مقال

“تونس الحرة” الصفحة السوداء للاستعمار الفرنسي والخيانة العثمانية

لن يمحيها التاريخ

الكاتبة الصحفية – شيرين أبو خيشه |  القاهرة 

“فليكن الهم الأول لكل مسلم فينا هو التفكير في كيفية استرجاع مجد هذه الأمة ثم العمل على تحقيق ذلك بالفعل”

(الثعالبي في مؤتمر القدس)

نموت أحراراً لله دفاعاً عن شرفنا وشرف وطننا أفضل من الحياة في العبودية والذل

( المناضل محمد العربي زروق)

يرجع تاريخ الهيمنة الفرنسية على أفريقيا
و تحديداً عام ١٦٢٤م حيث زحفت فرنسا نحو مناطق من القارة السمراء لاستغلال سكانها المحليين عن طريق إنشاء أول المراكز التجارية الفرنسية في السنغال وبدأ الإستعمار الفرنسى في تونس الكشف شيئا فشيئا عن أنيابه ومخططاته القذره عقب تأسيسه شركة الهند الشرقية الفرنسية لتتوسع مناطق نفوذ فرنسا وتتطور من ثلاثة ونصف ملايين كيلومتر مربع في سبعينيات القرن الـسابع عشر إلى إحدى عشر ونصف مليونا بحلول عشرينيات القرن العشرين وتمكنت الدوله العثمانيه من إيقاف فرنسا وحماية العالم الإسلامي وعدد من الدول الآسيوية من التحول إلى مستعمرات فرنسية فى بدايه الأمر ولكن بقدوم السلطان سليم الثاني الذى تولى الحكم بعد موت أبيه أتجه إلى القسطنطينية بعد أن مكث بها يومين وتوجه على عجل إلى مدينة سكدوار للاحتفال بإرجاع جثة والده إلى القسطنطينية فقابله خارج المدينة سفراء فرنسا والبندقية القادمون لتهنئته بالملك ولما وصل مدينة صوفيا أرسل الرسل إلى كافة الممالك الخارجية والولايات الداخلية يخبرهم بموت أبيه وتوليته على عرش آل عثمان ومنها قصد مدينة بلغراد ومكث فيها حتى أتى الوزيرمحمد باشا صقللي بجثة والده ولم يعلن بوفاة السلطان سليمان إلا في أثناء عودته بل أوهم الجند أن السلطان مريض ولا يمكن لأحد مقابلته وأعلن موته إلى الجنود بعد موته بنحو خمسين يوما لبست الجيوش عليه الحداد وسارعوا إلى بلغراد حيث كان سليم الثاني في انتظارهم فطلبت الجنود منه أن يوزع عليهم العطايا المعتادة فأبى ثم أذعن لطلباتهم لإظهارهم العصيان والتمرد وعدم إطاعتهم أوامر ضباطهم وامتهانهم له بحضور السلطان ولم يكن السلطان متصفا بما يؤهله للقيام بحفظ فتوحات أبيه فضلًا عن إضافة شيء إليها ولولا وجود الوزير محمد باشا صقللي المدرب على الأعمال الحربية السياسية للحق الدولة الفشل لكن حسن سياسة هذا الوزير وعظم اسم الدولة ومهابتها في قلوب أعدائها حفظتها من السقوط مرة واحدة فتم الصلح بينها وبين النمسا بمعاهدة من شروطها حفظ النمسا أملاكها في بلاد المجر ودفعها الجزية السنوية المقررة بالعهود السابقه واعترافها بتبعية الدوله وكذلك جدد مع شارل التاسع ملك فرنسا الاتفاقيات التي تمت بين الدولتين في عصر السلطان سليمان وأيد السلطان سليم الامتيازات القنصلية وزاد عليها امتيازات أخرى أهمهامعافاة كل فرنساوي من دفع الخراج الشخصي وأن يكون للقناصل الحق في البحث عمن يكون عند العثمانيين من الفرنساويين في حالة الرق وإطلاق سراحهم والبحث عمن أخذهم بصفة رقيق لمجازاته وأن يردالسلطان كافة الأشياء التي تأخذها قراصنة البحر من المراكب الفرنساوية ومعاقبة الآخذ لها وأن تكون المراكب العثمانية ملزمة بمساعدة ما يرتطم من السفن الفرنساوية على شواطئ الدولة وبحفظ ما بها من الرجال والمتاع وأن يكون لفرنسا كل الإمتيازات الممنوحة لجمهورية البنادقةولزيادة توثيق عرى الإتحاد بين الدولة العثمانية وفرنسا وزيادة نفوذ اتحادهما اتفقت الدولتان على ترشيح هنري دي فالوا ألاخ الأصغر لملك فرنسا لعرش بولونيا ليكون لهم ظهيرا ضد النمسا من جهة وروسيا من أخرى وقد تم ذلك فعلًا وصارت بولونيا تحت حماية الدولة العلية حماية فعلية وإن لم تكن اسمية وبذلك صارت فرنسا ملكة التجارة في البحر الأبيض المتوسط وجميع البلاد التابعة للدولة وأرسلت تحت ظل هذه المعاهدات عدة إرساليات دينية كاثوليكية إلى كافة بلاد الدولة الموجود بها مسيحيون خصوصا في بلاد الشام لتعليم أولادهم وتربيتهم على محبة فرنسا وكانت هذه الامتيازات الموجبة لضعف الدولة بسبب تدخل القناصل في الإجراءات الداخلية بدعوى رفع المظالم عن المسيحيين واتخاذها لها سبيلًا لامتداد نفوذها بين رعايا الدولة المسيحيين وأهم نتائج هذا التداخل وأضره مالا وأوخمه عاقبة استعمال هذه الإرساليات الدينية في حفظ جنسية ولغة كل شعب مسيحي حتى إذا ضعفت الدولة أمكن هذه الشعوب الاستقلال بمساعدة الدول المسيحية الانضمام إلى إحدى الدول وفي هذه الأثناء غزت المراكب العثمانية جزيرة كريد وطنته وغيرها بدون فتحتها واحتلت مدائن على البحر الأدرياتيكي ولما رأت البندقية تغلب العثمانيين عليها وفتح كثير من بلادها استعانت بإسبانيا والبابا وتم بينهم الاتفاق على محاربة الدولة بحرا خوفا من امتداد سلطتها على بلاد إيطاليافجمعوا مراكبهم فأبحرت سفن المسيحيين إلى شواطئ وقابلت هذا بالاشتباك بينهم القتال مده ثلاث أيام متوالية انتهت بانتصار الدونانمة المسيحيةفأخذت مائة وثلاثون سفينة عثمانية وأحرقت وأغرقت أربعة وتسعون وغنمت ثلاثمائة وثلاثون مدفع وألف أسير وهذه أول واقعة حصلت بين الدولة العثمانية من جهة وأكثر من دولتين مسيحيتين من جهة أخرى وشارك البابا فيها شخصياً وهذا يدل على أن المحرك لهذه المعارك ضد الدولة الإسلامية سببها الوحيد هو الدين كما أيدته الحوادث والحروب فيما بعد لا السياسة كما يدعون وكان لهذا الفوز رنة فرح في قلوب المسيحيين أجمع حتى إن البابا خطب في كنيسة ماري بطرس وشكر دون جوان على انتصاره على السفن الإسلامية وذلك مما لا يجعل عند المطالع أقل ريبة أو شك في أن المسألة الشرقية مسألة دينية لا سياسية كما ادعاه ويدعيه الأوروبيون ويغتر به السذج غير المطلعين ولما وصل خبر هذه الحادثة إلى الآستانة هاج المسلمون على المسيحيين وهموا بقتل المرسلين الكاثوليك لولا تدارك الوزير محمد باشا صقللي الأمر بأن حجز هؤلاء المرسلين تحت الحفظ حتى تعود السكينة إلى ربوعها وقد أخرجهم بناء على إلحاح سفير فرنسا ولم تعد هذه الحادثة المشئومة همه هذا الوزير بل انتهز فرصة الشتاء وعدم إمكان استمرار الحرب لتشييد دونانمة أخر وبذل النفس والنفيس في تجهيزها وتسليحها حتى إن جمهورية البندقية سعت في التقرب إلى الدولة فعرضت عليها الصلح تم الصلح على أن تتنازل البندقية للدولة العثمانية عن جزيرة قبرص وأن تدفع لها غرامة حربية قدرها ثلاثمائة ألف ولكن عندما بدأت الدولة العثمانية تفقد قوتها سارعت فرنسا إلى إحتلال الجزائر ثم التوسع شمالا في أفريقيا وحينهاأبرمت فرنسا وبريطانيا معاهدة توسع بموجبها النفوذ الفرنسي في أفريقيا ليشمل منطقة حوض تشاد بالأراضي الأفريقية الفرنسيةوحينها دخلت تونس تحت رداء المستعمر الفرنسي سنة ١٨٨١م بعد معاهدة الحماية التي بموجبها أصبحت السلطة الفعلية بيد باريس واحتلت تونس بدون مقاومة لارتحال من كان بها من العثمانيين عند قدوم السفن وتحققهم من أن الدفاع لا يجدي نفعا لقلة عددهم فاحتلت وأعادت إليها سلطانها الذي التجأ إليهم عند احتلال بلاده بعد هزيمتها وأزاحت محمد الصادق باي وأصبح منصبه بلا قيمه فكانت قرارات مجحفة اتخذت ضد الشعب التونسي
