصليبية، ص119.
5 ـ أبو شامة: عيون الروضتين، 4/ 160- 161.
6 ـ علي الصلابي: صلاح الدين الأيوبي، الناشر: دار المعرفة، بيروت – لبنان، الطبعة: الأولى، 1429هـ – 2008م، ص625- 631.
7 ـ ابن كثير: البداية والنهاية، 12/ 334.
8 ـ علي الصلابي: صلاح الدين الأيوبي، ص631- 634.
9- قصة الحروب الصليبية: محاضرات صوتية للدكتور راغب السرجاني
10- سامي المغلوث: أطلس الحملات الصليبية علي المشرق الإسلامي في العصور الوسطى.
11-كارين آرمسترونج: الحرب المقدسة: الحملات الصليبية و أثرها علي العالم اليوم .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى