
سليمان التمياط | السعودية
ذات لحظة غير مرئية، لا في الزمن بل في الوعي، جلس الإنسان على عتبة تفكيره…كان يتأمل الحياة، يحاول أن يلتقط معناها من حوله، فلم يجدها. فأدار البوصلة إلى الداخل. وهناك، في عمق الذات، بدأت الفكرة تزهر… أولًا كانت مجرد تأمل، ثم صارت رأيًا، ثم صعدت درجة درجة، حتى أصبحت قناعةً يسكنها وكأنها وطن.لكنه لم يدرك أنه بذلك بدأ فكرنة الحياة.
أن تتحوّل الحياة إلى فكرة، معناه أن تفقد طزاجتها. أن يُعاد تشكيلها ضمن قوالب العقل، وأن تُخنق في نظام. وهذا ما تفعله الأيديولوجيا: تسرق الحياة من سياقها العفوي، وتُلبسها معنى جاهزًا، صارمًا، لا يقبل التفاوض. الأدلجة ليست فعلًا خارجيًا فقط، بل عملية صامتة تحدث في الداخل، حين يعجز الفكر عن التوسّع فيضطر إلى الانكماش… إلى التحصّن داخل فكرة.
___
الفكرة التي تصبح حياة… ثم سلاحًا:
الإنسان كائن يبحث عن المعنى، وهذا ما يجعله مؤدلَجًا من حيث لا يدري. يبدأ صغيرًا يتشرّب ما يُلقى عليه، ثم يكبر ليختار ما يظنه اختياره، لكنه يظل يتحرّك داخل إطارات مسبقة. حين تتكرّر تجربة ما وتُشبع وجدانه، تتحوّل إلى فكرة، ثم إلى إيمان. وهنا تكمن الخطورة: الإيمان بالفكرة لا يترك مجالًا لرؤيتها من الخارج، بل يعيد إنتاج العالم كله من خلالها.
ولأن كل مؤدلَج يرى في فكرته حياة، فإنه يسعى لنشرها، لا بدافع السيطرة، بل أحيانًا بدافع “النجاة الجماعية”. فهو يرى أن ما أنقذه يجب أن ينقذ الآخرين. لكنه لا ينتبه إلى أن ما يناسب روحه قد يخنق أرواحًا أخرى.
____
حين تخذل الفكرة صاحبها… يتحدث الجسد:
في صراعات الأفكار، لا تصمد دائمًا الكلمة. وعندما يشعر صاحب الفكرة الأضعف بأن حجّته لا تصمد، يلجأ إلى أدوات أخرى: الصوت المرتفع، العضلات، المال، الدين المؤدلج ، الإعلام، أي شيء سوى الفكرة نفسها. وهنا تتحوّل الأدلجة من قناعة إلى قمع، ومن إيمان إلى عنف رمزي أو مادي. تصبح الفكرة حصان طروادة، يدخل بها ليحتل الإنسان الآخر.
_____
تفتّت الحياة إلى جزر فكرية:
عبر هذا المسار، لا تتعدد الآراء فحسب، بل تتكاثر الحيوات داخل الحياة. كل جماعة تبني عالمها الخاص، قيمها، جنتها ونارها، صوابها وخطأها. وتتكوّن “حيوات بالأفكار” تعيش تحت سقف حياة واحدة، لكنها لا تلتقي، بل تتصادم. لا لأن الاختلاف خطيئة، بل لأن كل طرف بات يرى فكرته ليست فقط على حق، بل هي “الحقيقة”.
_____
هل يمكن النجاة من فخاخ الأدلجة؟
النجاة لا تكمن في قتل الفكرة، بل في تحريرها من القداسة. أن نحمل أفكارنا بأطراف الأصابع، لا بالأظافر. أن نمنحها الحق في الشك، في التطور، في الخروج منّا دون أن نعتبرها خيانة.
ربما لا نملك الخروج الكامل من الأدلجة، لكننا نملك الوعي بها. وهذا كافٍ لنحيا الحياة… لا كأيديولوجيا، بل كمساحة حرة تتسع لفكرة اليوم، ونقيضها غدًا.