جاء الإحتلال الفرنسي في تونس بعد خمسة عقود تالية للإحتلال الفرنسي لدولة الجزائر المجاورة بعدماارتبطت كلا الدولتين بالدولة العثمانية لمدة ثلاثة قرون إلا أن كلاهما كان لديه استقلاليته السياسية بالرغم من التبعية للدوله العثمانيه التى كان شغلها الشاغل مصالحها المالية فقط وحينهاالباي التونسي قد بدأ عمليةإصلاحات حديثة لكن الصعوبات المالية تزايدت مما أدى إلى الدين ثم استولت لجنة من الدائنين الأوربيين على الموارد المالية بعد الغزو الفرنسي لتونس تحملت الحكومة الفرنسية التزامات تونس الدولية وتولت فرنسا العديد من الأعمال التجارية الفرنسية والمواطنين الفرنسيين كانوا محل تفضيل مقارنة بنظائرهم التونسيين وعبروا عن حسهم الوطني القديم مبكراً عن طريق الخطابات والمطبوعات ولاحقا عبر المنظمات السياسية وكانت الحركة الاستقلالية نشطة قبل الحرب العالمية الأولى واستمرت في اكتساب القوة ضد المعارضة الفرنسية المختلطة وتحقيق هدفها الأساسي مبدئيا و كانت إيطاليا أكثر الدول الأوروبية اهتماما بضم تونس إلى منطقة نفوذها وكان الدافع الإيطالي القوي مستمدا من العدد الكبير من المواطنين المقيمين بتونس بالفعل والاستثمارات التجارية المقابلة نظرا لموقعها الجغرافي القريب من إيطاليا لم يكن تأسيس مستعمرة محكومة بشكل مباشر أولوية عليا للأجندة السياسية بل كانت تونس محل اهتمام لفرنسا التي استحوذت على الجزائر المجاورة لتونس ومن بعدها بريطانيا التي استحوذت على جزيرة مالطا الصغيرة قبالة سواحلها أرادت بريطانيا أن تتجنب التحكم المنفرد في جانبي مضيق صقلية فتحالفت فرنسا مع بريطانيا للحد من النفوذ الإيطالي السياسي إلا أنه في أغلب الأحيان كان هذان البلدان في منافسة حادة لمعظم فترة ولايتهما بدأ كلاهما تنافس ريتشارد وود قنصل بريطانيا وليون روش قنصل فرنسا بشراسة مع بعضهما البعض للفوز اقتصادياً وسياسياً بتونس وعقد مؤتمر برلين لمناقشة الدولة العثمانية رجل أوروبا المريض وكانت الترتيبات مفهومة أيضاً في ألمانيا وبريطانيا واللتان سمحتا بالدمج الفرنسي لتونس ووعدت إيطاليا بطرابلس لبيبا ودعمت بريطانيا النفوذ الفرنسي في تونس مقابل حمايتها لقبرص التي اشترتها من الدولة العثمانية والتعاون الفرنسي بشأن الثورة بمصر في تلك الأثناء وعلى الرغم من شراء إحدى الشركات البريطانية خط السكة الحديد تونس وحلق الوادي المرسى إلا أن الاستراتيجية الفرنسية عملت على التحايل على هذه المشكلة وغيرها من المشاكل التي خلقتها المستعمرة الكبيرة للتونسيين الإيطاليين وفشلت محاولات التفاوض الفرنسية المباشرة مع الباى حول دخول تونس انتظرت فرنسا وبحثت عن أسباب لتبرير توقيت الهجوم الوقائي الذي تعتزم عليه وأطلق الإيطاليون على هذا الهجوم صفعة تونس وفي شمال غرب تونس أطلقت قبيلة الخمير هجمات عرضية على القرى المحيطة وقاموا بالهجوم عبر الحدود إلى الجزائر الفرنسية ردت فرنسا بغزو تونس وأرسلت جيشا مكونا من سته الآلاف جندياونفذ تقدمهم إلى تونس بشكل سريع وأجبر الباي سريعا على التصالح مع الغزو الفرنسي للبلاد في السلسلة الأولى من المعاهدات التى اشترطت هذه الوثائق على الباي الاستمرار كرئيس للدولة لكنها منحت الفرنسيين سلطة فعالة على جزء كبير من حكم تونس وكان ذلك على هيئة الحماية الفرنسية على تونس وفي ظل مطامعها الأساسية في تونس احتجت إيطاليا لكنا لم تخاطر بخوض مواجهة مع فرنسا وبالتالي أصبحت تونس بشكل رسمي خاضعة للحماية الفرنسية عندما وقع الحاكم صادق باي في قصره على معاهدة باردو معاهدة القصر السعيد وقع شقيقه ووريثه علي باي اتفاقية المرسى واستمرت مقاومة القوات الشعبية المستقلة في الجنوب لمدة ستة أشهر أخرى وحينها وجد التونسيين أنفسهم فى صفوف المنهزمين حتى أقدم شعب تونس على ما أقدم عليه من تضحيات جسيمة إلا وهو مدرك جيداً لماذا يضحي ولماذا يستميت مقتنعا أن لا طريق آخر لتحقيق الأهداف التي وضعها أمام أعينهم وفي هذه الظروف لم تلق المبادرات التي يتخذونها أي صدى لدى القوى الحليفة وربما أضرت بالقضايا التي يدافعون عنها فنهضت تونس وشعبها في التخلص من كل نفوذ أجنبي فأصدر ملكها عهد الأمان لحقوق الإنسان والمبادئ الديمقراطية والمساواة بين الأفراد وحرية شخصيةوحرية الأديان ولما أعتلى خير الدين باشا المنصب المعروف بعبقريته السياسية أسرع إلى إدخال النظم الحديثة على الدولة التونسية وشمل بإصلاحه الإدارة العامة والمحاكم الشرعية والمدنية والتعليم والصحةوالاقتصاد والزراعة وكانت تلك المؤسسات وخاصة المدارس العصرية الثانوية والعليا أساسا للنهضة والتقدم السريع الثابت في خطاه رغم جميع العراقيل الإستعمارية حتى عصفت موجة من الأعماق اكتسحت شعب تونس وكأن الحياة التي كان تيارها يجري ببطء بل اختفى أحياناً كما تختفي الأنهار تحت الرمال تدفقت من جديد وظهرت مياهها أصفى وأغزر وإذا بها تيار جارف لا يقدر الإستعمار الفرنسي البالي على إيقافه أو تعطيله هكذا نضالت المقاومة التونسية للإستعمار الفرنسي يوم وضع أول جندي فرنسي رجله على أرض الوطن وكانت من ذلك اليوم تكتسي قالبين فتارة تكون ثورة عامة أو محلية وطورا تكون حركة سياسية وفي بعض الأحيان تتخذ القالبين معا فبينما كانت قبائل خمير الشمالية ومدن صفاقس والقيروان تحارب الجيش الفرنسي المعتدي عام ١٨٨١م كان محمد العربي زروق يقاوم النفوذ الفرنسي في البلاط التونسي ويطالب الملك ووزارته بإعلان الحرب على فرنسا وإصدار الأمر للقوات المسلحة التونسية برد هجمات القوات الفرنسية ويرسل أمامهم كلمته الخالدة أن نموت أحراراً لله دفاعاً عن شرفنا وشرف وطننا أحسن من الحياة في العبودية والذل ثم إنه قاوم توقيع معاهدة باردو ولما وقع الملك على تلك المعاهدة اختفى العربي زروق فرارا من انتقام الوزير الخائن مصطفى بن إسماعيل وبعدها هاجر إلى الشرق وأكمل مسيرته الشيخ محمد السنوسي الذي كان لسان المعارضة التونسيةوأتخذ من منصبه أمانة العاصمة مركزا يرد منه تدخل السلطات الفرنسية في شئون تونس حتى حكم عليه بالنفي ورأى البشير صفر الذي حمل المشعل حقبة من الزمن أن يوجه عنايته إلى الشباب ويوجهه نحو الثقافة والعلم وإستكمال الوعي القومي بما كان يلقيه من محاضرات في معهد الخلدونية الذي أسسه لهذا الغرض وكان لتعاليمه أعمق الأثر حتى عند الشعب وكان علي باش جانبه أول زعيم قومي قاد الحركة الوطنية وأسس دعائمها فكتل حوله الشباب المثقف وأصدر أول جريدة قومية التونسي وأخذ يوالي فيها الحملات على الإستعمار الفرنسي ويندد اعتداءاته ويفضح مؤامراته وسلبه لخيرات البلاد واستيلائه على السيادة التونسية وطغيانه وبطشه وقد اقتصر عمله على أمور سلبية من ردع الظلم وإرجاع بعض الحقوق إلى أهلها والمطالبة بإعطاء التونسيين حقوقهم المسلوبة وقد عم القلق العاصمة التونسية وتبرم الشعب من الاعتداءات الفرنسية وتوترت العلاقات مع الإيطاليين الذين أعلنوا عن نواياهم في الإعتداء على طرابلس فبأت الجو ينذر بالشر والانفجار القريب ولما أرادت السلطات الفرنسية أن تستولي على قطعة من مقبرة الجلاز الإسلامية وحاولت تسجيلها هب الشعب من كل صوب وسار في مظاهرات صاخبة مدافعاً عن قبور أجداده وأجداث آبائه واندلعت الثورة دامية شديدة ودارت المعارك في المقبرة وحولهاثم شملت المدينة كلها فانهزم الشعب الأعزل في آخر الأمر بعد مقاومة دامت أياما أمام القوات العسكرية المنظمة المسلحةفنصب الفرنسيون المشانق في ميدان باب سويقة وشنقوا جماعة من الوطنيين من بينهم أحد أبطال الثورة الجرجار الذي بقيت صورته حية راسخة في الأذهان لما أظهره من شجاعة في المعركةفقتل بنفسه عددا من رؤساء مراكز البوليس الفرنسي وأتباعهم من الشرطة ومن رباطة جأش وبعد إخماد الثورة أسرعت السلطات الفرنسية إلى تعطيل جريدة التونسي وإلقاء مسئولية الحوادث على القائد علي باش جانبه وصحبه وإلى