باب الخروج لأحمد نبوي نصُّ الهروب
أد. محمد عبد الرحمن عطا الله
أستاذ الأدب والنقد في جامعة باشن العالمية المفتوحة بأمريكا
أحمد نبوي من الشعراء الذين يعانون الفقد والاستلاب، فقد رحلت ابنته “نيِّرة” إلى عالم البرزخ منذ سنوات، ومن هذا الوقت، ويراعه يمتاح من مداد الحزن، وتبوح ألفاظه بالوجع، وتفيض معانيه بدموع ممزوجة بالدم، ويتسم شعره في هذا المضمار بالصدق الفني، مما يجعل نصَّه الشعري “باب الخروج” شديد التأثير في المتلقي، معبِّرًا عن صدق التجربة، وحرارة العاطفة.
و”باب الخروج” هو الباب الذي يحاول الشاعر أن يهرب منه من دنياه التي تحاصره بالألم، فيبحث عن آخر يفرُّ إليه، فيبدأ نصُّه الشعري بديالوج/ الحوار الخارجي، فيحاور الآخر بفعل المحاورة “قال”، والآخر الذي يأوي إليه، ليُخرجه من دائرة الهمِّ، ودوَّامة الألم، هو الذي يكبِّله، ويقيِّده بقيود الأشياء.
قَالَ لِي:
عَليكَ إِذَنْ
أَنْ تَلبَسَ المَلابِسَ الدَاكِنَةَ السَّمِيكَةَ
وتَرتَدِي زَوجَيْنِ مِنَ الجَوارِبِ الطوِيلَةِ
وَعَليْكَ كَذَلِكَ
أنْ تَأوِي إِلَى رُكْنٍ رَكِيْنٍ
قَرِيْبٍ مِنَ البَاب
والحوار الذي يبدو أنه ديالوج، ما هو إلا حوار قائم على الوهم، في الواقع هو منولوج/ حوار داخلي، فلا ثمة آخر يحاوره، فالآخر هو الشاعر نفسه، فقد جرَّد من نفسه ذاتًا يحاورها، فيصطدم بمرآة الذات التي تواجه الذاتَ بالذات، فالسياق والموقف لا يحتملان وجود آخر بجانب “نيرة” المهيمنة على حركة الحكي في النصِّ الشعري، وهي أيضّا المنتجة للدلالة.
والشاعر الرافض للذات المحاوِرة، يتمرد عليها، ويحطم حصار الأشياء التي قد تحول بينه، وبين غرفة ابنته، فيلجأ إلى حرف الربط الاستدراكي “لكنَّ” الذي يفيد الوصل العكسي، حتَّى لا يتوهم المتلقي أنَّ الشاعر يهرب من ثِقْل السنين، ومن قيد جسده النحيل، ولا ينطلق إلى ذكرى ابنته الراحلة.
لَكِنَنِي
لَا أُحِبُّ المَلابِسَ الدَاكِنَةَ السَّمِيكَةَ
ولَا أُحِبُّ ذَلكَ الرُّكْنَ الرَّكِينَ
القَرِيبَ مِنَ البَاب
فَلمْ تَعُدْ سَاقَاكَ
تَحْتَمِلُ ثُقْلَ تِلكَ السِّنِينَ
التِي تَراكمَتْ فَوقَ جَسَدِكَ النَّحِيْل
يستدبر الشاعر الباب، ولا يخرج من البيت، بل يصعد السلم إلى حجرة ابنته، محدثًا توازنًا فنيًّا في النصِّ، فالملابس الداكنة معادل موضوعي لظلمة النفس، وتشظَّي الذات، بينما فساتين “نيرة” معادل موضوعي لها نفسها، فالشاعر الهارب من حصار الأشياء في بداية النصِّ، يتماهى في الأشياء، ويتوحَّد معها، وما هو إلا ذوبان الروحين: روح الأب وروح الأبنة.
أُحِبُّ
أنْ أصْعدَ السُّلَمَ بِخِفَّةٍ مُمَوْسَقَة
أنْ أَقْرَأَ البَيْتَ حُجْرَةً حُجْرَةً
أَحِبُّ
أَنْ أَدْخُلَ إِلَى حُجْرَتِهَا
بِمُفْرَدِي
مَرَّتيْنِ كُلَّ يَوْمٍ
وَأفْتحَ دُوْلابَها
وَأحْضُنَ فَسَاتِينَها طَوِيْلًا
فُسْتانًا فُسْتانًا
حَتَّى يَرتَوِي الحَنِيْنُ
الذِي لا يَرتَوِي أَبَدًا
والأنا الشاعرة التي ذابت في الآخر/ أشياء الأبنة، لا يمكن أن يبقى في حجرتها فترة طويلة، فالذوبان في الأشياء أقرب إلى الوهم منه لليقين، إنه لا يريد الأشياء، إنما يريد ابنته، فعندما يفيق من الصدمة، وتتكشف أمامه الحقيقة التي يتغافل عنها اختيارًا، يلجأ إلى الهروب، فيخرج من الحجرة إلى فضاء الله الواسع، لعلَّه يجد في الرقص والغناء، ومخالطة البشر، عوضًا عن الحزن، وتخفيفًا عن آلام النفس، وانشطار الذات.
وَأُحِبُّ دَائمًا
أنْ أسِيْرَ فِي البَراحِ مُنْسَابًا
أنْ أرْقُصَ
وَأغَنِي
وَأنَا أحْتَضِنُ النَاسَ
فِي الحَدِيقَةِ الوَاسِعَة
ويتمدد العنوان في مفاصل النصَّ حتّى يصل إلى نهاية القصيدة، فما باب الخروج إلا خروج الإنسان من عالم الشهادة إلى عالم الغيب، والشاعر لم يخاطب ذاته، بل يخاطبنا جميعًا، فما من أحد منَّا إلا سوف يخرج.
ألَيْسَتْ حَرَكةُ الخُرُوجِ وَاحِدَة؟!
الخروج من الدنيا هروب، لكنَّه هروب قسريّ، يفرضه قانون الموت على الإنسان، وهذا الخروج حتم لا فكاك منه، فهو الأخطبوط الذي تمتد أذرعه في كل مكان، وهذا الأخطبوط هو الذي يحاصر الشاعر في النصَّ، فهو نصُّ الحصار، ونصُّ الهروب في آنٍ واحد.