إعلان الأحكام العرفية وتسليط الحكم العسكري على تونس وقد استمرت تلك الأحكام ولكن الإرهاب لم يفت في ساعد شعب متعطش إلى الحرية والعدالة وكان إضراب عمال الترام فرصة سانحة لإظهار غضبه فآزرهم ضد الشركة الأجنبية التي كانت تستثمرهم استثمارا قاطع ركوب عربات الترام عندما عوض الجنود الفرنسيون العمال المضربين بل منع بالقوة كل من أراد ركوبهاوأخيرا سجل انتصارا عندما حصل العمال على مطالبهم وهو انتصار صغير في ميدان ضيق ولكن مفعوله كان عميقاً إذ أحيا الجذور المشتعلة وقوى الأمل بأن النصر وليد الاتحاد فأرادت السلطات الفرنسية إذ ذاك أن تقضي على الحركة الوطنية الفتية حتى يخلو لها الجو من كل معارضة عند تنفيذ خطتها الاستعمارية فنفت أقطاب الحركة إلى الخارج وتوجهوا إلى الآستانة واستقروا بها ما عدا عبد العزيز الثعالبي الذي ذهب إلى باريس بعد أن أمضى بعض أشهر في الجزائر أما في داخل تونس فازداد الضغط واشتدت وطأة الأحكام العرفية واتسعت الاعتقالات بين الشباب القومي لأتفه الأسباب خوفا من دعايتهم في وسط الشعب وما تجره من ثورة ورغم تلك الاحتياطات كلها اندلعت نيران الثورة في الجنوب وشاركت فيها عام ١٩١٥م قبائل بني زيد المعروفة ببأسها وفروسيتها وفتوتها تحت قيادة سعيد بن عبد اللطيف الذي أخذ يخوض المعارك الواحدة تلو الأخرى بعد وضع خططها ففي عام ١٩١٦ قضى في مرة واحدة على القسم الأكبر من القوات الفرنسية إذ بيتهم وهاجمهم برجاله بالسلاح الأبيض كما وضع لهم كمينا في أحد المضايق وأفنى فيلقا كاملا في بداية الثورة ودامت الحرب عامين كاملين ولم تتغلب فرنسا إلا بعد أن أتت بالنجدات يتلو بعضها بعضا وبعد أن جردت جيشا كاملا جاءت به من واجهة القتال الكبرى لقد كال الحلفاء أثناء الحرب العالمية الأولى الوعود المعسولة للشعوب المستضعفة كيلا لكي يستعينوا بها على أعدائهم وبعد انتهاء الحرب أحيا الرئيس ولسن آمالًا جساما فيها لما أعلن عن مبادئه واتجهت وفود البلاد المغلوبة على أمرها إلى باريس حيث انعقد مؤتمر الصلح ومن بينها الوفود العربية ليحققوا تحريرهم الموعود وفي شهر سبتمبر عام ١٩١٨م قدمت لجنة تحرير تونس والجزائر عريضة لمؤتمر الصلح للمطالبة بحقوق الشعوب وقدم الشيخ عبد العزيز الثعالبي الذي كان يقيم بباريس على رأس وفد تونس عريضة إلى الرئيس ولسن باسم الشعب التونسي مطالباً باستقلال بلاده وفضح لأول مرة بعاصمة فرنسا نفسها همجية الإستعمار الفرنسي وفي أثناء إقامة الشيخ الثعالبي بباريس قام صحبة من الوطنيين بتشكيل الحزب الحر الدستوري التونسي عام ١٩١٩م وقد كانت فاتحة أعماله رفع مذكرة إلى الملك محمد الناصر يطالبون فيها بإصدار دستور ينظم الدولة التونسية طبق المبادئ الديمقراطية وقد وجدوا منه عطفا شاملًا وتأييدا كاملًا ولم يعلن الحزب عن الاستقلال كغاية يرمي إليها لأن الظروف لم تكن مساعدة بل اقتصر على برنامج إصلاحي واسع النطاق أهم ما فيه السعي لإرجاع ما اغتصبه الفرنسيون من سلطات إلى أيدي التونسيين ولبى الشعب نداء الحزب والتف حوله وتكتل فيه الشباب العامل وأنبث في المدن والقرى يؤسس له فروعا وينظم صفوف الوطنيين ويقيم الدعوة له في كل مكان وأخذ القصر الملكي يؤازر الحزب بفضل أعظم نصير له الأمير محمد المنصف النجل الأكبرللملك الذي لم يقتصر على مجرد التأييد بل انضم إلى الحزب وأدى يمين الإخلاص للمبادئ الوطنيةولم تبق السلطات الفرنسية مكتوفة الأيدي أمام اتساع الحركة التونسية فأسرعت إلى إلقاء القبض على حامل لوائها الشيخ عبد العزيز الثعالبي بباريس ونقلته والأغلال في يديه إلى السجن العسكري بتونس وأقامت عليه دعوى خطيرة بتهمة التآمر ضد أمن الدولةولما رأت هياج الشعب وحماسته واندفاعه في الدفاع عن زعيمه أضطرت إلى إطلاق سبيله فخرج من السجن وقاد بنفسه الحركة الوطنية.
وإذ ذاك لجأت فرنسا إلى تغيير مقيمها العام في تونس ربحًا للوقت وانتظارا للفرص السانحةوتلك طريقة اتبعتها فرنسا في مستعمراتها إذ تكتفي بتبديل الأشخاص وتتمادى في نفس السياسة الاستعماريةووصل المقيم الجديد لوسيان سان إلى تونس في يونيو ١٩٢١م وهو أخطر مقيم عرفته فشرع حالًا في رفع الأحكام العرفية لكي لا يشاركه العسكريون في النفوذ وعوض المجلس الشوري بالمجلس الكبير وأسس وزارة العدل وفصل بين السلطة القضائية والسلطة التنفيذية وأطلق الحريات من عقالها فازدهرت الحركة الوطنية وتعددت الصحف وكثرت إلا جتماعات
العامة ولم يتساهل المقيم الجديد في ذلك الميدان إلا ليتمكن من تنفيذ خطته الاستعمارية الرامية إلى جعل تونس جزءا من فرنسا ولا يتم ذلك إلا إذا عوض الفرنسيون التونسيين وشردوهم في الصحاري ولذا فتح أبواب الهجرة للفرنسيين والمتفرنسين من أبناء أوروباوفتح لهم أبواب الإدارات التونسية ليتخذوا منها مرتزقا يستولون بواسطتها على النفوذ والسلطةوأقطعهم الأراضي الشاسعة التي اغتصبها من العرب وتفطن الوطنيون إلى ذلك الخطر الجسيم وساند الملك شعبه وتوترت العلاقات بينه وبين فرنساحتى إنه في آخر الأمر هدد بالتخلي عن العرش إذا لم تنفذ فرنسا مطالب الشعب فكان جواب المقيم العام محاصرة القصر الملكي بقوات كبيرة من الجيش الفرنسي يوم ٥ أبريل ١٩٢٢م فهب الشعب وثارت ثائرته وعمت المظاهرات عشرات الألوف على الأقدام من عاصمة تونس إلى شاطئ المرسى حيث القصر الملكي تأييدا لملكها ومؤازرة له فلجأ المقيم العام إذ ذاك إلى المراوغة ووعد الملك وعدا صريحا بإرضاء الرغبات الوطنية على أن يتأجل إنجازها إلى ما بعد زيارة رئيس الجمهورية الفرنسية ميلران لتونس وبعد أن تمت تلك الزيارة نكث لوسيان سان عهده وأصدر الأوامر الاستثنائية لتعطيل الحريات العامة وصادر الصحف ومنع الاجتماعات العامة وفقدت الحركة الوطنية إثر ذلك أكبر عضد لها بموت الملك محمد الناصر فكانت مصيبة عامة أحدثت فراغا لا يسد فلم تقدر الحركة الفتية على مقاومة موجة الاضطهاد فخمد نشاطها وقل عملها فأختار الشيخ عبد العزيز الثعالبي إذ ذاك الهجرة إلى الشرق بعد معاناته فى السجن وقد وصف الثعالبى فى مذكراته معاناته دخل إلى السجن العسكري بتونس كان هناك شاب لم يتجاوز الخمسة والعشرين من عمره اسمه عبد العزيز وسكن غرفة صغيرة جدا فمرض عبد العزيز وأشتدت به الأوجاع وعسر الإتصال به أو التفريج عنه في ذلك السجن الذي كان يخيم عليه جو من الإرهاب والاضطهاد نستمع إلى أنين المريض ولا تغمض لنا جفون ولا مسعف ولا طبيب ولا دواء وفي الليلة الثالثة سمعنا منه صيحة أزعجتنا وتوالت صيحاته في الظلام أدخلت على قلوبنا الوحشة وحيرت الهواجس وبقي يصرخ صرخات كأن أحشاءه تتقطع فهدأ وسكن ولما فتح الحارس في الصباح غرفته وجده ميتا وعلمنا فيما بعد أن أمعاءه ثقبت وكانت عملية جراحية ربما تنجيه أو تخفف على الأقل من آلامه وكم من أمثال عبد العزيز من الشباب التونسي ذهبوا ضحية الإهمال وقسوة القلب وقد أصبحت مراكز البوليس في تلك المدة أماكن تنكيل تقشعر منه الأبدان فبعد أن يلقوا القبض على الوطنيين يحملونهم إليها ويشرعون في تعذيبهم بالطرق القديمة وبالطرق العصرية المحدثة أيضا فأحيوا الخازوق وهو عمود طويل يجلسون عليه المحكوم عليه فيخرق أمعاءه ولكن عوضوه بزجاجات وكانوا يضعون أنابيب الماء في فم التونسي ويملئون بطنه ثم يدوسونها بأقدامهم أو يرمونه في غرفة مظلمة بها الجص ويبقونه أياما متوالية حتى ينسل جلده وقسم من لحمه تحت تأثير الجص أو يسجنونه مع عدد كبير من رفاقه في زنزانات فاقدة للهواء تقريبا ويبللون أرضها بالماء الكثير المخلوط بالبوتاس بعد أن يخلعوا عنهم ثيابهم ما عدا قميص وسروال وتمر عليهم الأسابيع والأشهر أحيانا فلا يتمكنون من النوم في الليل ولا من الراحة في النهار فوق الماء والبوتاس ولا يعطونهم من الأكل إلا قطعة صغيرة جدا من الخبز فقط وكوبا من الماء في الصباح وآخر بعد الظهر فكانت أجسامهم ترتعش وترتجف من البرد الشديد وهم جياع عطشى وما زالت أصواتهم ترن في أذني وهم يتلهفون لجرعة ماء ويتوسلون للحارس بيتري يا عرف بيتري أنا عطشان! عطشان الله يبقي لك أولادك أغثني بشربة ماء إني أموت أموت وكان الحارس يجيبهم مو … ت بالتطويل هكذا ويحمل أكثرهم من تلك الزنزانة إلى مستشفى السجن حيث يموتون أما الوطنيون الذين نقلتهم السلطات الفرنسية إلى سجون الجزائرفلم يرجع إلى تونس منهم إلا الثلث تقريبا ومات الباقي أشنع موت ولقد سمي بعضهم سجن لامبيزالشهير بجهنم البيضاء لكثرة الثلوج بجهته في فصل الشتاء كان كل تونسي يسكن غرفة ضيقة وحيدا فريدا والكلام محرم تحريما باتا كليا وكانوا يجبرون على صناعة الحلفاء المبللة بالماءفي ذلك البرد القارس فتنتفخ أيديهم وتدمى وتتبلل أجسامهم التي لم تبق فيها قوة للمقاومة لفرط ما هم فيه من جوع وكان الرعب يملأ قلوبهم كلما نزلوا إلى ساحة السجن وقت الطعام صفا الواحد تلو الآخر خيفة من السجانين الذين لا يعرفون رحمة ولا شفقة وقد اختار مدير السجن عددا من المجرمين الكبار والأشقياء سفاكي الدماء وقاتلي الأرواح واتخذهم أعوانا للسجانين وهم أقوياء الأجسام ذوو عضلات وشدة وأكثرهم من حثالة الأوروبيين ألمان وبولنديين وروس وفرنسيين وغيرهم يعيشون عيشة ممتازة ويأكلون أكلًا فاخرا ليحتفظوا بقواهم وعلى صدر كل واحد منهم قطعة قماش حمراء كعلامة وشارة ولذا سموا بكلاب الدم وكانوا يترصدون المساجنين عند مرورهم بالساحة ولأقل إشارة وأتفه عبارة تراهم ينقضون على التونسي انقضاضا وينهالون عليه ضربًا ويدوسونه دوسا بأقدامهم وإذا بأسنانه تتطاير ودمائه تكسو الأرض وجسمه النحيف قد انهار فسقط مغشيا عليه ثم يأخذونه إلى زنزانة ضيقة مظلمة لا يدخلها هواء ولا ضوء فيتعذب فيها جوعًا وعطشا ولا تسمع أناته طيلة إقامته بها إلا ضئيلة خفيفةوبعد أيام يخرجونه منها لا يقدر على حراك فاني الجسم ويزجون به في بيت الموت وهو مستشفاهم فلا يلبث أن يموت وقد قضى عشرات وعشرات من التونسيين وأن فرنسا تحت قصورها وأبراجها وحصونها القديمة دهاليز وسراديب محفورة في الأرض يضعون فيها المغضوب عليهم ويسمونها المنسيات وكنا نعتقد أنه لم يبق منها في القرن العشرين إلا آثار يزورها السواح ويتفرجون علينا إلى أن نقلتنا السلطات العسكرية الفرنسية في بارجة حربية من السجن العسكري بتبرسق إلى حصن سان نيقولا بمدينة مارسيليا الذي اختير كمعتقل لنا فوصل برفقة الحبيب بورقيبة وأيديهم في الأغلال والسلاسل وكانت فرنسا على وشك الانهيار تحت ضربات الجيش الألماني وقد سقطت باريس في أيديهم١٤ يونيو ١٩٤٠م كما ذكر أن الحراس والجندرمة يأمرون بنزع ثيابنا تمامًا ثم انهالوا علينا ضربا ثم ساقونا في دهاليز تقطر ماء لفرط الرطوبة بها وأغلقوا الأبواب وبقينا في ظلام دامس ولما استيقظنا لم نر إلا ضوءا ضئيلًا يأتينا من فوهة في السقف وإذا بها كالبئر علوا أكثر من عشرة أمتار عمقا ووجدنا أنفسنا في منسية من تلك المنسيات العتيقة وقد عشنا فيها ستة أشهر كاملة حتى صار الواحد منا إذا ما خرج إلى ضوء الشمس ورأى الحركة والحياة حوله بقي مبهورا مبهوتا وقل الأكل شيئا فشيئا وهزلت الأجسام حتى أصبحنا هياكل من عظام ولما وزن الحبيب بورقيبة نفسه رأى أن وزنه لا يفوق الخمسة والثلاثين كيلو جراما وما تلك إلا جزء بسيط مما عاناه الوطنيون التونسيون والأعجب أن العذاب لم يزدهم إلا عزما في وجوب التخلص من الإستعمار الفرنسي الفظيع وأثناء ذلك الاضطهاد القاسي اعتلى عرش تونس عام ١٩٤٢الملك الصالح والوطني المتحمس محمد المنصف باي الذي أدى يمين الخدمة الوطنية واشترك في الحزب الدستوري منذ حياة أبيه واتصل بالشعب الذي أقام له الحفلات والاجتماعات والتف حوله وعلق عليه الآمال فأهدى لشعبه ما يملك من مال ومتاع وسار سيرة العدل والإنصاف حتى لقب بعمر الثاني وبقدر ما كان رحيما بالشعب بقدر ما كان صلبا شديداً مع أصحاب النفوذ من وزراء ومتصرفين ومديرين حتى انقطع الظلم وزالت الرشوة وساد الأمن والطمأنينةونزلت جيوش المحور بتونس في شهر نوفمبر ١٩٤٢ فأصبحت ميدانا للحرب واكتسحها الخراب والدمار ولكن الشعب تآزر وتساند ولم يكترث بالقنابل والموت إذ حصل على ضرب من الحرية لم يعهده منذ انتصاب الحماية الفرنسية وقام الوطنيون المسجونون بثورة داخل السجن تحت قيادة الدكتور ثامر وسقط منهم عدد من الشهداء والجرحى ولم يتمكنوا من الحرية بل أطلق سراحهم بعد حين بتدخل الملك الصالح المنصف باي وسرعان ما كون الدكتور ثامر ورفاقه من جديد تشكيلات الحزب وعقد مئات الاجتماعات فالتف الشعب حوله وانتظمت فيه صفوفه وكانت عناية الحزب موجهة خاصة إلى الشباب فأسس له المعسكرات في جميع أنحاء المملكة للتدريب ومدرسة لإخراج المسئولين والقادة ودروسا ليلية وتمارين أقبل عليها الشباب الوطني إقبالًا عظيماوقدم الملك عريضة لحكومة فيشي الفرنسية مطالبا فيها بحقوق شعبه ثم كون وزارة انتقالية برئاسة دولة محمد شنيق استعدادًا لاستقلال بلاده وإرجاع السيادة التونسية إلى ما كانت عليه قبل الحماية الفرنسيه وقد التزم الملك محمد المنصف ووزارته الحياد التام في الحرب وكان موقف زعماء الحركة الوطنية مماثلًا له فرغم الضغط الذي ضغطته على الحبيب بورقيبة ورفاقه الحكومة الإيطالية الفاشية بروما بعد أن أخرجهم الجيش الألماني بالقوة من سجون فرنسا لم يقفوا بجانب المحور بل قاموا بدعاية قوية لحمل الشعب كله على الحياد بمجرد رجوعهم إلى تونس ولكن الفرنسيين الذين رجعوا صحبة حلفائهم المنتصرين ودخلوا تونس يوم ٨ مايو ١٩٤٣ سعوا في قلب الحقائق وأذاعوا أن المنصف باي والحكومة القومية كانوا جميعا في جانب المحور فنصبوا لهم العداء وشرعوا في الانتقام منهم انتقاما قاسيا فخلعوا الملك ونفوه إلى صحراء الجزائر ثم منها إلى تنس على شاطئ البحر الأبيض المتوسط وأخيرا إلى مدينة بو بفرنسا حيث مات منفيا عن عرشه وبلاده ضحية الظلم السافر ونسي الفرنسيون محاربة أعدائهم الألمان والطليان وأخذوا يقتلون التونسيين في كل مكان رميا بالرصاص وبدون محاكمة وملئوا منهم المعتقلات والسجون ظنا منهم أن ذلك يغسل عنهم عار الهزيمة ويرجع إليهم نفوذهم القديمه فمزقوا بأيديهم معاهدة الحماية التي فرضوها عنوة والتي تنص على أن مهمتهم الأولى هي حماية الملك الجالس على العرش وعائلته وحماية البلاد وصيانتها من كل اعتداء فسلموا البلاد إلى دول المحور وخلعوا الملك بأيديهم والحقيقة أنه لم يبق لفرنسا مبرر قانوني لاستمرار وجودها بتونس ولولا مساندة الجيوش الإنجليزية والأمريكية لها وما أغدقوه عليها من سلاح لما تمكنت من البقاء بتونس ولا بالمغرب العربي
وخير القادة البقاء مع شعبهم ومقاسمته أخطاره على الهجرة مع جيوش المحور واختفوا مدة لينجوا من الفتك الفرنسي إلى أن تدخل رئيس الولايات المتحدة روزفلت في الأمر وضمن لهم حريتهم الشخصيةفظهروا إذ ذاك وشرعوا في الاتصال بالشعب وتنظيم صفوفه سرا وأصدروا جريدة الهلال السرية بمعاونة بعض الشباب الوطني وكانت القوات الفرنسية المسلحة تهاجمهم في أكثر الاجتماعات التي كانوا يعقدونها من غير انقطاع وتعلق بهم القضايا وتزج بهم في السجون ولكنهم تمادوا في نشاطهم رغم العراقيل كلها.
ولما بلغ قادة الحركة الوطنية أن ميثاق الجامعة العربية قد وقعت عليه الدول العربية أعدوا العدة لسفر الزعيم الحبيب بورقيبة إلى الشرق ليسمع صوت تونس المجاهدة فغادر رئيس الحزب تونس خفية يوم ٢٦ مارس ١٩٤٥ وركب البحر في زورق صغير من أراضي بلاده إلى طرابلس ومنها قطع قسما كبيرا من الصحاري على رجليه إلى أن وصل مصر بعد شهر ودخلها يوم ٢٦ أبريل ١٩٤٥م
وشرع الحبيب بورقيبة هكذا في كتابة صفحة جديدة من الكفاح إذ أخرج القضية من نطاقها الداخلي الضيق إلى النطاق العالمي ووجد قادة الحركة الوطنية مجالًا من الوقت مدة خمس سنوات متوالية سجنًا للتفكير وإعمال الرؤية ومراجعة أنفسهم في الأحداث التي مرت بهم والمعارك التي خاضوها والنكبات التي لحقت بتونس وتناولوا بالبحث السياسة الاستعمارية الفرنسية وطرقها وقارنوا بينها وبين سياسية غيرها من الدول الاستعمارية وخاصة بريطانيا وتصفحوا تاريخ الأمم التي كانت مغلوبة على أمرها وتحررت من العبودية والرق فخرجوا منها بأفكار تبلورت وتعمقت للواقع حسابه وآراء مقامة على معرفة شعبهم ونفسية الخصم وطبيعته ووضعوا خطة سياسية طويلة النفس صعبة التنفيذ فيها المغامرة والمخاطرة وفيها أيضا التعقل والحكمة وعلموا أن الارتجال في قيادة الشعب يجر الخذلان والمهالك كما أن السير الثابت في طريق معينة مضبوطة وخطة واحدة قد توضحت مبادئها العامة وتناسقت أجزاؤها وتكاملت وارتبط بعضها ببعض لضمان النجاح والنصر إذا كانت لها المرونة الكافية وأمكنها مسايرة الظروف والتقلبات العالمية والداخلية.
ومن البديهي أن الحركة الوطنية كجميع ما يقوم به البشر إذا كانت لا تبلغ الإزدهار ولا تأتي ثمرتها إلا بالعمل المتدارك والتضحية المتوالية فهي للفكر أحوج والرواية والعقل مضطرة اضطرارا إذ السياسة ميدان تتبارى فيه المواهب والفطن وتتمارى فيه الأذهان والأفكار فتكون الغلبة لمن هو أرجح عقلًا وأنصع تمييزاً وأحد ذكاء وأجسر قلبا وأقل تهورا وقد سلم الشعب التونسي لرجال الديوان السياسي قيادته وألتف حولهم ومنحهم ثقته وحكمهم في الأموال والرقاب بعد أن سقط غورهم وجربهم المرة تلو الأخرى ورآهم صابرين ثابتين كالجبال الرواسي لا تتغلب عليهم الأحداث ولا تقهرهم المصائب ولا يخضعهم عذاب ولا يفل في عضدهم نفي ولا سجن ولا حر الصحاري المحرقة ولا ثلوج معتقلات فرنسا المبيدة
إيمان لا يتزعزع وعزم لا ينثني وعمل لا ينقطع وكان يقين القادة لا تردد فيه في أن الشعب سيعينهم على تحقيق ما وضعوه من خطة وقد سار فعلًا في الطريق التي عبروه.
مرت بتونس بعد سفر الثعالبي فترة ركود دامت أعواما قليلة إذ رجع جماعة من الشباب القومي النشيط من فرنساحيث أتموا دراستهم ومن بينهم الحبيب بورقيبةالذي امتاز بشخصية قوية وإرادة فعالة وفكر واضح جلي واجتمع هؤلاء الشبان حول جريدة صوت التونسي التي أصدرها الشاذلي خير الله ووجدوا مجالًا واسعا للعمل عندما صادف إنعقاد المؤتمر الأفخارستي وقد أعتبره الفرنسيون حملة صليبية جديدة ومقدمة لفرنسة التونسيين بطريق التنصير وقررت سلطات الحماية إقامة الحفلات في تلك السنة نفسها بمناسبة مرور خمسين سنة على إحتلال تونس فجرد الشباب أقلامهم وشنوها حملات قوية شديدة على الاستعمار ونواياه وألتف الشعب حولهم مؤيدا ومؤازرا وتحمس لهم لما قدمتهم الإقامة العامة للمحاكمة لأجل مقالاتهم بجريدة صوت التونسي فتحرك الشعب دفاعا عن خيرة شبابه ونظم المظاهرات في أكبر مدن المملكة وخاصة أمام المحكمة الفرنسيةحيث رفع الحبيب بورقيبة على الأكف ولما رأى المقيم العام هذا التضامن القوي عدل عن المحاكمة ولكنه أصدر أوامر استثنائية جديدة لتشديد ما كان أصدره لوسيان سان من قبل وفي شهر نوفمبر ١٩٣٢م أسس الحبيب بورقيبة جريدته الشهيرة العمل التونسي فألتفت حوله أقوى العناصر الوطنية وأخذ حالًا يهاجم قانون التجنس الذي أصدرته الحكومة الفرنسية تحت تأثير بول بنكور سعيا وراء فرنسة العباد والبلاد وأبان بإيضاحه المعهود ما في هذا القانون من خطر جسيم على كيان الشعب التونسي العربي المسلم فلجأت فرنسا إذ ذاك إلى رجال الدين ليؤازروها في القضاء على شعب كامل فأصدروا بالفعل فتوى أدعوا فيها أن المتجنس لا يعد كافرا ويجوز دفنه في مقابر المسلمين فصدع الحبيب بورقيبة بأن هؤلاء الرجال خونة يتاجرون بالدين ولا يمثلون الإسلام والمسلمين ووجه نداءاته للشعب ليدافع عن مقابره فهب الشعب لندائه ولما مات عدد من المتجنسين في مختلف أنحاء القطر أحتل الجماهير المقابر للذود عنها ومنعوا القوات العسكرية الفرنسية من دفن هؤلاء المتجنسين بها وكثرت هكذا المصادمات الدامية وخاصة بمدينة المنستير حيث استشهد عدد من الوطنيين وجرح منهم عشرات ولما رأى أعضاء اللجنة التنفيذية للحزب الحر الدستوري نشاط هؤلاء الشبان ومقدرتهم وألتفاف الشعب حولهم عقدوا مؤتمر الحزب (١٢ و١٣ مايو ١٩٣٣) وقرر المؤتمر بالإجماع قبول هيئة جريدة العمل التونسي في اللجنة التنفيذية كما قرر تحت تأثير هؤلاء الشبان أن سياسة التفاهم مع فرنسا قد فشلت فشلًا ذريعا بعد تجربة دامت سنوات طويلةوأن غاية الحزب التي يعمل لتحقيقها هي تحرير البلاد ومنحها دستورا يحفظ شخصيتها ويحقق لها سيادتها بين الأمم المتمدنة المتحكمة في مصيرها.
وإذا بالحزب الحر الدستوري الذي كاد يضمحل فلم يبق منه غير الإسم مدة الفتور والركود يجدد تجديدا عميقا تحت تأثير عنصر النشاط والحياة وشعر الشعب كله ببعث وطني قوي ونشاط وعمل جدي لا يفتر وأتجاه واضح في الصمود في وجه المستعمر ومقاومته مقاومة فعالة والشيء الجديد هو شعور الشعب بأن الحبيب بورقيبة ورفاقه على استعداد تام للتضحية وتحمل الأخطار والعذاب في سبيل بلادهم فازداد الشعب حماسة في مقاومة التجنيس ويقظة في المحافظة على مقابره خوفا من أن يدفن فيها متجنس إلى أن اضطرت الإقامة العامة الفرنسية إلى النزول عند إرادته وإذا بها تأخذ قرارين في آن واحد فتكون مقابر خاصة بالمتجنسين من جهةولكنها من جهة أخرى تصدر أمرا بحل الهيئات السياسية التونسية أي الحزب الحر الدستوري وبتعطيل الصحافة الوطنية ولم يدم الوئام داخل اللجنة التنفيذية للحزب بين عناصر الشباب الناشط الجدي وبين الشيوخ المؤسسين للحزب بل أحتد الخلاف واستفحل لأتفه الأسباب ولم يمكن حسمه فاجتمع إذ ذاك مؤتمر عام نظامي للحزب بمدينة قصر هلال مارس ١٩٣٤م ليكون حكما بينهم وحضره رجال الحزب ونواب عن كافة فروعه ومنظماته وتيقن إذ ذاك شيوخ الحركة أنه أُسقط في أيديهم وأن الأغلبية الساحقة مع الشبان العاملين فامتنعوا عن الحضور وأنتخب المؤتمر هيئة إدارية وتنفيذية جديدة سُميت بالديوان السياسي وأختار الحبيب بورقيبة أميناً عاما للحزب وسمي الحزب الحر الدستوري التونسي منذ ذلك العهد بالدستور الجديد أي المتجدد كما أطلق اسم الدستور القديم على جماعة الشيوخ الذين أبوا حضور مؤتمر قصر هلال وسار الحزب الجديد قدمًا في أعماله ونشاطه المتزايد بأندفاع وحماسة وأتصل قادته بالشعب اتصالًا متينًا وثيقًا لإيقاظ الشعور الوطني فيه وإحياء الوعي القومي في نفسه وتدريبه على الحياة السياسية العملية.
ووصل تونس إذ ذاك الطاغية بيروطون كمقيم عام وأظهر استعدادًا للتفاهم بإعطاء ترضيات طفيفةوسعى لإخماد نشاط الحزب ببعض الوعود ولم يقيد عمل رجاله ظنا منه أن الخلاف بين التونسيين سيشتد وأن الخصومة بينهم تريح فرنسا وإستعمارها منهم جميعا لاشتغالهم ببعضهم وإذا بالحبيب بورقيبة وصحبه يغتنمونها فرصة لمضاعفة عملهم فأصدروا جريدة العمل وعقدوا الإجتماعات العامة في أكثر مدن المملكة وقراها وجرفوا وراءهم الشعب جرفا فلما رأى بيروطون خطر هذه الحركة الجبارة أراد محوها فألقى القبض على قادتها ونفاهم إلى برج القصيرة بالصحراء وكانت موجة من الإضطهاد لم يسبق لها نظير وكان رد الفعل من الشعب عنيفا شديداً فعمت الإضطرابات في القطر التونسي كله وخرج الجماهير في مظاهرات كبرى وأعلنوا الإضرابات العامة وتعددت الصدمات الدامية بين الشعب والقوات الفرنسية المسلحة وكانت أقواها بالمكنين وقصر هلال وطبرية والبرجين ونفطة ومنزل تميم وأستمر التشويش عامين كاملين حتى أُجبرت فرنسا على تغيير سياستها فأختار رجال الواجهة الشعبية بفرنسا الذين كانوا على وشك استلام الحكم بها أرمان جيون لتعويض بيروطون الطاغية في الإقامة العامةودخل تونس في أبريل ١٩٣٦م فبادر بإطلاق سراح القادة المعتقلين وأطلق الحريات العامة فاستأنف الحزب نشاطه بأندفاعه المعهود وجدد فروعه في أكثر المدن والقرى وأصدر صحفه وخاصة جريدة العمل وبث دعاته في كل جهة وساعد على تجديد الحركة العمالية وإحياء النقابات التونسية وتعددت حوله جمعيات الكشافة والشباب وقام زعيم تونس الحبيب بورقيبة بسفرتين إلى باريس (١٩٣٦ م) لنشر الدعوة لفائدة بلاده وإقناع الدوائر الفرنسية الرسمية بإرضاء رغبات الشعب وكان الطلب الرئيسي في الرغبات المستعجلة منح تونس برلمانًا وحكومة مسئولة أمامه وكان لعمل الحبيب بورقيبة نتيجةإذ حصل على بعض الوعود التي لم تُنجز ولكنه أقنع الوزير فيانو بنظريته فرأى فيانو من المحتوم عليه أن يزور تونس وألقى خطابا في مذياعها اعترف فيه بأن الشكوك تحوم حول الإدارة الفرنسية بهذه البلاد وأعلن عن وجوب إصلاح الإدارة التونسية وإشراك التونسيين في إدارة شئون بلادهم وإذا بالحكومة الفرنسية تقصي الوزير فيانو عن منصبه تحت تأثير العناصر الاستعمارية وحملة الجالية الفرنسية بتونس وغيرت فرنسا سياستها منذ ذلك الحين من غير مبرر وأصدر المقيم العام أوامره بتعطيل الحريات وخاصة حرية الاجتماعات فعقد الحزب مؤتمره السنوي فى نوفمبر ١٩٣٧م الذي قرر متابعة الكفاح وافتكاك الحريات إذ الحرية لا توهب وإنما تؤخذ ورد العدوان بالعدوان والعنف بالعنف ووضع خطة للمقاومة وحلَّت بالمغرب كله موجة شديدة من الاضطهاد الاستعماري وبدأت بمراكش ثم الجزائر فأعلن الحزب تضامن تونس مع شقيقتها وقرر أن يقوم شعب تونس بإضراب عام فى نوفمبر ١٩٣٧ احتجاجاً على سياسة فرنسا التعسفيةثم إنه تمادى في نشاطه العادي وأجتماعاته الشعبية الكبرى رغم تحجيرها تنفيذا لقرار المؤتمر إذ الاتصال بالشعب ضروري حيوي بالنسبة للحركة الوطنية وما منع الإجتماعات إلا فصل قاطع بين القادة وبين الشعب وإخماد للروح القومية وقتل محتوم للحزب ووقع أول اصطدام عنيف بين القوات الوطنية والقوات الفرنسية المسلحة بمدينة بنزرت فى يناير ١٩٣٨م و أستشهد فيها عدد وافر وجرح عشرات فاجتمع المجلس الملي للحزب في شهر مارس ١٩٣٨م وقرر بالإجماع عدم الرضوخ للقوانين الظالمة والأوامر الإستعمارية الإستثنائية وقد وصلت الوقاحة والصلف بالسلطات الفرنسية إلى تحريم رفع العلم التونسي أو اتخاذه شارة تفرق قادة الحزب في مختلف جهات المملكة ليقودوا الشعب في كفاحه وليعلموه التمرد على القوانين الإستعمارية وكانت واقعة وادي مليز ٤ أبريل ١٩٣٨م عنيفة دامية ورد الوطنيون هجوم القوات الفرنسية واشتبكوا معهم في معركة دامت أكثر من نصف يوم وسقط الشهداء عشرات والجرحى مئات وأنتشرت الإضطرابات والاصطدامات إلى جهة الكاف وكان يوم ٨ أبريل يومًا مشهودا أضربت فيه المملكة التونسية عن العمل تنفيذا لقرار الديوان السياسي فتعطلت المصالح العامة وتوقفت المواصلات وأُغلقت الأسواق والدكاكين وشلت حركة المواني ونزل الشعب إلى الشوارع في مظاهرات منظمة رهيبة وبلغ عدد المتظاهرين والمتظاهرات في مدن القطر وقراه أكثر من مليون نسمة حسب الإحصاءات الفرنسية نفسها وهو عدد ضخم بالنسبة لبلاد لا يزيد سكانها على الثلاثة ملايين ونصف ورغم كثرة الناس لم يقع ولا حادث بل كانت السكينة والنظام يسودان الجماهير وإنه لنجاح باهر أحرزه الحزب الدستوري الجديد فحقق هدفه الرئيسي الأول وهو إيقاظ الضمير القومي وبث الشعور الوطني في جميع الطبقات وتوحيد صفوفها لمكافحة الاستعمار وقد تنبأ أحد أقطاب الاستعمار من دعاة النظرية الاستعمارية القائلة بوجوب فرنسة المغرب وتونس خاصة تنبأ باستفحال الحركة الوطنية ودعا لاستئصالها قبل أن تفوز…. الدستور بالنسبة للحماية الفرنسية كالمرض المزمن عند الرجل الكهل فإما أن يتخلص من مرضه وإما أن يقتله المرض ولم تقدر الحماية الفرنسية على التخلص من الحزب الحر الدستوري التونسي الذي أصبح الشعب التونسي بأسره.
ولما شاهدت السلطات الفرنسية الخطر الداهم الذي يهدد استعمارها بيتت أمرها بليل وتآمرت على شعب تونس الأعزل وألقت القبض يوم ٩ أبريل صباحاً على علي البلهوان وبثت أعوانها بين الطلبة وفي الأسواق ليعلنوا ذلك الخبر وتجمهر الشعب أمام المحكمة الفرنسية ليخلِّصوا أحد قادتهم من السجن وقد كمنت القوات الفرنسية المسلحة في جوارها واندفعت من مكمنها تحصد الشعب حصدا بأسلحتها النارية السريعة الطلقات وهاجمت الدبابات والمصفحات الجمهور الأعزل من ناحية أخرى فكانت أدمى مجزرة عرفتها تونس مئات من القتلى ومئات أخرى من الجرحى.
وأُلقي القبض على الزعيم الحبيب بورقيبة وهو مريض في فراشه وصدرت الأوامر من الإقامة العامة الفرنسية بتعطيل الحريات كلهاوحل الحزب الدستوري التونسي وأُعلنت الأحكام العرفية في البلاد وانتشر الجيش الفرنسي يقتل ويعذب ويعتدي على الناس في الشوارع ويهاجمهم في بيوتهم وينتهك الحرمات ويفسد الأرزاق ويعيث فساداوغصت السجون والمعتقلات بعشرات الآلاف من الوطنيين وأخذت المحاكم العسكرية تصدر أحكامها بالإعدام والأشغال الشاقة المؤبدةوالسجن على مئات من التونسيين وابتدأت المحنة الكبرى التي دامت خمس سنوات لم يعرف شعب تونس خلالها غير البطش والطغيان ولكن الشعب لم يستسلم ولم يخنع بل أستمر عدة أشهر في مقاومة شديدة عنيفة دامية لأن عمل الحزب كان عميقًا بقدر ما كان منتشراوقد بلغت كلمات الحبيب بورقيبة إلى القلوب إذ كانت وصيته التي كررها في كل اجتماعا ليست الوطنية تصفيقا وهتافا وأناشيد وحضور الاجتماعات في حالة السلم ووقت الراحة إنما الوطنية عقيدة وإيمان بحق كل فرد في الحياة والتمتع بالحرية والسيادة في بلاده الوطنية سعي وعمل وصبر وثبات وقت الشدة والكفاح ووجدت المقاومة بعد حين دماغها المسيِّر وعقلها المدبر وبطلها الجسور عندما رجع الدكتور الحبيب ثامر من فرنسا فأخذ قيادتها ونظم الحركة الوطنية خفيةوشكل شعبا للحزب سريةوجمع الشتات وكتل القوات وأحدث المواصلات بين الجماعات المكافحةفكانت نشرات الحزب توزع في يوم واحد في جميع أنحاء القطر التونسي وازدادت هكذا الحركة انتشاراً وشدة حتى اضطرت فرنسا إلى التخفيف من اضطهادها وصدرت بعض الصحف الوطنية إذ ذاك من بينها تونس الفتاة وجريدة تونس ولما أزيع رئيس الحكومة الفرنسية إيدوار دلادييه على زيارة تونس ردا على إيطاليا التي أظهرت أطماعها فيها جهرة اغتنمها الحزب فرصة ليلفت أنظار الرأي العام العالمي للمطالبه في الحرية والاستقلال وأصدرالحبيب أوامره للشعب الدستورية السرية جميعها فاقتبل الرئيس الفرنسي بمظاهرات شعبية صاخبة تعلوها اللافتات الكبرى تحمل رغبات الشعب في إطلاق سراح الزعماء والحرية والاستقلال وتتصاعد منها الهتافات بحياة تونس حرة مستقلة وحيثماصار إلا وأصمت آذانه صيحات الجماهير وكانت أروع المظاهرات ببنزرت وباردو وتونس وصفاقس وكانت كل مظاهرة تتبعها موجة من الاعتقالات والمحاكمات وما شهرت الحرب حتى اشتد الاضطهاد وعم القمع فانقلبت حركة المقاومة إلى حركة مقاومة عنيفة فدمرت مصالح الفرنسيين وحرقت ضيعاتهم وقطعت سكة الحديد مرارا وتكرارا وكذلك أسلاك التليفون وأعمدته ووسائل المواصلات وخاصة التابعة منها للجيش الفرنسي.
وأعلن الجنود التونسيون الذين أدمجتهم فرنسا في جيوشها حركة العصيان وإمتنعوا عن الدفاع عن الأرض الفرنسية وثار المرابطون منهم بالقطر التونسي وإستولوا على مدينة القيروان وشوشوا مدينة قابس فحاربتهم فرنسا ولم تلن في قمعهم ثم جردتهم من كل سلاح وسجنتهم في الثكنات لا يفارقونها خلال الحرب ولم تكتف السلطات الفرنسية بالاضطهاد العام وإعتقال الوطنيين بالجملة حتى غصت بهم المعتقلات والسجون واكتظت سجون الجزائر نفسها ونقلت عددًا منهم إلى سجون فرنسا بل عمدت إلى أنواع من التنكيل والتعذيب كان يظن أن التاريخ طواها مع القرون المظلمة والعصور المتوحشة قبل أن يرأها بأعينه في أجسامهم وكانت الحرب إذ ذاك تطحن القسم الأكبر من آسيا وأوروبا وأفريقيا والقوات الألمانية في مدها متقدمة قبل أن يأتيها الجزر وكانت عواطف غالب العالم العربي إلى المحور أميل وعن الحلفاء منحرفة لما ناله من بعضهم من ظلم وعدوان وأستعمار وقد رأى شعب تونس قوات الجيوش النازية تحتل باريس وترغم أنف فرنسا وتتغلب عليها قهرا في أيام معدودات فانساق جزء كبير من التونسيين مثقفين وعمالًا وأغنياء إلى حب الألمان والشماتة بخصمهم المنهار ولكن الحبيب بورقيبة رأى خطر الاندفاع العاطفي فعدد الإنذارات إلى تونس وسانده رفاقه المساجنين معه لإبعاد التونسيين عن الإرتماء في أحضان المحور لكن السياسة الرشيدة لا تقام على العواطف ولا تنقاد للأهواء ولكنها تسير حسب مصالح الوطن العليا فماذا تنتظر تونس من المحور غير تقديمها هدية إلى موسوليني والجميع يعلم ما فعله الإيطاليون عامة والفاشيون خاصة في ليبيا فليس من الرشد في شيء أن تخرج تونس من إستعمار فظيع لتقع في إستعمار أفظع أضعف ذلك إقتناعهم بهزيمة المحور وينبغي لتونس ألا تكون في شق المغلوبين وقد تحققت تنبؤات الحبيب بورقيبة كلها فلما أخرجهم الألمان من سجون فرنسا سلموهم إلى الطليان وجرت محادثات مع المسئولين هناك فلم نقبل كأساس للمفاوضة إلا الاعتراف حالًا باستقلال تونس وتسليم النفوذ بها إلى التونسيين فأجاب نائب وزير الخارجية الإيطالية هل تظنون أن إيطاليا خاضت الحرب لتهب لكم تونس وهي إنما تريدها لنفسها ففسدت العلاقات منذ ذلك اليوم بين القادة الوطنيين وبين الحكومة الإيطاليةولما رجعوا إلى تونس أسرعوا إلى بث فكرة الحياد ثم الإتصال مع ممثل أمريكا لدى السلطات التونسية القنصل دوليتل خلال واجهة القتال فكان أكبر عون لهم فيما بعدوكان هكذا اختيار القادة لمعسكر الحلفاء رغم وجود فرنسا بينهم أكبر ضمان لحياة الحركة الوطنية وبقائهاواستمرارها وما أن انتهت الحرب العالمية الثانية حتى تعالت أصوات الشعوب المغلوبة على أمرها وصرخ مئات الملايين من البشر مطالبين بحقهم في الحرية والاستقلال وأكتسحت موجة التحرير القسم الأكبر من آسيا وكأنها توقفت قليلًا عند حدود أفريقيا وكان ميثاق الأطلنطي ثم ميثاق سان فرنسيسكو ثم تأسيس الأمم المتحدة مبعث الآمال الجسام والدليل على أن الموازنة العالمية قد تغيرت وأن أوروبا الغربية المستعمرة لم تبقَ صاحبة الكلمة النافذة والسيطرة المطلقة على البحار السبعة والقارات الخمس بل أصبحت هي نفسها بين عملاقين عظيمين روسيا الشيوعية في الشرق والولايات المتحدة الأمريكية في الغرب فما هو حظ تونس يا ترى من هذا الانقلاب العالمي فقد ساعدت الظروف العالمية بعض الشعوب على نيل استقلالها الأسمى ولكن الاستقلال الحقيقي لا يوهب ولا يعطى إنما يؤخذ ويفتك ولا يحصل عليه من الشعوب إلا من كان أهلًا له وقد قطع الشعب التونسي سيره نحو الاستقلال فتغلغلت الفكرة الوطنية في نفسه وبلغت الدعوة جميع الطبقات واكتسحت المدن والقرى والبوادي ولم تبق مجرد عاطفة وحماسة واندفاع بل تبلورت العاطفة في فكرة واضحة جليةوفهم الشعب في مجموعه أن الروح الوطنية ترمي إلى عمل إيجابي وبناء وتشييد في جميع الميادين وتكوين قوة فعالة لإنجاز تلك المشاريع بقدر ما ترمي إلى سد الأبواب في وجه الخصم الاستعماري اللدود ومكافحته دومًا واستمرار مكافحة لا تنقاد للبغض الأعمى والكراهية المتنطعة بل فيها التمييز الواضح بين حاملي الفكرة الاستعمارية وغيرهم من الفرنسيين أنفسهم وأن لا عدو غيرهم فيعمل على جلب بقية الجاليات الأجنبية وأستمالتها ويسعى لإقناع الفرنسيين الأحرار ليكونوا أعوانًا له ودعاة لقضيته العادلة فأقام شعب تونس الدليل تلو الدليل على أنه بلغ رشده السياسي واكتمل وعيه القومي وتعمق في شعوره الوطني وأصبح يتفهم أدق المواقف السياسية ويوجه ضرباته إلى خصمه الوحيد الإستعمار وأنصاره وبعد جهاد مرير مستمر خاضه وراء حزبه الحزب الحر الدستوري طيلة عشرين سنة صبر وصابر وثبت وغامر فيها أصبح لا يخشى عليه من التفكك والابتلاع واقتنع أنه شعب عربي مسلم صاحب مجد خالد ومدنية خالدة وتاريخ عظيم وأعرب عن إرادته الراسخة في أن يحيا حياة العزة والكرامة وأن يقيم على تراثه الباقي مجتمعاً جديدًا ونظاما حديثا ومدنية تماشي روح العصر الحاضر ففي إمكان القوة الإستعمارية الغاشمة العمياء أن تزهق الأرواح وتعذب الأشخاص وتفسد الأقوات والأموال وتخرب البيوت وفي إمكانها أن تسجن الأجسام وأن تضيق عليها ولكن يستحيل عليها أن تقتل الفكرة الحرة الطليقة التي تعددت بتعدد معتنقيها ونمت وانتشرت وسكنت النفوس التي لا تسجن وتغلغلت في القلوب التي لا تغل وأصبحت عقيدة وإيمانًا لا يقتلع ومنذ ذلك الحين شرعوا في المرحلة الثانية الأساسية وهي معركة افتكاك النفوس السياسي ونقله من يد الفرنسيين إلى أيدٍ تونسية وهو عمل إيجابي صعب محفوف بالأخطار لأن الاستعمار الفرنسي توغل في البلاد وتغلغل ورمى عروقه في أرضها وانتشر على سطحها فالمراكز الرئيسية في الإدارات التونسية كلها ومعاقل النفوذ والسلطة بها في قبضة الفرنسيين حتى إنها أصبحت آلة مسخرة لخدمة مصالحهم والمحافظة على امتيازاتهم المجحفة والتشريع وسن القوانين في أيديهم أيضا قد مكنهم من إعطاء اعتداءاتهم المتوالية صبغة قانونية وطلاء شرعيا كاذباً والمال الذي تخضع له الرقاب وتقوم عليه الأعمال في تصرفهم إذ إنهم يتحكمون في الميزانية التونسية دخلًا وخرجا كما تمليه عليهم أهواؤهم ومصالحهم ثم إن الاستعمار الفرنسي مال إلى نفوس قسم من التونسيين يدنسها ويفسدها بل يختار أسقط الناس وأحطهم خلقا وأطوعهم لإرادته وشهواته وإن كانوا خلوا من كل ثقافة أحيانًا فاقدين لكل ضمير فيتخذهم أعوانًا أذلاء خانعين ويسند إليهم المناصب العالية والوضيعةويطلق يد أطماعهم في أرزاق الناس ويفتح لهم أبواب الارتشاء على مصراعيها ويجعل من عباد الدرهم والدينار الذين يسيرون في ركب كل قوي جبار ويميلون مع النفوذ حيث مال كالظل التابع لصاحبه صنائع له ومريدين فيكون زمرة من الخونة المارقين قد تعودوا الخيانة ومرنوا على الغدر والنفاق حتى إنهم أسرعوا إلى خيانة أسيادهم الفرنسيين عندما احتلت جيوش المحور تونس وباتوا أكثر نازية من الألمان أنفسهم وقد انتقم الفرنسيون من بعضهم وحكموا عليهم بالإعدام كعلي بن ضياف الذي كان عاملًا متصرفا أو مديرا في الجنوب التونسي أثناء الحرب ثم عفواً عنهم وأرجعوا أكثرهم لمناصبهم وهؤلاء هم أصدقاء فرنساثم إن الإستعمار الفرنسي بقي بتونس سبعين سنةفوجد من الوقت ما يكفيه لمعرفة سهولها وجبالها وقراها ومدنها والمراكز الاستراتيجية المهمة فيها والطرق المتحكمة حربيا في أجزائها فاحتلها جميعا بقواته العسكرية وبث البوليس الفرنسي في كل مكان وجعل من الجندرمة أي الدرك الوطني الفرنسي أسيادًا يسيطرون على داخل المملكة كلها بدعوى المحافظة على الأمن وبنى لهم من الميزانية ثكنات كالقصور في كل مكان وأغدق عليهم من مال التونسيين ما يمكنهم من شراء الضمائر وتكوين العيون في الأسواق وأحياء القبائل وغياض المزارعين والفلاحين فتمكن هكذا من الإستيلاء على القطر التونسي استيلاء عسكريا بوليسيا شديدا محكما وينبغي ألا ننسى أن الفرنسيين استحوذوا شيئا فشيئا على جميع الميادين سياسية وإدارة وتعليماواقتصادا وزراعة وتجارة وكادوا يقفلونها في أوجه التونسيين ويحرمونهم من كل نشاط ما عدا الاشتغال كعمال عند الفرنسيين ولكن التونسيين لم يستسلموا في أي ميدان وقاوم كل جماعة منهم لإثبات وجودهم وضمان حياتهم حتى جاء الحزب فوحد الجهود ونظم الصفوف واتخذت إذ ذاك المقاومة شكلًا جديدا متناسقا لإيقاف ذلك التيار الجارف والموت الداهم تلك هي بعض الصعوبات الرئيسية التي يجب التغلب عليها وذلك هو الإستعمار الذي تعززه فرنسا بأموالها وجيشها وقوات مستعمراتها فكيف يمكن صدها عن تونس ومحوها فلا بد إذن من التفكير الرصين لتوفير أسباب النجاح واجتناب ما أمكن من أسباب الخيبة وشروط النجاح ثلاثةأولها إعتماد الشعب على نفسه حتى يكون من ضعفه قوة ومن تشتته وحدة ويغذي في أبنائه روح التضحي وثانيها تكوين عطف عالمي من الشعوب والحكومات لتساند تونس في قضيتها وثالثها اختيار الظروف العالمية الملائمةليس من باب الصدفة أن صرح الصحفي الفرنسي الشهير جان روس فقال أغرب ما أحدثه الحزب الدستوري بتونس أنه كون رجالًا أحرارًا مستقلين في تفكيرهم في بلاد لا تتمتع بالحرية ولا بالاستقلال ولم يعرب عن رأيه هذا إلا بعد أن زار أغلب جهات المملكة التونسية بصحبة الحبيب بورقيبة وجالس جميع الطبقات وتحدث مع جميع الأوساط من مثقفين وتجار وعمال وفلاحين وغيرهم ولقد تعجب مما شاهده وسمعه وأن ملاحظاته تنبئ عن أمر واقعي محسوس كان نتيجة لعمل دام عشرين سنة وجه الحزب أثناءها عنايته إلى تكوين الفرد التونسي وتبديل نفسيته حتى أيقظه و دربه وصيره عضوًا عاملًا صالحًا في المجتمع عارفا بواجباته وحقوقه مميزًا لأدق المواقف السياسية متفطنًا لألاعيب الإستعمار وأذنابه معتمدا على نفسه وقد كانت الثورة الوطنية الكبرى في النفوس والعقول فأذهبت عنها الجمود والركود وخلصتها من الخوف والأوهام وعبادة التقاليد البائدة وأحيتها من جديد فكأنها بعثتها بعثا وغيرت في نظرها سلم القيم حتى آمنت بأن الموت أفضل من حياة الذل والهوان وأن حياة بلا كرامة شخصية ولا عزة وطنية ولا ضمان للعيش ولا حرية فردية وجماعية إنما هي الموت نفسه بل أشنع منه لأنها تنزل بالإنسان إلى مستوى الحيوانات والبهائم حقًّا إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وقد غيَّر التونسيون ما بأنفسهم ثم انقلبت تلك الثورة النفسية إلى ثورة دامية لا تعرف الكلل ولا الملل في شعب اشتهر بلينه وهدوئه ولطفه

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى